هل أعاد ترامب إحياء سياسة «الاغتيالات»؟
لا تزال تداعيات قرار الرئيس الأمريكي قتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني مستمرة ولا أحد يعرف إذا ما كانت قد انتهت بالرد الإيراني الرمزي أم لا، لكن السؤال الآن إذا ما كان القرار نفسه عشوائياً أم أنه بداية لاتباع سياسة «الاغتيالات» مرة أخرى؟ وهل كان القرار قانونياً؟ وما هي تبعاته السياسية؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: «هل الاغتيال الاستباقي عقيدةُ ترامب الجديدة؟ هل كان اغتيال قاسم سليماني شرعياً؟ ولماذا يهم ذلك؟»، سعى لوضع إجابات على تلك الأسئلة.
تساؤلات قانونية
تثير الواقعة أسئلة عديدة متداخلة تتعلق بالقانون وخطوات سير العملية والسياسة التي اتبعتها، إذ تشهد قضية إقدام إدارة ترامب على اغتيال القائد العسكري الأبرز لإيران الأسبوع الماضي في بغداد مناقشات حامية بشأنها في الكونغرس الأمريكي، بعد أن أصدر المجلس للتو قراراً يتعلق بسلطات الحرب، ويقصد منه تقييد صلاحيات الرئيس الأمريكي المتعلقة بشنِّ أعمال حربية ضد إيران. وفي حين أن الحقائق لا تزال تتكشف، فإن معظم المؤشرات تذهب إلى أن الضربة العسكرية كانت غير قانونية.
إذ لم يكن من صلاحيات المسؤولين الأمريكيين وضع هذا الخيار غير القانوني على مكتب ترامب من البداية، حتى ولو بحساب أنه «خيار متطرف» توقعوا أن يرفضه الرئيس. كما كانت طريقة اتخاذ القرار سيئة على نحوٍ مُريع، ولم تعبأ بتدقيق الجوانب القانونية المتعلقة بالعملية كما ينبغي، وأن تنفيذها على هذا النحو يجحد الكونغرس دوره القانوني والدستوري.
ماذا عن الشق السياسي؟
أمَّا فيما يتعلق بالجانب السياسي، فإن ادّعاء ترامب الذي لا يستند إلى أي أساس بأن إيران، بعد أن ردّت على الضربة، قد «تراجعت واكتفت برد فعلها» الآن لهو ادعاءٌ بالكاد يبرر به فعلته المتهورة. إن اغتيال قادة الدول، وإثارة دوافع الانتقام، ثم تجنب حربٍ مفتوحة لم يكن ثمة داعٍ لها بشق الأنفس، ليس بنجاح استراتيجي.
ويصح هذا على نحو خاص عندما تترك عملية مثل هذه سياسات التعامل مع إيران وقد باتت في مكان أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل خمس سنوات، حينما تفاوضت الإدارة الأمريكية السابقة مع إيران بشأن تعليق برنامجها النووي. والأهم من هذا وذاك، أنه من خلال استخدامه الاغتيال كأداة دفاع وقائية عن النفس، يثير قتلُ سليماني السؤالَ الملحَّ حول ما إذا كان ترامب قد أعادة إحياء العقيدة/المبدأ ذاتها التي ظن كثيرون أنها كانت قد فقدت مصداقيتها بالكامل على إثر الكارثة التي سبّبتها في العراق.
بموجب القانون الحالي، لم يكن ثمة صلاحية من أي نوع لترامب بأن يأمر بقتل أحد أكبر القادة العسكريين لدولة أجنبية ليست الولايات المتحدة في حالة حرب معها. وقبل الضربة، لم تكن الولايات المتحدة مشتركة في نزاع مسلح مع إيران وفقاً لتعريف القانون الدولي. كما أنه ليس هناك مستند للاعتقاد بأن الكونغرس قد صرّح بتنفيذ هذه الضربة بموجب «الإذن باستخدام القوة العسكرية ضد الإرهابيين» الصادر في عام 2002، والذي صيغ لمنح القوات المسلحة الأمريكية الصلاحية باستخدام القوة «ضد التهديد المستمر الذي مثله النظام العراقي» عندما كان صدام حسين الذي رحل منذ زمن طويل رئيساً للعراق.
