“نوروز” .. انبعاث جديد للمرأة الكردية
- المرأة الكردية، من أين وإلى أين؟
(-7- نوروز والمرأة الكردية)
يُعدّ السومريون من أقدم الشعوب التي أضفَت معانٍ خاصة على “نوروز”، حيث يُجمَع عموماً على أنهم من شعوب سلسلة جبال زاغروس التي هاجرت إلى جنوب ميزوبوتاميا لتستقر هناك مُشِيدةً حضارةً من أعظم وأعرق الحضارات البشرية.
إذ يحتفلون بهذا اليوم بمراسيم مهيبة بمناسبة عودة انبعاث الطبيعة والنباتات. وهم يؤمنون بأن إلهة الخصب والبركة “إينانا” تحيا ثانيةً في 21 آذار من كل عام، فيُطلقون تسمية “آكيتيل” عليه، أي “الميلاد مجدداً”.
أما شعوب بلاد الأناضول الغربية، فتحتفل بهذه المناسبة منذ القِدَم تكريماً لإلهات أخرى مختلفة، منها الإلهة “ديميترا” لدى الإيونيين والإلهة “أرتميس”، حامية النباتات والحيوانات لدى سكان مدينة أفسس.
أما المعنى الذي أضفاه الكُردُ على “نوروز” فمختلف تماماً. إذ يتعدى كونه مجرد عيد الطبيعة والربيع. فهو اليوم الذي يروي تمرد “كاوا الحداد” ضد المَلِك الآشوري الظالم “ضحاك”، وإشعاله النار دليلاً على هذا النصر كي يكون ميلاداً حقيقياً لحرية البشرية وخلاصها من الغبن والطغيان. والذي تحوّل إلى عيد يرمز إلى الصراع بين الظالم والمظلوم، أي بين الحرية والعبودية. بالتالي، فهو عيد الانبعاث والمقاومة، وعيد الانتفاضة والميلاد.
وهو باللغة الكردية-الآرية يعني “اليوم الجديد”، وقد أصبح “النار” توأماً حقيقياً لـ”نوروز”، وصديقاً حميماً للشعب الكردي منذ القِدَم، بحيث يخلق تاريخه، ويخط مساره وفق هذه الشعلة العريقة. ومَن يحتفي بهذه النار بجسده الغض، إنما يتحول بدوره إلى أسطورة حديثة تضيف قيمة معنوية أخرى على درب الخلود والخالدين.
نوروز وميلاده السياسي في الثمانينيات
شهدت تركيا من بين انقلاباتها العسكرية المتوالية، انقلاب 12 أيلول 1980 العسكري الفاشي. والذي نمّ عن حملات من القمع السافر والتعذيب الوحشي بنحو غير مسبوق، مع جنايات الفاعل المجهول والاعتقالات العشوائية الشاملة. هذا ما جعل الكرد يحتفلون بنوروز في تلك الفترة في بيوتهم وفي الشوارع الفرعية كبداية للتمرد والعصيان على الواقع المُعاش. في حين كان الاحتفاء بهذا العيد في أقبية سجن ديار بكر السيئ الصيت يكون بشكل مختلف. حيث أضرم “مظلوم دوغان” النار في جسده في نوروز عام 1982 بثلاثة عيدان من الكبريت احتجاجاً على الذل والهوان والتعذيب الوحشي، وتعطشاً للحرية المنشودة. وهذا ما كان بداية لميلاد سياسي جديد لهذا العيد.
ومع حلول تسعينيات القرن الماضي، احتدّت وتيرة الحرب التي شنتها الدولة التركية الفاشية ضد أبناء الشعب الكردي في كردستان تركيا، فطالت مئات الآلاف من المدنيين الكرد الذين أُحرِقَت قُراهم ودُمِّرت وأُفرِغَت، فأُرغِموا على التهجير القسري إلى المتروبولات التركية وغيرها من الأماكن. مع ذلك، واستمراراً على نهج “الميلاد السياسي الجديد” لنوروز مع “مظلوم دوغان”، كان لا بد للكرد من المقاومة كسبيل وحيد للحفاظ على وجودهم.
