هل تقود نظرية الرجل المجنون التي يعتنقها ترامب أمريكا للحرب؟
قال جون بولتون: «لقد أوضح الرئيس موقفه تماماً، وفي الأسابيع والأشهر المقبلة، سنرى ما سيحدث»، كان هذا أحد التهديدات الأمريكية بالحرب.
بيد أنَّ بولتون لم يُدلِ بهذا التصريح في الأسبوع الجاري، ولكن في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2002، حين كان وكيل وزارة الخارجية، وليس مستشار الأمن القومي. ولم يكن تصريحه متعلقاً بإيران أو فنزويلا أو كوريا الشمالية، بل العراق.
وبعد مضي سبعة عشر عاماً، ما زالت الإدارة الأمريكية تتعامل مع تداعيات تكفُّل الرئيس الأسبق جورج بوش الابن بإسقاط الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. وما زالت تتعامل معها، ومع معظم الأزمات المستمرة الأخرى، بنفس الأشخاص تقريباً، حسبما ورد في تقرير لشبكة “سي أن أن” الأمريكية.
ما الفارق بين ترامب وبوش؟، لقد ترك الأمر لمستشاريه المحبين للحروب
الفارق الرئيسي أنَّ الرئيس الحالي دونالد ترامب لم «يوضح موقفه تماماً»، بل ترك السياسة الخارجية يتنازع عليها حفنةٌ من المسؤولين الجمهوريين الذين يُفضِّلون حل الأزمات بالحروب.
لقد كان الأسبوع الماضي حافلاً، إذ بدا أنَّ إدارة ترامب ترغب في التعجيل بهجومٍ على إيران استغرق من إدارة بوش حوالي عامين لتشنه ضد العراق. وبعد ذلك، سُرِّبَت معلوماتٌ استخباراتية تشير إلى أن إيران كانت تشحن صواريخ بطريقة تهديدية، ثم قلَّل ضابطٌ بريطاني بارز من شأنها.
وكذلك سرِّبت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية كلاماً عن خططٍ لإرسال 120 ألف جندي إلى المنطقة، وهو ما نفاه ترامب نفسه واصفاً إيَّاه بأنَّه «أخبار كاذبة» وأكَّده، في الأساس، بقوله إنَّ الولايات المتحدة إذا أرادت إرسال قواتٍ إلى هناك، فإنها سترسل عدداً أكبر من ذلك بكثير.
ولكنه أصبح محبطاً منهم بعدما أوصلوه لمرحلة خطيرة
ثم ذكر أشخاصٌ مُطَّلعون على المسألة يوم الخميس الماضي 16 مايو/أيار أنَّ ترامب يشعر بالإحباط من سعي مستشاريه المتحمسين للحروب إلى شنِّ حربٍ على إيران. وبعد ذلك، ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية أنَّ بعض المسؤولين يعتقدون في الواقع أن إيران ربما كانت تتصرف بطريقةٍ دفاعية حين شحنت الصواريخ، وأنَّها فعلت ذلك خشية التعرُّض لهجومٍ أمريكي.
وأظهرت معلوماتٌ استخباراتية حديثة أنَّ بعض القوارب الإيرانية التي تدعي الولايات المتحدة أنها تحمل صواريخ عادت إلى الميناء وفرَّغت بعض الصواريخ، وفقاً لمسؤولين أمريكيين على درايةٍ بتلك المعلومات. وقال المسؤولون إنَّه ليس من الواضح ما إذا كانت الصواريخ قد وُضِعت في المخازن لإبقائها مخفيةً عن الولايات المتحدة أم لإعطاء إشارةٍ إلى وقف التصعيد.
ترامب يعتنق نظرية الرجل المجنون
لكنَّ الموقف عاد إلى ما كان عليه مرةً أخرى، في ظل تشتُّت انتباه واشنطن الذي أصبح شديداً إلى حدٍّ عنيف الآن، لدرجة أنَّه صار من الممكن معارضة المعلومات الاستخباراتية، ومناقشة خطط الحرب، والتهديد بصراعٍ شامل، ثم التراجع عن الفكرة بأكملها، كل ذلك في غضون أسبوعٍ واحد فقط.
وربما يلاحظ العديد من المحللين أنَّ ذلك نتيجةٌ طبيعية لما يُسمَّى بـ»نظرية الرجل المجنون» التي أراد فيها الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون زرع اعتقادٍ داخل خصومه الفيتناميين الشماليين بأنَّه شخصٌ لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، بل وحتى «مجنونٌ قليلاً»، كي يخشوا إغضابه.
