هل ترضي استقالة الحريري الشارع اللبناني؟
قرار رئيس الحكومة اللبناني، سعد الحريري، الاستقالة من منصبه غير مفاجئ. ففي شهر حزيران أعلن الحريري لمقربيه بأنه إذا لم يحصل على دعم للإصلاحات الاقتصادية التي عرضها لإنقاذ الدولة من الأزمة الاقتصادية الشديدة الغارقة فيها، فسيضع المفاتيح على طاولة الرئيس ميشيل عون.
ولكن رغم الانتقاد الشديد لاقتراحاته وغياب تأييد كاف للإصلاحات، قرر في البداية مواصلة منصبه. في الأسبوع الماضي أوضح بأنه إذا ما سفكت دماء في شوارع بيروت فسيستقيل فوراً، لقد سفكت الدماء ولكنه لم يقدم استقالته. أمس، أعلن بأنه وصل إلى “طريق مسدود” ولم يبق أمامه أي خيار عدا الذهاب إلى القصر الرئاسي لتقديم استقالته، وفقا لـ”هآرتس” العبرية.
ولكن “الطريق المسدود” ليس نتاج المظاهرات التي بدأت قبل أسبوعين. لبنان غارق في دين وطني ضخم يقدر بـ 150 في المئة من الناتج القومي الإجمالي، وشركة الكهرباء أعلنت إفلاسها، ومصادر المياه ملوثة، ونسبة البطالة مرتفعة، ووجود أكثر من مليون لاجئ سوري في الدولة يشوش أسسها الاقتصادية ويهز النسيج الاجتماعي – السياسي فيها.
التصدير إلى الدول العربية توقف في أعقاب الحرب في سوريا، والأمل في استخراج النفط والغاز من الحقول في البحر المتوسط متوقف بسبب غياب اتفاق على توزيع المجال الجغرافي الاقتصادي بين لبنان وإسرائيل. إضافة إلى ذلك، فإن المساعدة الاقتصادية التي وعدت بها الدول المانحة لبنان بمبلغ 16.5 مليار دولار، توضع في الجارور إلى حين استقرار الدولة سياسياً.
الشعب يريد تغيير الطريقة
يقد نستغرب سبب تباطؤ المظاهرات في لبنان إزاء الأزمة التي ازدادت خطورة خلال ثماني سنوات منذ اندلاع الحرب في سوريا. صحيح أنه كانت هناك مظاهرات في لبنان، مرة على خلفية نقص تزويد الكهرباء ومرة بسبب فشل جمع القمامة من شوارع المدن الذي اعتبر فشلاً سياسياً، ولكن خروجاً للناس بهذا الحجم شهده لبنان فقط في العام 2005 بعد قتل رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، والد رئيس الحكومة الحالي. يبدو أن المتظاهرين الذين في معظمهم شباب وطلاب وعاطلون عن العمل، يستطيعون تسجيل نجاح بأنهم أدوا إلى استقالة رئيس الحكومة واستقالة الحكومة. بهذا حققوا أحد الأهداف الأساسية للاحتجاج دون سفك دماء ودون جر لبنان إلى حرب أهلية في هذه الأثناء.
ولكن المتظاهرين لا يكتفون بالخطوة التي اتخذها الحريري، بل يريدون تغيير مبنى النظام وسن قانون انتخابات جديد واجتثاث الفساد العميق واستقرار الاقتصاد. تغيير طريقة الحكم الذي يعني إلغاء الحصص الطائفية في مؤسسات الدولة والبرلمان والشركات الحكومية وبالطبع في الحكومة، هو حلم يرافق لبنان منذ التوقيع على اتفاق الطائف في 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية بعد سنة على ذلك.
الدستور الجديد أحدث بالفعل تغييرات جوهرية قلصت الاحتكار السياسي للطوائف الكبيرة. ولكن الطريقة الطائفية عملياً ما زالت تملي المبنى السياسي، وبالتالي توزيع الميزانيات والموارد. هذه الطريقة أوجدت تحالفات غريبة، مثل التحالف الذي عقده ميشيل عون، رئيس الدولة ورئيس حزب “التيار الوطني الحر” المسيحي الماروني مع حزب الله الشيعي. أو دعم جزء من الطائفة الدرزية لحزب الله رغم التحالف بين زعيم الطائفة وليد جنبلاط والحريري.