فبدأ الكُرد بلبس الألبسة الفلكلورية الزاهية احتفاءً بالعيد في الأماكن العامة، ما جعل الدولة التركية تَعتَبر هذا العيد “يوماً خطيراً”، فحظَرَته عام 1990. فكان ذلك القرار إشارة لمرحلة جديدة من القمع والظلم ضد الشعب الكردي. وبالفعل، تعرضت الاحتفالات بهذا العيد بعدها إلى ميدان للعرقلة والظلم والقمع من طرف البوليس التركي، واعتُبِر كل مَن يحتفل به “انفصالياً”. ومع ذلك، لم تخمد نار نوروز في أي مكان من كردستان تركيا.
نوروز التسعينيات والمرأة الكردية
بنفش آغال: اسم على مسمى
يأتي اسم “بنفش” من ملحمة كردية عريقة شهيرة. ويعني في العربية “زهرة البنفسج”. ولدت بنفش الإيزيدية في بلدة “بشيرية” التابعة لمدينة باطمان بشمال كردستان عام 1966.
وبعد انقلاب 12 أيلول 1980 الفاشي، اضطرت عائلتها للهجرة إلى أوروبا هرباً من بطش الدولة التركية. كانت فضولية في زيادة معرفتها منذ صغر سنها. وانخرطت في صفوف “حزب العمال الكردستاني” وهي ما تزال في ربيعها الثامن عشر، لتنشط بين صفوف شعبها المهاجر في أوروبا، وتعمل على توعيته وتنظيمه. أثَّر انخراطها هذا على أبناء الشعب الإيزيدي، حيث عملت على تحطيم القوالب الدوغمائية لديه فيما يتعلق بنظرته إلى المرأة. خاصة وأن هذا الشعب منغلق على ذاته، ولا يسمح بتاتاً للمرأة أن تخرج من بيتها لوحدها.
وفي عام 1986 اتجهت إلى “وادي البقاع” حيث تُقام الدورات التدريبية العسكرية والفكرية للكوادر بإشراف مباشر من القائد “عبد الله أوجالان”، لتلتحق بعدها بصفوف الكريلا على جبال كردستان. ومن هناك انتقلت إلى إقليم بوطان، وبالتحديد إلى مدينة “جزرة” لتعمل على تنظيم وتوعية الشعب الكردي والمرأة الكردية هناك. أثّرت كثيراً في أهالي مدينة “جزرة”، بحيث نالت ودّهم واحترامهم في فترة وجيزة، خاصة وأنها أول امرأة “كريلا” يتعرف عليها الشعب ويتعامل معها بصورة مباشرة.
وهذا ما مكَّنها من كسب ثقة الشعب بذاته أولاً وبها وبالمرأة ثانياً، فصارت منبعاً للأمل والإباء.
وفي منتصف كانون الثاني من عام 1989 تحاصرها الدولة التركية في أحد البيوت بالجنود والمدرعات والدبابات، وتطلب منها الاستسلام. لكنها ترفض ذلك، وتحارب حتى آخر طلقة لديها إلى أن نالت الشهادة. وهذا ما فجَّر الحقد لدى سكان “جزرة” تجاه الدولة التركية، وحوَّل نوروز ذاك العام إلى انتفاضة عارمة سرعان ما انتشرت في المدن الكردستانية الأخرى، وتحولت الشوارع إلى ميدان لمواجهة الظلم التركي. وتحوّلت المناضلة الإيزيدية بنفش آغال، والتي عرِفها سكان “جزرة” بلقبِ “بريفان” إلى ملحمة أسطورية، لتصبح اسماً على مسمى. ومن حينها صار اسم مدينة “جزرة” مقترناً في ذاكرة الشعب الكردي باسم “بريفان”.
وقد قال القائد “عبد الله أوجالان” عن الشهيدة بريفان: “لقد كانت لائقة بالنضال في الجبال، تماماً مثلما كانت جديرة بالنشاط بين الشعب. فكسبَت ودّ سكان جزرة سريعاً، وساعدت في نهضته ونهوضه”.
