نيويورك تايمز: التحولات في خطاب الحرس الثوري تعني هزيمة كل محاولة أمريكية لتغيير النظام الإيراني
من المحتم ستفشل استراتيجية الرئيس دونالد ترامب تجاه إيران والأسباب كثيرة كما تقول البروفسيورة نرجس باجوغلي، المحاضرة بجامعة جون هوبكنز ومؤلفة كتاب “إعادة تأطير إيران: قلق السلطة في الجمهورية الإسلامية”. ففي مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” حللت فيه عددا من مظاهر سوء الفهم في استراتيجية التعامل الأمريكية مع إيران.
فمع تزايد التوتر مع طهران، حاولت واشنطن فهم الدينامية والتفكير الداخلي للحكومة الإيرانية خاصة الحرس الثوري الإسلامي الذي يعمل كجزء من المؤسسة العسكرية وكحام للثورة وأصبح اليوم القوة الأكثر تأثيرا داخل النظام السياسي المعقد للبلاد. ومن هنا تقول باجوغلي، لو فهمت الحرس الثوري فستكون قادرا على فهم التشكيلة السياسية الإيرانية الحديثة. فهذه القوة تبدو للمشاهد الخارجي مثل حرس إمبراطوري مضحك مهمته قمع المعارضة في الخارج ودعم عدد من المغامرات العسكرية العدوانية في الخارج. صحيح أن المنظمة دعمت حزب الله اللبناني وأسهمت بقمع الثورة الخضراء عام 2009 إلا ان الرؤية لها تبدو مختلفة من داخل إيران.
وتشير الكاتبة أن عملها كباحثة ولسنوات لمراقبة ما جرى من تطورات على الفرع الإعلامي التابع للحرس الثوري أعطاها فرصة لمعرفة الطريقة التي قام فيها الحرس بإعادة تقديم نفسه كحام للرواية الوطنية الإيرانية، في وقت دخلت فيه الثورة عقدها الخامس. ومن هنا ففهم هذا التحول مهم لمعرفة التوترات الدولية والطريقة التي تم تفسيرها في إيران. وتعد استراتيجية الرئيس دونالد ترامب القائمة على “أقصى ضغط” واستخدام العقوبات لإجبار طهران للعودة إلى طاولة المفاوضات من جهة وإثارة القلاقل الداخلية التي تقود لتغيير النظام من جهة أخرى، مهمة في فهم التوتر.
وعليه فالضغوط الخارجية تساعد النظام وبسهولة على بناء تضامن داخلي. ويفهم الحرس الثوري هذا بسبب إعادة تعريف دوره، وهو بهذه الحالة جاهز لكي يستفيد من الضغوط الخارجية. فمن السهل تجاهل أن الثورة الإسلامية عام 1979 كانت تعبيرا عن قومية معادية للاستعمار بقدر ما كانت تعبر عن أيديولوجية دينية، فشعار “لا شرقية أو غربية” تردد عاليا مثل الدعوة للتقوى الإسلامي.
فمنذ الحرب الباردة وعندما أطاح الأمريكيون والبريطانيون بحكومة محمد مصدق عام 1953 انزعج الإيرانيون مما رأوه استمرار التدخل الأجنبي في شؤونهم الداخلية والدعم المتواصل للشاه الذي اعتبروه دمية أجنبية. وكانت الحكومة في مرحلة ما بعد الثورة قلقة جدا من انقلاب جديد ولهذا أنشأت الحرس الثوري لمهمة حمايتها. ويلعب الحرس الثوري دورا عسكريا لكنه يظل خارج المؤسسة العسكرية التقليدية، وبناها آية الله الخميني، الزعيم الرئيسي للثورة لأنه لم يكن يثق بالقوات الإيرانية المسلحة المعروفة بـ “أرتيش” والتي اعتقد أنها كانت موالية للشاه. وكلف الحرس الثوري بحماية الثورة أما القوات المسلحة فمهمتها حماية الحدود الإيرانية. ولعب الحرس في السنين الأولى من الثورة دورا في قمع انتفاضات داخل مناطق الأكراد والتركمان ثم انضم إلى الجيش النظامي في الحرب مع العراق التي استمرت ثمانية أعوام تحول خلالها لقوة عسكرية موازية.
