نيويورك تايمز: ترامب ينشئ دولة عميقة خاصة به مستغلا أجهزة الاستخبارات
قال جون سيفر مدير محطة لوكالة الاستخبارات الأمريكية سابقا، وعمل لأكثر من 27 عاما في روسيا وأجزاء من أوروبا وآسيا في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” إن الرئيس دونالد ترامب يقيم “دولته العميقة” في إشارة لاتهامات الرئيس المتكررة لمناوئيه بأنهم جزء من الدولة العميقة الراغبة بتقويضه.
وقال سيفر إن جون راتكليف مدير وكالة الاستخبارات القومية الجديد، أرسل يوم الجمعة رسالة إلى قادة الكونغرس قال فيها إن وكالته ستتوقف عن تقديم إيجازات شفويه في موضوعات مثل أمن الانتخابات، ولكنه سيرسل تحديثا مكتوبا.
وقال إن السبب وراء التحول، هو التسريبات التي تخرج عادة من لجان الأمن في الكونغرس، كما أن هذا النظام يعني أن المعلومات الاستخباراتية “لن يساء فهمها أو تسييسها”.
وتساءل الديمقراطيون وغيرهم من النقاد عن الكيفية التي سيمنع فيها المدير الجديد التسريبات من خلال الإيجازات المكتوبة. ووسط التحديات التي تواجه البلد، فتغيير في طريقة تمرير المعلومات من المجتمع الاستخباراتي إلى الكونغرس ربما لم يكن أمرا مهما.
وحاول بعض الجمهوريين التقليل من شأن القرار. وقال رون جونسون، رئيس لجنة الأمن الوطني في مجلس الشيوخ، إن “هناك مبالغة مفرطة” في التعامل مع القرار… وأستطيع توجيه إصبعي إلى حالتين كُشف فيها عن السرية في هذه الإيجازات”.
ويعلق الكاتب: “لسوء الحظ، فإن أياً من الأشخاص الذين يظل الرئيس يقترحهم للعب أدوار أمنية لا يعرفون على ما يبدو حول الإصلاحات التي تمت خلال العقود الخمسة الماضية وجلبت معها محاسبة كبيرة ورقابة لخدمات الاستخبارات الأمريكية”.
ومن هنا فقرار المدير الجديد يمثل بالنسبة للمجتمع الأمني تراجعا لرقابة الكونجرس على المؤسسات الأمنية وبالضرورة تسييسا لها وتوسيعا لسلطة الفرع التنفيذي في الحكم. وبلغةٍ عامية، يعلم القرار الشيء نفسه الذي استخدمه ترامب لإثارة الغضب في أنصاره، أي تشكيل جهاز أمن وطني مسيس يمكن للرئيس استخدامه كسلاح شخصي أو “دولة عميقة”.
فقد كانت الإدارات الجمهورية والديمقراطية وعلى مدى 45 عاما قادرة على التعاون والاعتماد على المجتمع الأمني، المهني، غير المتحزّب، القادر على قول الحقيقة للسلطة، وعندما يخطئ، فهو عرضة للرقابة في الكونغرس ومن وزارة العدل.
وفي الوقت الذي يناقش فيه البعض أن وكالات الحكومة السرية تتمتع حتى الآن بقوة، لكن الوضع كان أسوأ قبل الإصلاحات التي أقرها الكونغرس في السبعينات من القرن الماضي.
وبعد إنشائها عام 1947، انخرطت “سي آي إيه” في حروب سرية حول العالم. وتدخلت في الانتخابات وتسترت على الفشل وتجنبت المحاسبة، وساهمت في الإطاحة بحكام وصلوا إلى السلطة عبر انتخابات حرة في إيران وغواتيمالا، وكذبت على الكونغرس الذي فشل في ممارسة الرقابة على مؤسسة الاستخبارات هذه.
وعندما قام فرانك تشيرتش، رئيس اللجنة الخاصة في الكونغرس للتحقيق في “سي آي إيه” وإساءة استخدامها للسلطة، وصفها بأنها “فيل مارق”. وكان الوضع في مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) تحت إدارة جي إدغار هوفر أسوأ، حيث داس على الحقوق المدنية وتورط في التنصت ومهام جمع معلومات للرؤساء أو ما يعرف “بمهام الصناديق السوداء”، بما فيها الرقابة التي استمرت عقدا على زعيم حركة الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ.
وجرت في السبعينات من القرن الماضي سلسلة من الإصلاحات في عمل “أف بي آي” و”سي آي إيه” من أجل تعزيز الثقة بالحكومة. وأدت هذه الإصلاحات إلى الحد من الممارسات الخارجة عن القانون، ومنحت الكونغرس رقابة على هذه المؤسسات.