زكية آلكان: صرخة نوروز في آمد
ولدت “زكية آلكان” في مدينة “آمد” عام 1970. وهناك أكملت دراستها الثانوية لتدخل كلية الطلب في جامعة دجلة في مدينة ديار بكر. وأثناء دراستها الجامعية تتعرف على هويتها القومية وعلى قضيتها العادلة. وأكثر ما أثّر فيها هو حادثة مقتل 13 مناضلة كردية من الكريلا في مدينة نصيبين، ودفنهن هناك من قِبَل النساء بانتفاضة عارمة. ورداً على تلك الفترة العصيبة التي مرّ بها الشعب الكردي، تقول زكية في قرارة نفسها: “الاحتفال بنوروز لا يكون إلا بإشعال النار”. وهكذا تصعد أسوار “قلعة آمد” (ديار بكر) لتضرم النار في جسدها الغض في نوروز عام 1990 احتجاجاً على القمع الذي يتعرض له شعبها في تركيا، وإيذاناً بضرورة المقاومة والتصدي للذل والهوان، مهما كان الثمن. هكذا أدركت المرأة الكردية من خلال نار الحرية المتصاعدة من جسد زكية في نوروز، أن ثمن الحرية غالٍ لا محال. وهكذا تحوّل نوروز إلى شعلة نار نسائية بامتياز مع العملية الفدائية التي قامت بها “زكية”، وتحوّلت المرأة الكردية أيضاً إلى “شعلة نارٍ نوروزية متأججة”.
ومن حينها اقترنت نار نوروز باسم “زكية آلكان”، التي تحولت إلى ملحمة أسطورية بين صفوف الشعب الكردي في آمد وعموم كردستان.
ومن بين ما قاله القائد “عبد الله أوجالان” عن عملية الشهيدة زكية آلكان: “إن عمليتها مؤشر على دخول تنظيم المرأة الكردية مرحلةً جديدة. لقد أدركَت المرأة الكردية معنى الحياة الحرة. إن زكية خير مثال على الجرأة القصوى والروح الفدائية اللامحدودة. إذن، فطاقات الحرية لدى المرأة جبارة حقاً. بالتالي، فالثورة التي لا تنخرط فيها المرأة هي ثورة ناقصة، بل مستحيلة. وكلما انتفضت المرأة الكردية وتحررت، فإن ذلك يعني أن كردستان أيضاً تنفض عنها الغبار وتتجه نحو الحرية. إن عملية الشهيدة زكية هي تمرد على القمع التركي وعلى سياسة الإنكار والإبادة”.
رهشان ديميريل: فتاة “القلعة المخملية”
ولدت رهشان ديميريل في مدينة نصيبين التابعة لإقليم ماردين بشمال كردستان عام 1975. كانت في عامها الأول عندما اضطرت عائلتها للهجرة إلى حي “القلعة المخملية-قديفة قاله” بمدينة إزمير التركية، هرباً من بطش الدولة التركية. كانت كلما زارت مسقط رأسها تزداد نقمة على البطش الذي يتعرض له شعبها هناك، وتزداد تشبثاً بوطنها وأرضها، وتزداد شغفاً بالألوان الوطنية (الأخضر والأحمر والأصفر). كانت تجد شخصانيتها وهويتها وذاكرتها الحقيقية في نصيبين. تأثرت رهشان بانتفاضات نوروز 1990-1991، وظلت تسأل أمها ببراءة الطفولة: “ما دام لدينا لسان نتحدث به، فلماذا نصمت؟ لماذا نتغاضى عن قتل الناس وقمعهم؟ ألا يمكننا أن نضمد جراح هذا الشعب الأبي؟”.
