هل أصبح التقسيم الحل الوحيد لخروج لبنان من أزماته المستعصية؟
مرّ قرن من الزمان على تأسيس لبنان كجمهورية في شكلها الحالي، شهدت حربين أهليتين، واحتلالين أجنبيين، ونكبات مُتنوّعة، هل حان وقت إعادة التفكير في تجربة التعايش بين الطوائف التي من الواضح أنها فشلت؟
لا يبدو السؤال غريباً أو بعيداً عن الواقع، فقد نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً بعنوان: “التقسيم هو الحل الوحيد لأوجاع لبنان”، ألقى الضوء على التجربة الحالية التي فشلت بعد قرن كامل في إخراج اللبنانيين من أزماتهم المتلاحقة.
ماذا حققت التجربة حتى الآن؟
لبنان بلدٌ قديم ذُكِرَ 71 مرة في العهد القديم، بينما صمد الكيان الجيوسياسي الحالي الذي يحمل الاسم -بالكاد- لقرابة قرنٍ من الزمن بعد أن أنشأته الحكومة الفرنسية في سبتمبر عام 1920.
وعلى مرّ القرن، عاش لبنان حربين أهليتين، واحتلالين أجنبيين، ونكبات مُتنوّعة إبان ابتلائه بالفساد والخسائر الكبيرة على مستوى الحريات، ومن المؤسف أنّ كافة جهود بناء الدولة قد باءت بالفشل، بالتزامن مع طرح القادة السياسيين والدينيين لصيغ جديدة في تقاسم السلطة.
وتراوحت تلك الصيف بين الفيدرالية والتقسيم، بالتزامن مع رفض اللبنانيين المسيحيين والدروز والمسلمين السنة والشيعة المُتكرّر “للتعايش المجتمعي”، وهو التعبير العامي الذي يُستخدم باستمرار لكّنه فقد معناه قبل وقتٍ طويل، وبعد 100 عام يسأل العديد من اللبنانيين أنفسهم: لماذا نُواصل العيش في كذبة؟
هل النظام الطائفي صالح للاستمرار؟
إذ ارتكبت البلاد خطأً محورياً بالحفاظ على نظامٍ طائفي غير مكتوب منح المناصب العليا مثل الرئاسة للموارنة، ورئاسة الوزراء للسنة، ورئاسة البرلمان للشيعة.
وبمرور الوقت توصّل اللبنانيون إلى اتفاقات جديدة، مثل اتّفاق الطائف بوساطة السعودية عام 1989، الذي علّق الحرب الأهلية ووضع حداً للغزوات السورية والإسرائيلية المتتالية، ودعا اتفاق الطائف إلى عودة الحياة السياسية لطبيعتها وأعاد تأكيد السلطة اللبنانية في جنوب لبنان (الذي كانت تُسيطر عليه إسرائيل وحلفاء جيش لبنان الجنوبي)، كما نصّ على انسحاب الجيش السوري في غضون عامين، رغم أنّ الانسحاب الحقيقي لم حدث حتى عام 2005.
ومن اللافت للنظر أنّه بعد انسحاب القوات السورية عام 2005، احتفظ حزب البعث التابع للرئيس السوري بشار الأسد بعملاء مخابراته في لبنان، الذين هيمنوا على السياسات المحلية وغيرها من الأمور. وكانت قبضتهم محكمةً لدرجة أنّ دمشق خاضت حربها الأهلية بعد عام 2011 دون أن تتأثّر تلك القبضة، مستخدمين لبنان بصفته قناةً لكل سلعةٍ وخدمة يُمكن تخيّلها، مع الاعتماد على حزب الله في أمور الحرب والإرهاب.
ألا يكفي قرن من الزمان لإعلان فشل التجربة؟
وقرنٌ من الزمن هو وقتٌ أطول من اللازم لإنهاء تجربةٍ فاشلة في بناء الأمم، إذ أسفرت 100 عام من الجهل والجشع عن تناقضات هائلة، مع تعايش الفقر النسبي والثراء الفاحش جنباً إلى جنب، وحين ارتفعت معدلات البطالة الوظيفية مثلاً، جرى إخفاء الأمر سريعاً بواسطة الفساد الطائفي بعد صرف زعماء الأحزاب وسماسرة السلطة تبرعات مالية سخية لخنق الاضطرابات الاجتماعية، وفي الوقت ذاته، حوّل نحو مليون عامل لبناني كادح خارج البلاد رواتبهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس عاماً تلو الآخر. وضمنت حوالاتهم تأسيس سلسلة بونزي مصرفية من الدرجة الأولى، زادت ثروة فاحشي الثراء ومنحت الطبقة المتوسطة وهم الرخاء.