وكان منطق نيكسون في ذلك هو أنَّه إذا بدا قادراً على فعل أي شيء، فإنَّ خصومه سيخشون اتخاذ ردود فعل غير مناسبة وغير عقلانية، دون أن يضطر نيكسون إلى اتخاذ إجراء بالفعل.
وهو يتهم الإعلام بكشف كل شيء لإيران
وكما لو كان ترامب يريد إثبات هذه الفرضية، كتب تغريدةً على تويتر في نهاية الأسبوع قال فيها: «الإعلام الذي ينشر الأخبار الكاذبة يؤذي بلدنا بتغطيته المُخادعة غير الدقيقة للغاية بشأن قضية إيران. إنَّه عشوائي وضعيف المصادر (بل يكاد يكون مُختَلَقاً)، وخطراً. على الأقل إيران لا تستطيع تكوين فكرةٍ معيَّنة عن الوضع، وهذا قد يكون شيئاً جيداً في هذه المرحلةَ!».
مستشارو ترامب يحاولون استغلال تقلباته
لكنَّنا نعيش أوقاتاً مختلفة الآن؛ فترامب ليس لديه قضية عالقة في فيتنام يجب حلها، بل إنَّ ما يبرز ببطءٍ من الدائرة الداخلية لترامب في كثيرٍ من الأحيان هو صورةٌ لرئيسٍ يرى مستشاروه أنَّ تقلباته المزاجية تُشكِّل فرصةً لمحاولة تنفيذ أجنداتهم الخاصة، ويأملون في أن ينضم إليها.
وعرض التقرير للعديد من المواقف التي تحدث فيها مستشارو الرئيس بطريقة تشير إلى أنهم يحاولون التعبير عن مواقفهم.
إذ يقول التقرير: تذكروا حين وجَّه مايكل فلين، مستشار الأمن القومي السابق، «تحذيراً رسمياً إلى إيران»، وحين دعم وزير الدفاع السابق جيم ماتيس توجيه قصفٍ قصير مُركَّز ضد النظام السوري، وحين قال وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون إنَّه يعتقد أنَّ الولايات المتحدة ينبغي لها التحدث إلى كوريا الشمالية «دون شروط مسبقة»).
وهكذا يغادر الأشخاص، ويظل الهدف الباقي للسياسة الأمريكية، سواءٌ الحالي أو الماضي، غير واضح. ليس فقط في الشرق الأوسط، ولكن في أمريكا الجنوبية أيضاً.
في فنزويلا ردد الساسة الأمريكيون تهديداتهم بنفس القوة
وقال جون بولتون كذلك: «كل الخيارات مطروحة». وقد كان هذا التصريح في عام 2003 بشأن قضية إيران، لكنَّه صار شعاراً شائعاً مرتبطاً بقضية فنزويلا في العام الجاري.
وهي القضية التي يقود بولتون وبومبيو المساعي الرامية إلى حلِّها وفق هواهما، مكررين قناعة المحافظين الجدد في عهد بوش الذين كانوا يأملون في أن يخضع العالم للنظام الذي أرادوا فرضه، وأنَّ كل ما عليهم هو الرغبة في تنفيذ فكرةٍ ما، ومشاهدتها تتحقَّق. لكنَّ الأمر لم ينجح آنذاك -إذ اضطروا إلى غزو العراق واحتلاله فترةً طويلة قبل أن يتمكنوا حتى من العثور صدام- ولم يفلح أيضاً حتى الآن في فنزويلا.
إذ اعتمدت محاولتهم إطاحة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو -المحاصر والضعيف للغاية بسبب سوء إدارته الاقتصادية وفساد حكومته- على إعلان شرعية رئيس آخر، وقيام حلفائهم بحذو حذوهم، على أمل أن يروا مادورو يهرب خارج البلاد ويتركها.
وربما يكون ترامب قد استحسن تلك الطريقة في البداية -سواءٌ على الصعيد الدولي باعتبارها انتصاراً سهلاً، وعلى الصعيد المحلي باعتبارها خطوةً جاذبة لأصوات المرشحين- لكنَّها فشلت مراراً. وبعد إشارات بومبيو الأوضح إلى أنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تغزو فنزويلا، بدأ البيت الأبيض في تأكيد أنَّ ترامب غير سعيد مرةً أخرى بالسعي إلى دخول حرب في فنزويلا.