لقد كانت تَعتَبر الصمت خيانة. فراحت تمسك الحجارة وترميها على الجنود الأتراك في كل تظاهرة كردية في إزمير. اعتُقِلت رهشان عام 1991، ولاقت أشد أنواع التعذيب في السجون التركية. ومع ذلك، لم تصمت. بل قاومت حتى في السجن، وكانت تتمرد دوماً على الواقع الأليم الذي يعيشه الشعب الكردي. فكانت تنشط بين أبناء شعبها المهجَّرين إلى المتروبولات التركية، وتحثهم على رفض النزوح، وعلى توعية الذات وتنظيم الصفوف للعودة إلى “الوطن”.
في إحدى المرات، وحينما كانت تشارك في تظاهرة كردية، أمسك أحد أفراد الشرطة التركية بشعرها، وبدأ بشتمها وضربها. فبدأت هي بالصراخ قائلة: “سيأتي يوم تُرغَمون فيه على المُثول أمامنا لنحاسبكم على أفعالكم هذه… سيحاسبكم التاريخ يوماً ما”. وبعدما تخلصت من قبضة “البوليس”، كانت تقول عن الدماء التي تنزف منها نتيجة الضرب المبرح ضاحكةً: “لقد نزفتُ دماً في سبيل وطني!”. وذات مرة أخرى، وقبل العملية الفدائية بأيام معدودة، قالت “رهشان” لوالدتها: “أمي، قصّي لي شَعري. فقد أمسك به العدو يا أمي.. لذا، عليّ أن أتخلص من دنسه الذي لامسَ شَعري… وقريباً سأُطهِّر نفسي من رجس العدو كلياً”. وأمام استغراب أمها وتحديقها فيها ملياً قالت: “في حال سمعتِ أنه حصل لي أمر ما، فلا تبكِ عليّ يا أمي… إذ لا يليق بالأمهات إلا الابتسامة!”.
وصل القمع في احتفاليات نوروز 1992 التي بدأت قبل أيام من العيد إلى حد ترهيب المحتفلين بالدبابات والمدرعات، بل وإطلاق الرصاص الحي على الشعب الكردي، فوصل عدد الضحايا في المدن الكردستانية في تركيا إلى 94 مدنياً من نساء وأطفال وشباب، بالإضافة إلى المئات من الجرحى والمعتَقَلين؛ والذين اتُّهِموا جميعاً بجُرم “الانفصالية”. هذا عدا عن الذين قضوا نحبهم تحت التعذيب في السجون التركية. فأضيفت هذه اللوحة الدموية إلى مجموع لوحات القمع والسحق الشنيعة السابقة التي ما تزال ذاكرة المجتمع الكردي تحتفظ بها. وهذا ما جعل الآلاف من أبناء الكرد المتواجدين في حي “القلعة المخملية”، يقررون محاسبة هؤلاء الجلادين الغاشمين في نوروز عام 1992.
أما رهشان ديميريل، ذات الربيع الثامن عشر من عمرها حينذاك، فقررت محاسبة الجلادين بأسلوبها هي، وأعدّت نفسها على طرازها الخاص بها. لقد أرادت أن تزيد من بهاء شعلة نوروز، بعدما عملت الدولة التركية قبل عام من ذلك الوقت على إخمادها. فقررت أن تحوّل جسدها الغض إلى شعلةٍ لا يمكن للدولة التركية أن تطفئها. وقد عبَّرت عن رغبتها هذه قبل تنفيذ عمليتها تلك بالقول: “إنني أحوِّل نفسي إلى نوروز في القلعة المخملية. إذ لا بد لي من الرد على المظالم التي عانت منها جزرة وماردين ونصيبين”.
تركَت “رهشان” لعائلتها ليلةَ عيد نوروز رسالةً قبل أن تذهب لتحرق نفسها على أسوار “القلعة المخملية”، قالت فيها: “سأجعل من نفسي نوروزاً في القلعة المخملية. إذ عليّ أن أكون جواباً لأهلي في جزرة ونصيبين وماردين”. انتشر خبر عملية الشهيدة “رهشان” بين الشعب الكردي بسرعة البرق، فاجتمع الآلاف، بل عشرات الآلاف، حول “القلعة المخملية”، ممسكين مشاعل نوروز، وصارخين بأعلى أصواتهم: “أضرموا النار… لا ترشوا الماء… فالنار هي التي تخمد عطش القلوب، لا الماء”.