وأصبح الحرس يلعب دورا سياسيا رغم الحظر الذي فرضه الخميني عليه والقوات المسلحة من التدخل في السياسة. وبعد وفاته عام 1989 بدأ قادة الجمهورية الإسلامية بتقديم العقود المجزية للحرس كي يقوم بإعادة إعمار البلاد الخارجة من الحرب. وفي العقد الأخير من القرن الماضي أصبح الحرس أكثر المؤسسات ثراء واستقلالية في إيران وميدان لحماية المبادئ المؤسسة للثورة.
وبعد عقود على الثورة حاول النظام وعبر عمليات إعلامية قوية تهدف لتقديم تاريخ الثورة والحرب مع العراق من خلال لغة معادية للاستعمار ومشبعة بالصور الإسلامية الشيعية. إلا أن اندلاع الثورة الخضراء عام 2009 التي دعت لجمهورية إيرانية بدلا من الجمهورية الإسلامية، أظهرت أن التركيز على الأيديولوجية الدينية لم تعد مجدية.
وبعد الاحتجاجات قال منتج إعلامي للحرس لزملائه في لقاء حضرته الكاتبة: “هذا الجيل الشاب لم يعد يفهم لغتنا. ونحن نضيع وقتنا في المواد الإعلامية التي نقوم بإنتاجها”. وبدلا من التعامل مع الاحتجاجات على أنها هجوم ضد النظام يجب أن ينظر إليها الحرس الثوري كفرصة “علينا أن لا نلوم المحتجين”. وكانت ابنته وزوجته قد شاركتا في التظاهرات. وتكررت القصة في أكثر من حالة.
وأضاف: “نحن الذين يجب علينا التكيف على واقع بلدنا” و “يجب علينا تقديم القصص بطريقة أفضل، القصص التي نحكيها منذ 30 عاما، وتحتاج لقاموس شيعي كي تفهمها وليس غريبا أن الشباب لم يعودوا يشاهدون ما نصنع”.
وتقول إن إيران تغيرت خلال العقود الثلاث الماضية على الثورة، فلم تعد متعلمة أحسن ومتمدنة بل وشابة. فنسبة 70% من سكانها البالغ عددهم 80 مليون نسمة هم تحت سنة الأربعين. واعترف الحرس الثوري أن الشباب مل من الدعاية المقدمة له، وحمل الباسيج مسؤولية قمع المعارضة الداخلية. وفي نفس الوقت كانت جهود النظام الدعائية تصدأ فلم يعد هناك أحد يزور مكتبات النظام ولا زيارة المتاحف أو مشاهدة البرامج التلفازية الدعائية أو يشتري البطاقات لأفلام دعائية في السينما. وباختصار واجه حراس الثورة تناقضا ظاهريا كلاسيكيا تواجهه أي حركة ثورية ناجحة وهي كيفية نقل المبادئ الأساسية للثورة من جيل لآخر. والحل كان موجودا في المبادئ القومية التي وحدت في الماضي كل قطاعات الشعب الإيراني وأطيافه. وبعد الثورة الخضراء مباشرة أخبر منتج آخر زملاء له في في لقاء مغلق “علينا أن نظهر للجيل الشاب أننا هنا لحماية إيران كأمة وليس كجمهورية إسلامية”. وقاموا خلال العقد الماضي بإعادة تركيز انتاجها وصوروا الحرس كحام لإيران من العدوان الخارجي وأصبحت الرموز الدينية في الخلفية لا المقدمة. ومع اندلاع العنف في العراق وأفغانستان وظهور تنظيم “الدولة” والحرب الأهلية في سوريا أصبح الإيرانيون يرددون “بدون السباهي” كما يعرف الحرس “في دمشق لكان تنظيم “الدولة ” في طهران”.