ولا أحد ينكر أن سليماني خطَّط وأدار الكثير من الضربات العسكرية بالوكالة والعمليات الإرهابية التي جرت على مدى سنوات عديدة. لكن سليماني، وعلى خلاف أسامة بن لادن، الذي كان يترأس جماعة إرهابية غير تابعة لدولة، كان في الواقع ثاني أعلى مسؤول في دولة ذات سيادة. ولم يكن لاستهداف سليماني أن يكون مُسوَّغاً، على غرار استهداف الأدميرال إيسوروكو ياماموتو الذي كان القائد العسكري الياباني لهجوم بيرل هاربر، إلا في حال كانت الولايات المتحدة تخوض نزاعاً مسلحاً جارياً مع إيران.
قتل سليماني إعلان حرب على إيران
وإذا كان قتله ضربة متعمدة بهدف قطع رأس قائد عسكري، فإنها تعادل إعلان الحرب على إيران، والذي يتطلب بموجب بند «إعلان الحرب» في دستور الولايات المتحدة التشاورَ وتشارك المعلومات مع الكونغرس. أمَّا إذا كان قتله المتعمد هو ببساطة بهدف التخلص منه، وليس رداً ضرورياً أو متناسقاً في إطار مواجهة تهديدات بهجوم إيراني وشيك، فقد كان اغتيال دون أساس قانوني، وهو أمر محظور بموجب أمر تنفيذي يرجع زمن إقراره إلى 43 عاماً مضت، في عهد إدارة الرئيس الأمريكي جيرالد فورد.
وحتى إذا صُنِّف سليماني إرهابياً، فقد كان مسؤولاً حكومياً عالي المستوى، وأمثاله تتحرك الدول ذات السيادة ضده عادةً بأدوات الدبلوماسية وفرض العقوبات والتحذيرات، وليس الاغتيال. إذ لا يكفي كونه قائداً عسكرياً لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي صنفته الولايات المتحدة منظمة إرهابية أجنبية، لكي يصبح استهدافه مشروعاً. وقد أتى ترامب بسابقةٍ لم تحدث من قبل، عندما وسّع ذلك التعيين القانوني في أبريل/نيسان 2019، ليشمل وحدة معروفة بكونها جزءاً من جيش لدولة ذات سيادة.
وبحسب ما ورد، كان سليماني في العراق في مهمةٍ دبلوماسية. فكيف سيكون رد فعل الأمريكيين إذا عيّنت دول أخرى فريق القوات الخاصة الأمريكي «سيل 6» أو قيادة العمليات الخاصة المشتركة منظمات إرهابية أجنبية، ثم استهدفتهم خلال تدريبٍ لهم في دولة أجنبية؟ وكيف يصبح الأمريكيون أكثر أماناً إذا كانت بلادهم تُقدم على إصدار الأوامر باغتيال قائد قواتٍ عسكرية نظامية يقوم العمل فيها على سلسلة للقيادة تقتضي التصعيد المباشر لبديلٍ لديه السلطة لتوجيه الأمر بشنِّ هجمات مماثلة لما تعرضت له تلك القوات؟
هل كان فعلاً متوافقاً مع القانون الدولي؟
الأمر الأكثر إثارة للارتياب هو محاولة إدارة ترامب الدفاع عن عملية الاغتيال بزعم توافقها مع قواعد القانون الدولي الخاصة بحق الدفاع عن النفس، مدعيةً زوراً بأنها استندت إلى سوابق من فترة حكم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. إذ لم يكن اغتيال سليماني عملية قتل مشروعة من النوع الذي ينظمه الدليل الإرشادي لغارات الطائرات بدون طيار الذي نشرته إدارة أوباما وبات معروفاً على نطاق واسع. وقد كان واضعو سياسات إدارة أوباما ومحاموها يدركون تمام الإدراك أن الاغتيالات الوقائية تُشعل الحروب، ولا تعمل على إنهائها. ومن ثم، لم تُقدم إدارة أوباما على اغتيال قائد عسكري نظامي في دولة ذات سيادة ضمن أي هجوم عدائي لدعم تغيير النظام في أي بلد.