هكذا رحلت رهشان جسدياً، لتبقى خالدة في قلوب أبناء الشعب الكردي، يتناقل الأجيال جملتها الشهيرة التي تلفظت بها وهي تحترق: “لقد احترقنا كثيراً دون أن يعلم بنا أحد… وتسير القافلة بينما إزمير تبكي دون أن يدري بها أحد… فلنشعل النار بأبداننا إذاً… عسى ولعل يلتفت إلينا أحد…”. دُفِنَت رهشان في مسقط رأسها، في مدينة الانتفاضة “نصيبين”، لكن الدولة التركية اتّخذت تدابير أمينة مشددة، خوفاً من أن تتحول مراسيم الدفن الى انتفاضة ثانية، مثلما كان شكل شهادتها. بل وحضر قائد فرقة المُشاة السيئ الصيت “ولي كوجوك” شخصياً لترهيب الناس. تتحدث أم الشهيدة “رهشان”، السيدة “أمينة ديميريل” عن لقائها بهذا الطاغية أثناء مراسيم الدفن، فتقول: “طلب مني صورةً لابنتي رهشان، فلما أعطيته إياها نظر فيها قائلاً: “ما أجملها. فلماذا أحرقت نفسها؟”. فانحنيتُ أرضاً، وأمسكتُ بحفنة من التراب، ونثرتُه أمام عينيه قائلة له: “من أجل هذا التراب!”.
استشهدت رهشان، وبقي وراءها صور جميلة بجمال نوروز، وأغانٍ قيلت فيها، من أجملها تلك التي تقول:
“رهشان يا رهشان… يا نار نوروز… الأم التي أرضعَتك… كم هي فخورة بكِ… أصبحتِ نار نوروز… فعيدك مباركِ يا مدللتنا ويا بؤبؤ العين… هدفُكِ أشعَلَ النار في أفئدتنا… فلا يمكننا أن ننساكِ أبد الدهر… ستبقين في قلوبنا… سنحرر الوطن تحت راية اسمك وصوتك ونارك…”
روناهي وبريفان: الخبيرتان بسِرّ النار
ولدت روناهي في بلدة “ألبستان” التابعة لمدينة مرعش بشمال كردستان عام 1972. كانت بنت سبع سنين عندما اضطرت عائلتها للهجرة إلى سويسرا هرباً من بطش الدولة التركية.
شكَّلَت مع أشقائها الثلاثة الذين يكبرونها عمراً فرقةً موسيقية مذ كانت صغيرة، لتصدح أصواتهم بالأغاني الوطنية والقومية وبحب الوطن. تتوقف الفرقة الموسيقية إثر وفاة الوالد، إلا إن طموح روناهي لم يعرف التوقف. فراحت ترسم بقلم الرصاص صوراً لجبال كردستان والفتيات. ثم بدأت بالنشاط بين صفوف الشبيبة الكردية ثم بين صفوف النساء الكرديات في المنفى. إلا إنها ظلت تتساءل في قرارة نفسها: “ما الذي بإمكاني فعله غير ذلك ضمن النشاط القومي؟ كيف يجب أن تكون المرأة الكردية؟”.
تعرّفت روناهي على زميلتها بريفان في دورة تدريبية في إحدى المدن الألمانية. فتوطدت صداقتهما بعد ذلك إلى حد كبير. ويبدو أن ما جمعَهما أكثر كان يتعدى إطار النشاط القومي والتنظيمي. إنه الحنين الدائم إلى الوطن، إلى كردستان. كانت روناهي تقول دوماً: “إن أوروبا ونشاطات أوروبا لا تروي ظمأي. ولا يمكنني أن أجد ذاتي وهويتي إلا إذا ذهبت إلى جبال كردستان الحرة. عليّ وعلينا أن نكون جواباً لشعبنا المظلوم بنحو أكبر”.
