هدفه إظهار حقيقة النضال الفلسطيني.. فنانٌ من غزة يحوّل الرصاص والشظايا إلى قطعٍ فنية
يمكنك أن تلمح مجدي أبو طاقية في أيِّ يومٍ عادي، وهو يجوب منطقة الحدود بين غزة وإسرائيل، جامعاً بقايا الطلقات من الأسلحة الإسرائيلية. فهذه الشظايا، وفوارغ قنابل الغاز المسيل للدموع، وحتى الطلقات المُستخرَجة من أجساد الفلسطينيين المصابين، تُعدُّ جزءاً من تذكارات أبو طاقية.
صحيحٌ أن هذه العادة نمتْ لديه منذ العام ١٩٩١، أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلا أن أبو طاقية استطاع في الآونة الأخيرة فقط – في أعقاب مظاهرات مسيرة العودة الكبرى ومع وفرة الذخيرة – أن يحوّل هذه المخلّفات إلى تماثيل ومنشآت مصغّرة، وهو نوعٌ من الفن يُسمَّى “فن المصغّرات”.
بدأ الفلسطينيون احتجاجاً شاملاً لمدة 46 يوماً، في 30 مارس/آذار، للمطالبة بحقهم في العودة إلى ديارهم في أراضي فلسطين التاريخية. كان من المقرَّر أن ينتهي الاحتجاج يوم 15 مايو/آيار، في الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية، حيث تمَّ تهجير وتشريد أكثر من 750 ألف فلسطينياً من قبل القوات الإسرائيلية في أعقاب تأسيس ما يُسمّى “دولة إسرائيل” في مايو/آيار 1948.
ووفقاً لأحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة في غزة، فقد قُتل ما لا يقلّ عن 115 متظاهراً خلال الاحتجاجات، في حين لا يزال مئاتٌ آخرين في المستشفى مصابين بجروحٍ خطيرة.
وقالت جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان أن إسرائيل تنفذ سياسة استهداف المتظاهرين بشكلٍ متعمّد، باستخدام الذخيرة الحية والقوة المفرطة والمميتة. ورغم أن الجيش الإسرائيلي يصرَّ على أن هذه القوة ضرورية للدفاع عن المنطقة الحدودية ومنع عمليات التسلّل الجماعي، إلا أن جمعيات حقوق الإنسان أكدت أن العديد من الأشخاص الذين قُتلوا لم يكونوا في أيِّ مكانٍ قريب من السياج، الذي أقامته إسرائيل بينها وبين الأراضي الفلسطينية في غزة.
وكانت المحكمة العليا في إسرائيل قد رفضت بالإجماع، يوم الخميس، التماساً قدَّمته جمعيتان لحقوق الإنسان تتّهمان فيه إسرائيل بانتهاك القانون باستخدام القناصة والذخيرة الحيّة ضدّ المتظاهرين الفلسطينيين المسالمين في غزة.
استلهم أبو طاقية فكرة إحياء الاحتجاجات، بعد أن أُصيب شقيقه (19 عاماً) في ساقيه، وهو على بعد 700 متراً من السياج، في اليوم الأول من “مسيرة العودة الكبرى”. تضرَّرت الأعصاب في ساقه اليمنى بشكلٍ تام، حيث استقرَّت شظية من الرصاصة في داخلها، ولا يزال غير قادرٍ على السير ويخضع للعلاج.
أخذ أبو طاقية الرصاصة المُستخرجة من ساق أخيه من الطبيب، ونحتها على شكل تمثالٍ مصغّر لجندي من الكنعانيين. ويقول في هذا الإطار: “الكنعانيون هم أسلافنا، هم أول من جاء إلى فلسطين. ويشير تمثال الجندي الكنعاني إلى أنه لنا الحق في العيش على هذه الأرض”.
استوطن الكنعانيون منذ آلاف السنين منطقة بلاد الشام، بما في ذلك فلسطين القديمة، والتي يُعتقد أنه تمَّ تدميرها من قبل بني إسرائيل وفقاً للعهد القديم. ومع ذلك، أشارت دراسة وراثية حديثة إلى أن السكاّن القدماء نجوا، وأن أحفادهم يعيشون في لبنان الحديث.
ويضيف أبو طاقية “لقد حولتُ هذه الأسلحة العنيفة إلى تماثيل وأشكال مصغرة مسالمة، ويدوية الصنع.. فهي دليلٌ على العدوان الذي يرتكبه الإسرائيليون في حق الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت الاحتلال والحصار”.
عملٌ مجهد.. لكنه مصنوع بحُب
بدأ الجندي المتقاعد من سلاح البحرية، البالغ من العمر 38 عاماً، والأب لثلاثة أبناء، في الرسم بالفحم عندما كان في الثالثة عشر.. وفي سن الخامسة عشر، بدأ في نحت الخشب.