وإذا كانت إدارة ترامب تدعي أنها، مثل إدارة أوباما والحكومة البريطانية، قد اتخذت القرار بدوافع احترازية وفي ضوء النهج المتوقع من أفعال سليماني السيئة الماضية، فإنها يتعين عليها أن تطرح وتشارك مع الكونغرس وحلفاء الولايات المتحدة والرأي العام مستنداتها الواقعية التي تفي بأربعة مطالبات: أولاً: أن هذا القتل كان بهدف منع هجوم وشيك على أراضي الولايات المتحدة أو مصالح أمريكية حرجة، وثانياً: أن الهجوم كان ضرورياً لأن أي تدبير على مستوى أقل من ذلك لم يكن ليمنع الخطر ويحولُ دون تفاقمه، وثالثاً: أن الهجوم كان متناسباً مع حجم التهديد المطروح، ورابعاً: في قيامها بذلك، احترمت الولايات المتحدة على نحوٍ كاف السيادة الإقليمية لدولة العراق المتحالفة مع الولايات المتحدة، والتي جرت العملية على أراضيها.
وفي حين تظل الإحاطات الإعلامية الخاصة بالعملية مصنّفة [نظام تصنيف المعلومات السرية للأمن القومي في الولايات المتحدة يشمل ثلاثة مستويات: الخصوصي والسري والسري للغاية]، فإن الإدارة عجزت على ما يبدو عن تقديم دليل على أن سليماني كان يخطط لشن هجوم وشيك، استدعى أن تتخذ الولايات المتحدة استجابة متناسبة مع حجم التهديد، وفي إطار يحترم سيادة العراق.
حتى إن نوّاباً جمهوريين مخلصين، مثل السيناتور مايك لي والسيناتور راند بول، وجدوا أنه من المضحك تصنيف الإدارة للمعلومات المتعلقة بهذه العملية تحت بند السرية. وقالت مراسلة صحيفة New York Times، روكميني مارياكاليماشي، إن المسؤولين الذين اطّلعوا على الأدلة السرية وجدوا أن قرائن التخطيط لهجوم وشيك «هشة إلى حد كبير»، ورأوا أن «القراءة التي توصلت إليها الاستخبارات تنطوي على استباق أو قفزة غير منطقية للأحداث».
أمَّا ادعاء وزير الخارجية مايك بومبيو بأن سليماني كان بصدد «مساعٍ متواصلة… لبناء شبكة تشن مجموعة من الهجمات التي كانت ستسفر ربما عن مقتل أعداد كبيرة من الأمريكيين» فلم يُفصح عن أي ضمان بأن قرار ترامب قد أوفى بأي من تلك المتطلبات القانونية الأربعة: الخطر الداهم الوشيك، وضرورة التحرك، وتناسبه مع حجم الخطر، واحترام العملية لسيادة الدولة ذات الصلة.
علاوة على أن تضمين ترامب لمواقع ثقافية إيرانية –محمية من الاستهداف بموجب قواعد القانون الدولي المنصوص عليها في اتفاقيات لاهاي وجنيف الخاصة بقوانين الحرب- لقائمة الأهداف المحتملة، يمثل انتهاكاً لقواعد البند القانوني الخامس المتعلقة بحماية «التراث المشترك للإنسانية»، والتي يتعين على أي حكومة تتخذ قراراً باستهداف دولة أخرى مراعاتها.
فإذا كان الحال هكذا، ومسؤولو الرئاسة ومستشاروها يُفترض بهم ألا يقدموا أي خيارات غير قانونية للرئيس، كما أن مسؤولي الحكومة الذين أقسموا خلال يمينهم الدستورية على التمسك بالدستور وأحكام القانون لا سلطة لديهم ولا حق في طلب أو قبول أو تنفيذ تلك الخيارات، فلمَ إذن جرى تجاهل قوانين الولايات المتحدة والقوانين الدولية عرضاً على هذا النحو؟
الأمر ببساطة.. أنها كانت عملية سيئة
فقد اتُّخذ القرار على نحو مفاجئ في منتجع مارالاغو الخاص بترامب، دون تنسيق متأنٍّ بين الفروع المختلفة وإعداد مستند قانوني يصاحب قرار الاستهداف، ولم يُجر مسؤولو مجلس الأمن القومي ومحامو الوكالات الأمنية فحصاً دقيقاً عليها. وهكذا لم تُفحص العواقب الاستراتيجية لا قصيرة ولا طويلة الأجل، ولم يُراع هذا القرار الذي لا رجعة في آثاره أي رؤية متماسكة فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية المتبعة تجاه إيران. وقد راجع أحد موظفي مجلس الأمن القومي السابقين، جوناثان ستيفنسون، عملية التنسيق الداخلية بين الفروع على نحو هادئ، ليتبين له، وفق شهادته، أنها قد شهدت «خللاً وظيفياً واسع النطاق، وتدهوراً كبيراً يتعلق بتسيير عمليات مجلس الأمن القومي في عهد ترامب».