لبنان يواجه أسوأ كوابيسه
وبعيداً عن الانفجارات التي هزّت بيروت في الرابع من أغسطس/آب، وبعيداً عن الأزمات الاقتصادية المتعاقبة التي أفقرت الغالبية العظمى من اللبنانيين، وبعيداً عن الاختطاف المستمر للحياة السياسية بواسطة واحدةٍ من أكثر المؤسسات الحاكمة فساداً على ظهر الكوكب؛ يُواجه لبنان الآن أسوأ كوابيسه في مرحلة ما بعد 1920.
وبالطبع لا تعني الدعوات إلى اتفاقٍ جديد بين المسلمين والمسيحيين أنّ أيّ نتيجةٍ سيخرجون بها ستصُبّ في صالح الشيعة، رغم أنّ استقرار المجتمع اللبناني قد تزعزع نتيجة ارتباط حزب الله المُعلن بإيران ورغبته المطلقة الأكثر خطورة في أن يصير جزءاً من ولاية الفقيه.
ومن جانبه أكّد مفتي لبنان السني الشيخ عبداللطيف دريان عدم وجود بدائل لاتفاق الطائف، الذي يتجاهله رجال الدين الشيعة باعتباره صفقة عفا عليها الزمن، ومن المثير للاهتمام أنّ غالبية اللبنانيين أرادوا رؤية مسؤولين تكنوقراط حقيقيين يُديرون حكومتهم، وهي الرغبة التي جرى التعبير عنها في احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 ومؤخراً.
ومن الطبيعي أن يتجاهل أصحاب المصالح في المؤسسة السياسية تلك الدعوات، لعدم رغبتهم في تسليم كامل أنشطتهم المُربحة التي سمحت لهم بالبقاء في السلطة والحفاظ على أدائهم المُثبت. فاستقالت حكومةٌ لتليها أخرى، مع تلاعب نفس القادة السياسيين بالعملية. بينما لا يتغيّر شيء على أرض الواقع.
ورغم أن المسيحيين والدروز والمسلمين السُّنة يرفضون الفقه الشيعي، لكن ذلك لا يعني أنهم لم يعودوا راغبين في التعايش المشترك مع الشيعة، إذ إن الغالبية العظمة من اللبنانيين، وبينهم الشيعة غير المرتبطين بإيران، يبدوا عليهم الذعر من كيفية ترسيخ القادة الشيعة لمكانتهم في المجتمع بطريقةٍ تجعل التعايش المشترك أمراً شبه مستحيل.
وفي أعقاب الانتخابات البرلمانية لعام 2018، وبعد الاتفاق بين حزب الله وبين رئيس لبنان الحالي ميشيل عون، كان حزب الله في حالةٍ من النشوة بسبب الانتصار، كما أدّت إعادة التقسيم الناجحة للدوائر الانتخابية دورها.
ففي عام 2017، مرر ساسة لبنان قانوناً انتخابياً جديداً سمح لكافة الأحزاب السياسية تقريباً بالمشاركة في التمثيل النسبي، ما فتح مجالات جديدة للتنافس الانتخابي الذي كان مقصوراً في السابق على عددٍ قليل من الدوائر الانتخابية، ونتيجةً لذلك تغيّر الهيكل السياسي للبلاد، مع مستوى جديد من عدم اليقين الذي أجبر الأحزاب على تشكيل تحالفات مُخصّصة في كل حي مع مجموعةٍ عريضة ومُتغيّرة من الشركاء.