وضمن عملية إعادة الإخراج قام المنتجون بإعادة تفسير تاريخ الجمهورية الإسلامية. ففي متحف افتتحه الحرس الثوري في طهران قدمت قصة الحرب العراقية-الإيرانية باعتبارها انتصارا للقومية الفارسية بدلا من الرؤية السابقة التي قدمت من خلالها، أي كونها حكاية بطولية عن جنود يخوضون الحرب كما فعل الإمام حسين، حفيد الرسول. ويصور جناح في المتحف خريطة للإمبراطورية الفارسية التي حكمت مساحات من آسيا، لكن الخريطة تتقلص ويبدو شكل إيران أصغر من تلك القديمة.
والرسالة واضحة وهي أن قادة الإمبراطورية السابقة تنازلوا عن الأراضي للحفاظ على ثرواتهم. وفي العصر الحديث، عندما هاجم العراق إيران بدعم من الغرب، قاتلت الجمهورية دفاعا عن الحدود والكرامة الوطنية كما في الماضي. وبدلا من الاحتفاء بالشهادة كما هو حال الثورة يجري التركيز على الوطن الذي استعيد من سيطرة القوى الغربية.
وأقيم المتحف على تلة تطل على العاصمة حيث دعا القيمون عليه الفنانين لرسم لوحات تجذب الجيل الجديد بالإضافة لمواقف سيارات مجانية ووعود أخرى. واستثمر الحرس الثوري كثيرا في وسائل التواصل الاجتماعي لجذب الجيل الشاب من خلال أفلام فيديو وأغان تحتفل بالحرس كحارس للوطن. وأنفق على شريط مبلغ كبير في المعايير الإيرانية 385.000 دولارا ويحكي قصة إسقاط الأمريكيين طائرة الركاب الإيرانية فوق الخليج. ويحتوي الفيلم على صور للباسيج بالأزياء الوطنية وهم يزحفون نحو البارجة لا سلاح في يدهم إلا العلم. والأغنية التي يغنيها الباسيج من كتاب الشاهنامة التي تشير لتاريخ فارس قبل الإسلام.
وأثمرت الحملة نتائج جيدة، فقد انتشرت شعبية الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس المسؤول عن العمليات الخارجية في الحرس الثوري. وأصبح الإيرانيون ينظرون إليه كحام للوطن من خلال القومية الإيرانية ومعاداة الاستعمار وليس عبر الرموز الإسلامية. وفي الوقت الذي لا يزال الحرس الثوري منظمة قمعية لا يتسامح مع المعارضة إلا أنه بحملته الإعلامية نجح في تغيير المواقف العامة باعتباره حام للهوية الوطنية.
وفي الوقت الذي عمل فيه النظام على تشويه دعاة الإصلاح كأدوات استعمار، إلا أن الجيل لم يصدق الحيلة وظل يصوت لدعاة الإصلاح والحوار مع الغرب. وغير ترامب كذا، فسياساته العدوانية أثبتت رؤية المعسكر المتشدد والذي أكد في الماضي أنه لا يمكن الثقة بأمريكا أو الغرب.
وعندما قرر ترامب الخروج من الاتفاقية النووية رغم التزام طهران بها، تأكدت رؤية التيار المتشدد الذي تشكك في البداية من حيوية الحوار مع أمريكا. ورغم إحباط الإيرانيين من قادتهم تظل فكرة التحرر من التبعية الأجنبية مهمة في وحدة الشعب. وكانت الثورة الإيرانية معلما مهما في هذا الكفاح ولكنها جزء من القصة الكبرى. وطالما ظلت إدارة ترامب تعتقد أنها تستطيع دق إسفين بين الشعب الإيراني وقيادته، مستخدمة العقوبات والخطاب التهديدي فسيستخدم الحرس الثوري نفس الاستراتيجية وبناء تضامن شعبي خلف النظام وهزيمة أي محاولة من الغرب لفرض تغيير في إيران.