ويبدو أن عملية التنسيق بين فروع الحكومة، ولا سيما عرض التقارير على الكونغرس أو التشاور في أوقات سابقة معه، اقتصرت على محادثة غير رسمية أجراها ترامب في فلوريدا مع السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، وهو حتى ليس عضواً في الفريق المعروف بعصابة الثمانية [الذي يضم زعيمي الأغلبية والأقلية في مجلس الشيوخ، ورئيس الكونغرس، وزعيم الأقلية فيه، مع رئيس لجنة الاستخبارات وأحد كبار أعضائها] الذي يجري التشاور معهم عادةً بشان المسائل الاستخباراتية الحساسة. وقد ترددت أنباء عن أن أعضاء النادي الريفي لترامب في مارالاغو قد تلقوا إشعارات بشأن العملية أكثر من كبار قادة الكونغرس.
ومع ذلك، فإن مؤيدي ترامب يبررون الضربة باعتبارها سياسة جيدة؛ لأنها حيّدت فاعلاً شريراً كان على الساحة. لكن خبراء وثيقي الصلة بتلك الملفات –ومنهم مسؤولون سابقون كبار في الأمن القومي، مثل سوزان رايس وريتشارد هاس، وغيرهم- أوضحوا أنه، حتى لو اعتُبرت العملية قانونية بطريقة ما، فإن القرار يمثل سياسة أمنٍ قومي بالغة السوء ويجعل من الولايات المتحدة ومصالحها أقل أماناً على الصعيد العالمي. علاوة على أن ادعاء ترامب السابق لأوانه بأن إيران قد «تراجعت»، واكتفت بتوجيه ضربة انتقامية رمزية إلى حد كبير للولايات المتحدة، لا يمكن تصديقه ما دمنا لا نعرف حتى الآن ما هي الهجمات الانتقامية الأخرى، السيبرانية أو على الأرض، التي مازالت تنتظر الولايات المتحدة.
لكن بعيداً عن القانون وإجراءات تسيير العملية، في عصر الطائرات بدون طيار والقتل الموجه، ما الخطأ في تضمين الاغتيال الوقائي خياراً سياسياً متبعاً؟ القانون الأمريكي يحظر الاغتيال، لأنه يبدأ الحروب ويُشعلها، وسرعان ما يصبح عاملاً مزعزعاً للاستقرار. وكما استخدم بالأمس القريب لقتل سليماني، يمكن استخدام الأساس المنطقي ذاته غداً ضد كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية، أو بشار الأسد في سوريا، أو الرئيس الفنزويلي المارق [على سياسات الولايات المتحدة] نيكولاس مادورو. وبالنظر إلى أن المعاملة بالمثل تكمن في صميم القانون الدولي، فإلى متى ستمتنع القوى الأجنبية المعادية للولايات المتحدة قبل أن تتذرع بالمنطق نفسه لاستهداف المسؤولين الأمريكيين المعادين لها؟
ويرتبط القانون والسياسة والعملية السياسية فيما بينهما ارتباطاً وثيقاً، إذ يقترن القانون بدروس السياسة لإتاحة القدرة على التنبؤ والمُساءلة، وتميل الشرعية والعملية السليمة إلى تعزيز سياسة أكثر استقراراً، بينما يحفِّز انعدام الشرعية ورداءة العملية السياسية وقوع كارثة سياسية. ويتيح الالتزام القانوني وعملية الأمن القومي الجيدة التعاون المتعدد الأطراف والمساءلة والاتفاق السياسي بشأن السياسات الحساسة بين السلطة التنفيذية والكونغرس، في حين أن انعدام المشروعية المقترنة برداءة العملية السياسية تولِّد سلاسل تعاقبية من اللامشروعية على عاتق العلاقة بين الرئيس والكونغرس وحلفاء الولايات المتحدة، وتعزز الأحادية التي تطال السلطة التنفيذية والنهج الأحادي للولايات المتحدة، وتدفع بالسرّية والتستر.