تهميش المجتمع المدني
وكانت هناك العديد من حالات التحالف الجديدة التي تجاوزت الحدود التقليدية، ما منع مرشحي المجتمع المدني من الفوز بأكثر من مقعد واحد من أصل 128 مقعداً. وأضرت إعادة تقسيم الدوائر بنصيب كل الأطراف السياسية، إذ أسفرت عن خسارة رئيس الوزراء آنذاك سعد الحريري 12 من أصل 33 مقعداً خاصاً بتيار المستقبل في البرلمان. وكان سعد، نجل رئيس الوزراء المُغتال رفيق الحريري، واحداً من الركائز الأساسية لتحالف 14 آذار المُعارض لحزب الله ظاهرياً، وشريكه الصامت في عدة حكومات متعاقبة. ونقلت الصحفية كيم غطاس الاحتفالات الكبيرة التي تضمّنت حينها هتافات مثل: “بيروت شيعية، بيروت شيعية”.
واشتدت معارضة الرأي العام اللبناني لأنشطة المجتمع الشيعي في أعقاب تنصيب القرويين في لاسا بناءً غير قانوني فوق أرضٍ مملوكة للكنيسة المارونية عام 2011، إذ هدّد النزاع الطويل حول ملكية الأرض في المجتمع المشترك، مثل غيره من مناطق البلاد، بزعزعة أوضاع التركيبة السكانية في البلاد. كما وقعت اشتباكاتٌ مُماثلة في العديد من القرى الدرزية بجبال الشوف، ما أسفر عن حالات وفاة في ظل وقوف المسؤولين الحكوميين دون حراك.
كما كان هناك رد فعلٍ عنيف من المسيحيين. ففي منتصف عام 2019 منعت بلدة حدث المسلمين من شراء العقارات، ما أثار احتجاجات وطنية، رغم أنّ تلك التطوّرات أوضحت تغيرات التركيبة السكانية سريعة التحوّل في لبنان على خلفية الانقسامات الطائفية عميقة الجذور.
وجاءت الهجمات الأخيرة على البطريرك الماروني، الذي دعا سلطات الدولة في الـ24 من أغسطس/آب إلى سحب جميع الأسلحة غير المرخصة -أي أسلحة حزب الله- لتزيد الأوضاع سوءاً. ومن جانبه طلب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، الذي كانت خطاباته تُذاع على كافة القنوات المحلية أسبوعياً تقريباً، من المتظاهرين الذين نصبوا له مشانق وهمية في ساحة الشهداء ببيروت أن يحذروا.
ومع تأرجح لبنان على حافة الانهيار، عقد المسيحيون والدروز والسنة -وبعض الشيعة- العزم على الحفاظ على حرياتهم. إذ تحمل الكثيرون المصاعب لأربعة قرون تحت الحكم العثماني، وبدأ البعض بالفعل في الحديث من جديد عن النظام الفيدرالي بصفته خياراً لضمان الأمن على المدى البعيد، رغم عدم وضوح كيفية تطبيقه داخل مجتمعٍ طائفي بقدر لبنان، وخاصةً في ظل معارضة حزب الله لفكرة الفيدرالية أو التقسيم في حدّ ذاتها.
ويتساءل الكثيرون حول ما إذا كان اللبنانيون قادرون على النجاة في وجود أسلحة حزب الله التي تفرض حكم الأقلية الشيعية على كافة الطوائف الأخرى. بينما يُفكّر الآخرون في عدد الأشخاص الذين سيهلكون قبل أن يصير لبنان حراً بحق. والتقسيم هو خيارٌ جاد يُمكن أن يُساعد في تجنّب الأخطاء المتكرّرة التي ميّزت لبنان خلال القرن الماضي. فمن الواضح بجلاء أنّ اللبنانيين الذين يتشاركون بعض السمات المشتركة لا يستطيعون التوافق حول الحريات السياسية والاجتماعية الأساسية، والتي لا يُمكن الحفاظ عليها سوى من خلال ميثاقٍ سياسيٍ جديد.
وبدون الحرية، لن يكون للبنان معنى؛ لأنه من المفترض أنّ الذين أنشأوا الكيان الجغرافي الحالي كانوا ينوون تمكين سكانه بحرياتٍ غائبة عن المنطقة. ومع الأسف، فشلت تجربة عام 1920. وبات السؤال الحقيقي الذي يُواجه اللبنانيين في عام 2020 هو ما إذا كان على البلاد العودة إلى أوضاع ما قبل عام 1920.