بعد بدء العداء السافر الذي شنّته الدولة الألمانية ضد الشعب الكردي وحظرها لنشاطات حركته التحررية المتمثلة في “حزب العمال الكردستاني” في بلادها عام 1993، وإثر اندلاع الانتفاضات الشعبية العارمة في شمال كردستان وتعرضها للقمع وذهاب العشرات من الضحايا فيها والمئات من الجرحى والمعتقلين، تأججت نار نوروز أكثر فأكثر، فاجتازت شعلتُها حدود كردستان، لتصل إلى الكرد في المنفى أيضاً. فقامت الشابتان الكرديتان بدرية تاش (المعروفة بلقبها روناهي) ونيلغون يلدرم (المعروفة بلقبها بريفان) بإضرام النار في جسدهما في مدينة مانهايم الألمانية في نوروز عام 1994.
تركَت الشهيدتان روناهي وبريفان وراءهما رسالتَين منفصلتَين توضحان فيهما أسباب عمليتهما الفدائية التي خططتا لها دون أن ينتبه إليهما أحد، إذ تقولان: “لقد أَعلَنت الدولة الألمانية عداءها للشعب الكردي مؤخراً. فمنعَت ألواننا ورموزنا الوطنية، وأغلقت مؤسساتنا، واعتَقَلت العشرات من أبناء شعبنا. إن ألمانيا تحذو حذو تركيا على صعيد التطرف العرقي. وهي تقدم كل أنواع الدعم لتركيا في سبيل استمرار الحرب القذرة بهدف إبادة شعبنا. ذلك أن المجازر المرتَكَبة في كردستان تُنفَّذ بالأسلحة الألمانية، ولألمانيا مسؤولية كبرى فيما حصل من حالات قمع وسحق للتظاهرات والاحتفاليات في جزرة وشرناخ وديار بكر. ومؤخراً، اعتدت الدولة الألمانية على الجالية الكردية في العديد من مدنها، فكان هذا القشة التي تقصم ظهر البعير. إننا نسير على درب الشهيد “مظلوم دوغان” الذي أضرم نار نوروز في جسده بثلاثة عيدان من الكبريت، وعلى درب الشهيد “نجمي” الذي صرخ عالياً “لا تطفئوا النار” احتجاجاً على ما تعرضوا له من تعذيب وحشي في سجن ديار بكر. وكلنا إيمان بأن الرد الأعظم على الإمبريالية والاستعمار والاحتلال يكون بتأجيج نار نوروز في جسدَينا، لنتحول إلى نار الحرية. وعليه، فإننا نهدي جسدَينا وقَلبَينا وفكرنا إلى الشعب الكردي والبشرية جمعاء. نبارك لكم عيد نوروز، ونقول أن هدفنا هو بلوغ حياة إنسانية كريمة، آملين منكم التشبث بروح المقاومة.
سنبدأ بالمقاومة من ذاتنا، على أمل أن تُكملوها أنتم. ونخص بالذكر شعبنا الكردي الذي في أوروبا، وأن ينقل روح الثورة إلى كردستان دون بد. إنكم تستطيعون فعل ذلك في حال سرتم على هدى توجيهات قائدنا APO. كلنا أمل وإيمان بكم وبقُدُراتكم”.
كان لعمليتهما تأثير عظيم في نفوس أبناء الشعب الكردي. وقد أربَكَت الدولة الألمانية أيضاً، فعملت على عرقلة مراسيم الدفن، واعتقال العشرات من بين عشرات الآلاف من المشاركين في المراسيم، وانهالت عليهم بالضرب المبرح والتعذيب الوحشي. فكان من بين المعذبين نساء حوامل أجهضن بسبب الضرب السافر الذي تعرضن له.
ومع ذلك، نجح أبناء الشعب الكردي في دفن الشهيدتين بالشكل الذي يليق بهما.
ومن حينها بدأ الشعب الكردي يتداول فيما بينه الجملة الشهيرة التي قالها القائد عبد الله أوجالان في روناهي وبريفان: “لو أن الحرية سهلة، لَما أضرمت روناهي وبريفان النار في جسدَيهما”.