ماذا حدث في حرب العراق؟
لننظر إلى اعتناق إدارة جورج دبليو بوش الكارثية لممارسات التعذيب غير القانونية؛ فقد قالت مذكرة مشينة أصدرتها وزارة العدل في عام 2002 إنه إذا كان للولايات المتحدة حق الهجوم بغرض الدفاع الاستباقي عن النفس، فبإمكانها إذاً تعذيب الأشخاص لنفس الغرض، وقد استشهدت الإدارة ذاتها بحجج قائمة على الدفاع الاستباقي عن النفس لإرسال قوات عسكرية إلى الفلبين، وللتأهب لحملتها في العراق، وللتأكيد في وثيقة استراتيجية الأمن القومي على حقّها المعتاد في الدفاع الاستباقي عن نفسها.
لكن غياب أسلحة الدمار الشامل في العراق فضح زيف هذه الادعاءات؛ إذ تجسّد اثنين من ثوابت إدارة بوش مخاطر الحرب الاستباقية هذه على أكمل وجه. فلتجمع بين الثابت الذي اعتنقه وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد شر اعتناق متمثلاً في مقولة: «غياب الأدلة ليس دليلاً على الغياب»، وما أطلق عليه نائب الرئيس آنذاك ديك تشيني مبدأ «نسبة واحد في المائة»، قائلاً: «حتى لو كانت هناك فرصة بنسبة 1% بأن هناك آتياً مروعاَ، تصرّف وكأنه أمرٌ مؤكّد»، وبموجب ما سبق، إذا لم يكن هناك دخان، عليك أن تفترض وجود حريق، وهو ما يبرر الهجوم على نحو استباقي». لكن الهجمات الوقائية ليست محكومة بمفاهيم الضرورة أو التناسب على نحو ذي مغزى، فإذا كنت تظنّ أن شخصاً ما سوف يشنّ هجوماً بقصد القتل، سيكون رهانك الأفضل متمثلاً في أن تقتله أولاً، مثلما جرى في واقعة الهجوم على ميناء اللؤلؤ «بيرل هاربر». وعندما تسود تلك العقلية، يحلّ الحدس وتحريف الأدلّة محل الأدلّة، وهو ما ساعد على خلق الأساس المنطقي وراء التدخل في العراق خلال عام 2003 بقوة هائلة بغرض التصدّي لأسلحة الدمار الشامل غير الموجودة أساساً.
وبموجب العقيدة القانونية الدولية التقليدية للدفاع عن النفس، ينبغي أن يكون المعتدي قد اتخذ خطوات أولية عدوانية بشكل لا لبس فيه قبل يتسنّى للمُستهدَف بعدوان الطرف الأوّل الرد بما يقبله القانون دفاعاً عن النفس. ولكن إذا غيرنا القانون على النحو الذي يأذن للبلاد بالاستجابة ليس فقط للتهديدات المتصورة، بل لمجرد هواجسها، ثم إلى الشكوك بأن خصومها قد تسيء فهم الدوافع، سيحلّ التخمين أو الأكاذيب الخالصة محلّ الأدلة الراسخة. وخلف ستار تلك الانعكاسات المُشوّهة تكمن عقيدة تفترض الضرورة، ثم تأذن باستخدام غير متناسب للقوة لأغراض «صدمة ومهاجمة» مُهاجِم محتمل كي يخضع.
ولا يمكننا السماح لترامب وإدارته بشن حرب جديدة أبديّة ضد إيران ووكلائها المختلفين على أساس ادعاءات غامضة على تويتر كوجود أسلحة دمار شامل. ويجب على الأمريكيين إرغام بومبيو إرغاماً صارماً على الإيفاء بتعهده، الذي تكرر كثيراً منذ شنّ الهجوم، ومفاده أن «كل إجراء» تتخذه الولايات المتحدة «سيكون متسقاً مع سيادة القانون الدولي». وبحكم طبيعتها، تتحوّل مزاعم الحرب الاستباقية إلى معلومات استخباراتية تحمل شعار «ثقوا بي».