و”في الوقت الذي انضممت فيه إلى سي آي إيه في الثمانينات من القرن الماضي دخلت إصلاحات الكونجرس وثبتت من خلال معايير مهنية وأخلاقية، فُرضت وأصبحت جزءا من التدريب. وكانت هناك قواعد تغطي العمل السري، المحاسبة، الحدود القانونية وتوقع الرقابة من الكونغرس”.
ومنذ اليوم الأول تم تدريس ضباط الوكالة المبتدئين حول طبيعة مهمتهم غير المتحزبة، وأن التسييس للمعلومات الأمنية هو إثم عظيم. ومن هم خارج المؤسسة لا يعرفون مركزية تقديم تقارير غير متحيزة وصعوبة قول الحق للسلطة. ويعتبر إخفاء معلومات أو تلوينها بلون سياسي معين لعنة على الوظيفة. ومن الأفضل تقديم معلومات أمنية غير مشذبة بدلا من التلاعب بالنتيجة لكي تناسب مفاهيم سياسية.
ويرى الكاتب أن من المواقف المسيسة التي دمرت سمعة “سي آي إيه” هو تقريرها عن العراق وأسلحة الدمار الشامل. وكان تعيين راتكليف قد أُلغي بداية عندما اعتقد الجمهوريون والديمقراطيون أنه غير مؤهل. ثم تم الدفع به لكي يجبر القائم بأعمال الوكالة ريتشارد غرينل على الخروج من منصبه.
وكان غرينل غير مؤهل للوظيفة أيضا، وكل اهتمامه هو اختيار معلومات لتدمير سمعة معارضي الرئيس ترامب لا ليقود المؤسسة بطريقة مهنية.
وراتكليف هو موال متملق للرئيس ترامب، ويعرف ألا شيء يغضب سيده إلا الموضوعات المتعلقة بروسيا والانتخابات. وعلى المستوى العملي، فراتكليف ليس الشخص المؤهل لكي يحضر إيجازات أمام الكونجرس ويجيب على الأسئلة، ولو حول الأمر إلى المهنيين والعاملين في المجال الأمني، فإنه سيواجه مشكلة تسرب معلومات.
ولا يفهم راتكليف أن تقديم الوثيقة هي مرحلة أولى في التحليل. ويلجأ رجال الاستخبارات إلى الكتابة حتى يعرضوا وجهة نظرهم، كما أنهم يكتبون من أجل المساءلة. ويرون أن الإيجازات الشخصية مهمة، لأن الوثائق المكتوبة يساء قراءتها مهما كانت دقتها.
ويتعامل رجال الاستخبارات مع مساءلة الكونغرس لهم كوسيلة لقراءة أفكار أعضاء الكونغرس ومساءلة مصادرهم حول المعلومات. وعندما يمنع راتكليف أسلوب “خذ وأعط” فهو يقول إنه الوحيد الذي يعرف ما يريده الكونغرس من معلومات.
ولأن كل المعلومات المكتوبة التي تذهب إلى الكونغرس تمر عبر مديرية الأمن القومي، فهناك إمكانية لتعرضها للحذف او التلاعب لمنح رؤية متحيزة. وعززت إدارة ترامب العملية من خلال منع الشهود من الظهور أمام الكونغرس والامتناع عن تقديم شهادات ووثائق في محاكمة الرئيس بفضيحة أوكرانيا وتحقيق روبرت مولر.
ولو أصر زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل على ضرورة حضور راتكليف، سيستحيب البيت الأبيض، لكن ماكونيل لم يظهر رغبة في الحد من تصرفات الرئيس. كما أن هجمات الحزب الجمهوري على الإعلام و”الأخبار الزائفة” أضعفت ثقة الرأي العام بالإعلام عندما يفضح إساءة استخدام السلطة.
ويرى سيفر أن المؤسسات الأمنية قوية ويجب تنظيمها ومراقبتها. وفي حالة تراجع حرفيتها وحيادها فإنها دعوة إلى الخطر.
ويقول سيفر إن الرئيس ترامب يضع الاستخبارات في وضع صعب وهي تحاول السير بين الكونغرس والبيت الأبيض والوفاء بالتزامها بحماية الأمريكيين والتعاون مع الرئيس المنتخب. وعندما تتحول الأجهزة الأمنية القوية، إلى خادمة لنزعات الساسة ومن يجلس في البيت الأبيض، فعندها ستتعرض الديمقراطية والأمن الأمريكي لخطر لا أحد يتصوره.