إنه يعتمد على نفس مستشاري بوش الذين تسببوا في حرب العراق
وتجدر الإشارة مرةً أخرى إلى أنَّ طاقم الموظفين لم يتغيَّر تقريباً، في ظل تولِّي إليوت أبرامز -الذي سعى بشدة إلى إقناع الإدارة الأمريكية بغزو العراق حين كان مستشاراً لبوش في قضايا الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي- مسؤولية قيادة جهود ترامب لإصلاح الوضع في فنزويلا. وفي عام 2002، قال مسؤولٌ بارز في الإدارة الأمريكية لصحيفة The New York Times إنَّه بالنسبة لأبرامز، «فأيُّ خلافٍ كان في الماضي يظلُّ في الماضي». ولم يكن المقصود آنذاك هو الإشارة إلى دوره في الشرق الأوسط الذي أراد بوش تشكيله، بل إدانته في قضية إيران كونترا.
وتعد قضية فنزويلا هي المرة الثالثة التي تشهد مشاركة أبرامز بصفته مسؤولاً. وفي عام 2003، حين عزَّز بعض المسؤولين صورته في بروفايل لامع عنه منشور بمجلة The New Yorker، أشار شخصٌ ما إلى أنَّ الأشخاص القادمين من خلفية أبرامز الأكاديمية نفسها يميلون إلى رؤية الأشياء من منظورٍ ثنائي فقط، قبل أن يلتحقوا بالحكومة ويدركوا أنَّ الأمور أكثر تعقيداً.
ومع عودة أبرامز إلى المعترك السياسي مرةً أخرى من الأوساط الأكاديمية، سيواجه أموراً أكثر تعقيداً الآن.
ففي أوائل شهر مارس/آذار، قال أبرامز لبعض أعضاء مجلس الشيوخ إنَّ «مادورو واقعٌ في مأزق شديد. وهو محاطٌ من جميع الجوانب بأشخاصٍ يكرهونه، ويتحيَّنون اللحظة المناسبة لطرده». ولكن بعد محاولةٍ فاشلة لجعل كبار ضباط الجيش ينضمون إلى المعارضة، تقبَّل الوضع على مضض، وقال في آخر الشهر الماضي أبريل/نيسان: «يبدو أنهم لن يمضوا قدماً في الوقت الراهن».
إنهم يندفعون تجاه الحرب لأن ترامب ليس لديه سياسة خارجية محددة
هؤلاء المسؤولون الأمريكيون يأملون في تحقيقه بالاعتماد فقط على الخطاب الحاد المشحون. ولا يوجد متابعة رئاسية لهم.
وفي قضايا إيران وفنزويلا، وحتى كوريا الشمالية، لا تُسفر موجة النشاط والتهديدات عن أي شيء جيد، إن لم يكن أي شيء على الإطلاق.
ربما شعرت الزمرة نفسها من المحافظين الجدد بأنَّ لديهم فرصة متوهجة لتحقيق الأهداف التي يتمسَّكون بها منذ عقود بفرض سياسةٍ خارجية على رئيس يُفضِّل ألا تكون لديه أيُّ سياسة.
لذا يندفعون في سبيل تحقيقها، وفي أسبوعٍ كهذا، يمكنك أن تشعر حقاً بأننا نعيش في عام 2002 مرةً أخرى، والتاريخ يتكرَّر كمأساةٍ أكثر دائماً مِمَّا يتكرَّر كمهزلة.
ولكنهم يصطدمون بانعزالية ترامب، فتكون النتيجة تهديدات بلا تنفيذ
ولكن بعد ذلك تظهر الطبيعة الحقيقية لرئاسة ترامب، وهي أنَّها قائمةٌ على الانعزالية، وإنهاء الحروب في أماكن لا تفهمها قاعدته أو تهتم بها.
ومع ذلك، هناك نتيجة دائمة للكلام الطنَّان الفارغ. وهي ستُعزَّز صورةً -ظهرت في عهد أوباما حين تسببت حربا العراق وأفغانستان الدائمتان إلى الأبد في جعل القوة العظمى تتوق إلى الحصول على استراحة- تُبيِّن الولايات المتحدة مُنهكةً ومُفلِسة تُفضِّل أن تدع الآخرين يتولون زمام القيادة.
ترامب يريد أن يتصرف «بطريقةٍ عظيمة»، لكنَّه بالغريزة لا يُنفِّذ تصريحاته. والنظام العالمي الحالي المُتعَب سيتعرض لخطرٍ كبير إذا استطاع خصوم الولايات المتحدة رؤية هذه الموجة -وربما يكونون مُحقين- على أنَّها تُمثِّل ضعفاً دائماً، واتخذوا خطواتٍ لملء هذا الفراغ، متجاهلين التهديدات الأمريكية التي أثبتت مراراً وتكراراً أنها فارغة.