ولمنع تكرار تجربة العراق، يحتّم على الكونغرس ووسائل الإعلام والجمهور مواصلة تدقيقهم المفصل المكثف لما يبني عليه ترامب مزاعمه بشأن الخطر الوشيك. فما الأساس الواقعي الذي استند عليه ترامب حين اعتقد أن سليماني كان يخطط لشن هجوم وشيك على غرار 11 سبتمبر/أيلول على أراضي الولايات المتحدة أو على مصالحها؟ بدون هذه المعلومات، كان من غير القانوني التفكير في قتل سليماني وكأنه خيار سياسي، ولكن إذا كانت هذه المعلومات موجودة، فإنه يتعيَّن إذاً على الكونغرس الاطلاع عليها بموجب القانون. وفي كلتا الحالتين، يبدو أن الهجوم كان غير قانوني.
وهذا يعني أيضاً رفض تسطيح ترامب وبومبيو للقضيّة بوصفها خياراً زائفاً ثنائي القطب يتمثّل في «الهجوم، أو «عدم فعل شيء على الإطلاق». حتى لو كان خطر عدم اتخاذ إجراء أمريكي أكبر من خطر اتخاذ إجراء، كما يزعم بومبيو، فإن الإجراء المتخذ لم يطلب قوة عسكرية أحادية. بل بدلاً من هذا كان من الممكن سلك نهج ثالث، وهو نزع سلاح إيران دون هجوم استباقي، من خلال استراتيجية متعددة الأطراف لنزع السلاح تنطوي على العلاقات الدبلوماسية ومبدأ الشفافية واحتواء الأزمة، ومنظومة عقوبات محسّنة.
ولعلّ هذه الطريقة الثالثة تبدو مألوفة، حيث دفعت هذه العملية بالتحديد إدارة أوباما إلى إبرام صفقة إيران النووية لعام 2015. وبالتخلص من هذه الصفقة دون وجود شبكة أمان، كان من المتوقع لترامب أن يؤجج حلقة انتقامية متبادلة، وللهرب من تلك الحلقة، فإنه -وللمفارقة- يدعو الآن إلى مفاوضات جديدة متعددة الأطراف بعد سنوات ربما تأتي في أفضل الأحوال بنتائج أدنى من الاتفاق الذي عقده أوباما.
هل يتحرك الكونغرس لكبح جماح ترامب؟
على الرغم من الجمود الذي يواجه عملية عزل ترامب، يجب على الكونغرس استدعاء المسؤولين الذين شكّلوا الخيارات ودعوا إلى قتل سليماني للشهادة بعد حلف اليمين. في الوقت نفسه، يتعين على المشرعين إجبار ترامب على توضيح أهداف الولايات المتحدة على المدى القريب والبعيد في إيران والعراق.
مع إحالة النقاش إلى مجلس الشيوخ، ينبغي لهذه الهيئة سنّ تشريعات تتصدّى للمزيد من التصعيد في إيران، لا سيّما اقتراح النائبة الديمقراطية إليسا سلوتكين، الذي تبناه مجلس النواب مؤخّراً بموجب قانون صلاحيات الحرب، كما يتعيّن على الكونغرس تفعيل مشروع قانون النائب رو خانا الذي يمنع تمويل أي أعمال هجومية في إيران، وكما هو مذكور على كل المنابر، يجب على الكونغرس إلغاء قانون الإذن باستخدام القوة العسكرية الحالي الذي عفا عليه الزمن وقد سُنَّ خلال أزمة العراق عام 2002، ويتعيَّن كذلك على الفور عقد جلسات الاستماع حول مشروع قانون صلاحيات الحرب الذي قدمه السيناتور تيم كين، والذي يتضمن أفكاراً رزينة انطوى عليها مشروع قانون ذي صلة قدَّمه السيناتور جيف مركلي.
إن إجراءات مجلس النواب الهادفة إلى عزل ترامب على خلفية انتهاكاته للأمن القومي في أوكرانيا تخبرنا أن الرئيس الحالي يمثل تهديداً للأمن القومي، وتؤكد عملية اغتيال سليماني أن الكونغرس لا يستطيع إعطاء رئيس متهم بما يستوجب عزله، وطائش، غير مطلع، ولم يبتّ في أمره بعد، الضوء الأخضر لهزيمة كلب الحرب في إيران.