نكسة بعد أفضل عام سياحي.. الأشباح تسكن البتراء الأردنية بعدما عصف بها كورونا
تتمدد الجِمال في ظلال الأعمدة القائمة منذ 2300 عام مضت، وتقف الماعز في منتصف المسرح الروماني. وتلاشت ضوضاء الحشود التي كانت تصطف أمام مبنى الخزنة -أبرز معالم مدينة البتراء الأثرية وأكثرها احتفاظاً بحالة جيدة- ولا يكسر الصمت سوى زقزقة العصافير.
ويوافق الوقت الحالي موسم ازدهار السياحة في عام كان من المفترض أن تسجل فيه عاصمة الأنباط المحفورة في الصخور المُشكَّلة -وهي درة تاج السياحة الأردنية- أفضل معدلاتها. لكن آخر فوج سياحي غادر المملكة الأردنية في 17 مارس مباشرةً قبل إغلاق حدود الدولة الشرق أوسطية بسبب فيروس كورونا المستجد. ومنذ ذلك الحين، هُجِرَت البتراء والمدن المحيطة.
نكسة بعد أفضل عام سياحي
وقال جهاد خلداني، مرشد مختص في اصطحاب السائحين المسيحيين بالمواقع الأردنية القديمة، لصحيفة The Guardian البريطانية: “حظينا بأفضل عام لنا منذ الربيع العربي، الذي أضرنا بشدة”. وعادةً ما يكون زوار البتراء من كبار السن، وهي الفئة السكانية الأكثر عرضة لخطر الفيروس. وأضاف خلداني: “لو نعلم أنَّ الوضع سيصبح أفضل بعد عامين مثلاً، فيمكننا التخطيط. لكن ليست هناك ضمانات، ولا أحد يعرف أي شيء”.
ويمثل الموقع الأثري في جنوبي الأردن إحدى بؤر أزمة غير مسبوقة تواجهها صناعة السياحة العالمية، وهو ما يعرض 120 مليون مصدر رزق للخطر من دون نهاية واضحة في الأفق.
لكن الشوارع وغرف الفنادق والمطاعم الخالية في وادي موسى، البلدة التي تعتبر بمثابة بوابة للبتراء، تعكس أيضاً التحدي الشاق الذي ينتظر البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل على مدى السنوات القادمة. وقد نجحت معظم هذه الدول، ومنها الأردن، في تجنُّب أسوأ تبعات الفيروس حتى الآن. لكن وفقاً لصندوق النقد الدولي، لن تَسلَم من الضربة الاقتصادية الناجمة عن الفيروس، ومن المتوقع أنَّ الدول التي تعتمد على السياحة والضيافة محركاتٍ رئيسية لنموها هي أكثر من سيعاني.
55 ألف فرصة عمل في مهب الريح
من جانبه، علَّق سليمان فرجات، رئيس سلطة إقليم البتراء السياحي والتنموي: “في مجتمع مثل وادي موسى، يعتمد ما يصل إلى 80% من السكان على السياحة لتكون مصدر الدخل”. وفي أنحاء الأردن، تُسهم السياحة بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وتوفر 55 ألف فرصة عمل.
واستقبلت البتراء أكثر من مليون أجنبي العام الماضي، وهو ما دفع للشروع في حملة بناء في وادي موسى. فمن جانبه، كان سليمان حسنات يستعد لافتتاح فندق جديد في أواخر مارس، ويقول: “بمجرد أن أوقفوا الرحلات الجوية، أُلغِيَت جميع الحجوزات”.
وتنتشر تكلفة الإغلاق العالمي المفروضة بسبب الفيروس في أنحاء المدينة. ويقول حسنات: “إذا كنت تدير فندقاً، فإنك تشتري الخضار والفواكه من الأسواق. وتوظف أشخاصاً يشملون سائقي سيارات أجرة وعمال صيانة، وأصحاب الحمير والخيول. إلى جانب ذلك، يعتمد من يديرون المتاجر الصغيرة على السياح المتجولين. وحتى العاملين في الحمامات التركية في المدينة. في كل عائلة في البتراء، ستجد شخصاً تأثر بذلك”.
غياب شبكات الأمان
إضافة إلى ذلك، بدأ نظام الضمان الاجتماعي في البلاد، المُسجَّل فيه أقل من نصف العمال الأردنيين، في خفض مدفوعات الرعاية الاجتماعية. ومن دون تلقِّي مساعدة خارجية، يمكن أن تجف موارد صندوق الضمان في غضون أشهر.
أما بقية القوى العاملة في البلاد، بما في ذلك عشرات الآلاف من العمال المهاجرين، فليس لديهم شبكة أمان على الإطلاق، وهم معرَّضون بالكامل لتقلبات السوق وشراسته.
وقال معاذ، عامل يمني وصل إلى البتراء منذ عام: “هذا كل ما جمعناه خلال الشهرين الماضيين”، مُشهِراً فواتير عند ماكينة النقد في متجر صغير للبيع بالتجزئة يقع على بُعد أمتار قليلة من بوابات البتراء.
وأضاف أنه حتى خلال الشهور ذات معدلات السياحة المتردية، كان بإمكانه إرسال 200 دينار أردني (أقل من 300 دولار) لعائلته في صنعاء، لكنه قال: “الآن، لا أستطيع إرسال أي شيء”.
المدينة الوردية تموت دون دعم مباشر
من جانبها، تحاول الحكومة الأردنية تخفيف التأثيرات السلبية في صناعة السياحة من خلال التنازل عن بعض الرسوم وتأجيل فواتير الخدمات وتقديم القروض لأصحاب الفنادق والأطراف الآخرين. ويقول حسنات إنَّ هذه الإجراءات قد تنجح في المواقف التي انخفض فيها عدد السياح بمعدل بسيط، لكن عندما يصل للصفر على مدى شهور، فهناك حاجة لفعل المزيد.
ويقول: “نحن مدينون لحكومتنا؛ لأنها فرضت حالة إغلاق. فقد سيطرت على [الفيروس]. نحن في أيدٍ أمينة. لكن بمجرد أن يصبح الأردن دولة خالية من الفيروس، سننظر حولنا ونرى أنَّ المعظم بخير، لكن ليس السياحة. ستموت البتراء دون دعم مباشر أو حزم قروض”.
ولجذب زوار مرة أخرى، تعمل سلطات السياحة على وضع خطط لتسويق البتراء باعتبارها وجهة آمِنة في عالم ما بعد “كوفيد-19”. ويقول فرجات: “نحن نعتمد على السياحة في الهواء الطلق، مما يعني أنَّ الناس لن يعلقوا هنا في مناطق مغلقة. وسننظم تدفق السياح حتى لا تكون هناك أعداد كبيرة على مقربة من بعضها”.
ويتوقع فرجات عودة بضعة آلاف من الأجانب هذا العام، وربما تتبعهم مئات الآلاف في العام المقبل. ويقول إنه في أفضل السيناريوهات، ستستغرق السياحة عدة سنوات للعودة إلى الذروة التي حققتها عام 2019.