وتضمُّ إحدى منحوتاته خريطة لفلسطين، مع نقشٍ لقبّة الصخرة في الوسط ومفتاح ملفوف بالأسلاك الشائكة. وترمز القطعة التي استغرقت 48 ساعة من العمل، إلى الاحتلال الإسرائيلي. ويقول أبو طاقية أنه، عندما يبدأ في العمل على قطعةٍ ما، فإنه لا يرتاح حتى ينتهي منها. ويأمل بأن يفتتح في يومٍ ما، معرضه الخاص ليظهر حقيقة النضال الفلسطيني.. فـَ “هذه رسالة للعالم، بأن الفلسطينيين يحبّون الحياة”.
وعلى الرغم من الظروف الاقتصادية القاسية التي يواجهها، إلا أن أبو طاقية غير مهتمٍ بتحقيق أيِّ ربحٍ من أعماله اليدوية. وبدلاً من بيعها، فإنه يعطيها كهدايا تذكارية للأشخاص الذين يزورون غزة.
يقول أبو طاقية، في حديثٍ خاص إلى Middle East Eye، إن مقتنياته تبدو قبيحة في بادئ الأمر، عندما يجمعها.. ولكنها تتحول إلى أشكال مصغرة جميلة، بعد العمل عليها. تٌعتبر هذه العملية شاقة، وتختلف من مُجسم إلى آخر. حيث يقوم أولاً بتسخين فوارغ الطلقات على الموقد لتسهيل عملية التشكيل.. وعندما يصبح الجسم ساخناً بالقدر الكافي، يقوم بتسوية سطحها باستخدام مطرقة، ثم يستخدم مبرداً وشفرات وأدوات أخرى لنحتها وجعلها مثالية، وتشمل اللمسات النهائية عادة الطلاء بالألوان الزيتية.
استخدم أبو طاقية أسلحة مختلفة لإنجاز أحدث أعماله، مثل الرصاص وفوارغ قنابل الغاز المسيل للدموع، من أجل صنع نموذج عن مسيرة العودة الكبرى.. بما في ذلك الخيم التي يسكن فيها المحتجون، ومشاهد أخرى تُظهر العنف الذي واجهه المتظاهرون والصحفيون.
وقد استغرق يومين من دون نوم، لإكمال قطعته الأخيرة، التي تتضمَّن تصميمات لمِحفة أو نقالة وخوذة، وسترة مكتوب عليها “صحافة”، في إشارةٍ إلى استهداف الصحافيين في الاحتجاجات.
ويشمل التصميم أيضاً على فتى أصيب بالرصاص في ساقيه، يلوح بطائرة ورقية مزينة بألوان العلم الفلسطيني، بالإضافة إلى متظاهرين يسحبون الأسلاك الشائكة التي وضعتها القوات الإسرائيلية بالقرب من السياج الحدودي الفاصل بين غزة وإسرائيل.
المخاطر المهنية
ومع ذلك يصاحب فنّه بعض المخاطر المهنية. فقد أصيب أبو طاقية بجروحٍ مستدامة إثر جمعه لأحد الرصاصات التي انفجرت في يده أثناء تسخينها، في يوم الجمعة الثاني من احتجاجات “مسيرة العودة الكبرى”، مما أدَّى إلى جرح أصابعه. ويأخذ أبو طاقية احتياطاته للتأكد من أن أغلفة الرصاص فارغة، قبل العمل عليها، لكن في بعض الأحيان تظلّ بقايا الرصاص في الداخل.
ومع ذلك، فهو يعتقد أن “الشخص الذي لديه رسالة إلى العالم يضطرُّ إلى التضحية بحياته لنشر رسالته”. واحدة من قطعه الفنية هي رصاصة منحوتة، مع حمامة تهرب منها، لتنقل توق السلام لدى الفلسطينيين.
“أشعر بالفخر”
زوجته ولاء (30 عاماً) تساعده في إنجاز أعماله، سواء من خلال الأفكار أو تلوين الأشكال. كما علَّمها كيفية استخدام الإزميل والشفرات، التي يستعملها للنحت.
وتقول “في كل مرة أراه ينهي شكلاً مصغراً، أشعر بالفخر لأنه يقضي وقته وحياته في محاولة نشر رسالة إلى العالم. وهي أن الفلسطينيين يريدون العيش بسلام”.
ولتعزيز هوايته، يحتاج أبو طاقية إلى شراء مقدحٍ صغير، وطين خزفي أصلي، وألوان ذات جودة عالية، وأدواتٍ يقول إنه لا يستطيع تحمُّل تكلفتها بسبب الوضع الاقتصادي المدمّر الذي يفرضه الحصار…”بالكاد أستطيع تحمُّل الاحتياجات الأساسية والإيجار لعائلتي”.
بالنسبة لمشروعه المقبل، سيقوم أبو طاقية وزوجته ولاء بتجسيد معبر رفح الحدودي، لإظهار معاناة الفلسطينيين بسبب افتقارهم لحرية الحركة والتنقل.
ويقول أبو طاقية، “الصحافي، والفنان، والرسام، وكل شخص لديه رسالة، يقضي حياته لنشرها”، وتابع: “إذا متُّ، لن تموت رسالتي أبداً. قصة العودة الكبرى ستورث، ولن تموت”.