هذه التحالفات هي التي عملت على بقاء حكومة لبنان، وهي التي خلقت الانطباع المضلل بأن هناك جسماً منتخباً ومتفقاً عليه لإدارة الدولة. عملياً، منذ أيار 2018، عندما انتخب الحريري لولايته الحالية، والحكومة تتصرف مثل حلبة مصارعة فيها كثير من المشاركين. حزب الله أيد تعيين الحريري بالأساس لأنه أدرك بأنه الوحيد الذي يمكنه تمثيل لبنان أمام مؤسسات التمويل الدولية ومنح الدولة صورة محترمة.
عبوة ناسفة سياسية
هكذا وجد التناقض الذي يعتبر حزب الله –بحسبه- منظمة إرهابية في الولايات المتحدة، شريكاً في حكومة تحظى بالدعم الأمريكي. إضافة إلى ذلك، يمكن لحزب الله تحت قيادة الحريري إملاء سياسة الحكومة بتوجيه من إيران ويتمتع بكل المزايا. ومن أجل ترسيخ مكانته السياسية عقد حزب الله تحالفاً مع رئيس الحزب المسيحي الماروني، جبران باسيل.
باسيل الذي يشغل منصب وزير الخارجية في الحكومة اللبنانية، هو أيضاً صهر الرئيس عون. وهو نفسه يسعى إلى أن يكون رئيساً للدولة بعد انتهاء ولاية صهره. وقد تحول إلى عبوة ناسفة سياسية تحبط أي مبادرة حاول الحريري تطبيقها، بالأساس في مجال الاقتصاد. في حزيران ألقى باسيل قنبلتين مدويتين. الأولى، عندما طلب إبعاد العمال الأجانب وإعادة اللاجئين السوريين إلى دولتهم، مثلما يطلب الرئيس السوري بشار الأسد.
القنبلة الثانية هي تصريحه بأنه “يجب إعادة الحقوق السياسية للطائفة المارونية بعد أن داست الطائفة السنية على جثتها”. هذه التعبيرات لم تسمع من قبل وزراء منذ انتهاء الحرب الأهلية في لبنان. وقد طلب باسيل أيضاً إقالة شخصيات رفيعة في النظام وتعيين رئيس جديد للمخابرات الداخلية، وإقالة مدير عام شركة الطيران اللبنانية. باختصار، تحطيم ما سماه بـ “الاحتكار السني” في الدولة.
فرصة جديدة
الدعم الذي يحصل عليه باسيل من حزب الله وميشيل عون وضع الحريري في رواق ضيق وهو مكبل، بدون قدرة على إقالة وزراء أو تشكيل حكومة كما يريد. استقالته واستقالة الحكومة يمكن أن تفتح الباب أمام فرصة جديدة. ولكنها فرصة نظرية، لأنها تقتضي موافقة القوى السياسية على التنازل عن وظائف الوزراء التي لديها والمصادقة على تشكيل حكومة من التكنوقراطيين غير المرتبطين بعلاقة طائفية أو دينية.
أي أن باسيل ووزراء حزب الله لا يمكنهم أن يكونوا أعضاء في هذه الحكومة، مثلما يطلب المتظاهرون ومثلما اقترح الحريري قبل تقديم استقالته. ومشكوك فيه أن يعثروا على هؤلاء التكنوقراطيين طاهري الأيدي والأبرياء من الانتماء الطائفي الذين يستطيعون تشكيل الحكومة. إمكانية أخرى هي أن يتم تكليف الحريري بالوقوف على رأس حكومة انتقالية ضيقة إلى حين إجراء انتخابات جديدة.
هذه الخطوة يمكن أن يؤيدها حزب الله الذي يريد التنصل من المسؤولية عن الفوضى السياسية في لبنان كي لا يقف وحده أمام المتظاهرين. والسؤال هو هل سيوافق الجمهور المتظاهر، الذي شبع من الوعود والإحباط، على الاكتفاء بهذه الخطوات المؤقتة وهو يعلم أن عملية الانتخابات قصة طويلة لا تعد بنتيجة مختلفة أو احتمال إعادة الإعمار الاقتصادي؟
وفي المقابل، لا يوجد لحركات الاحتجاج في هذه الأثناء، قيادة سياسية متفق عليها يمكنها أن تتحمل مسؤولية إدارة الدولة. وفي نهاية المواجهات، تعلم التجربة السياسية في لبنان أنه يمكن التوصل إلى تسوية غير مرضية لأي طرف بأنه، لكنها تسمح للدولة بالبقاء لفترة أخرى حتى الأزمة المقبلة. ولكن من الصعب التعويل على تجربة الماضي إزاء قوة الاحتجاج الذي يمكن أن يتحول في أي لحظة إلى مواجهة عنيفة.