نصيحة أمي: لا تخجلي من هويتك الكردية! (الحلقة الرابعة من مذكرات سكينة جانسيز)
بفضل جهود أبي، حصلنا على بيتٍ بلا إيجار، في المساكن المخصصة للموظفين. إذ لَم نَكُن ندفع أية أجور، عدا فواتير الماء والكهرباء. كانت هذه المساكن مُخصَّصة بالأغلب للموظفين والمسؤولين في الدوائر الحكومية. إذ تتميز بمساحاتها الواسعة وأماكنها الجيدة. يتألف منزلنا من غرفتَين، ومن مكان مخصص كمخزن للحطب. وكان هناك في نفس الطابق ثلاثة منازل أخرى تسكنها ثلاث عوائل.
كان السكنُ في مساكن الموظفين في ديرسم يعني أنك مقرَّب من الدولة، وأنك بالتالي موظف في مؤسساتها ومن رجالاتها. وبالنسبة للعوائل التي تتقن اللغة التركية إلى حد ما، أو تلك التي تنتمي نسبياً إلى الأصول التركية، فإن سكَنَها بين عوائل تركية متميزة، كعوائل الشرطة والموظفين، كان يُزيد من وتيرةِ تتريكها. كان ذلك بالنسبة إلينا امتداداً لِما نتلقنُه في المدرسة من تتريك. وبطبيعة الحال، كنا نرى ذلك على أنه امتياز، فأتقَنّا اللغة التركية بسرعة. إنها بداية الحقيقة المرة، التي صفعَتني بها أمي ذات مرة، والتي أحسستُها في الصميم بعد عشرين سنة: “لا تخجلي من هويتك الكردية!”.
كنتُ أُرغِم أمي على التحدث باللغة التركية في المنزل أيضاً، كي تتعلمها بسرعة، وكي لا يَسخَرَ منها أحد من الجيران. وأحياناً كنتُ أقول لها: “إني أخجلُ منك، لأنك لا تتقنين التركية”. وردّاً على كلامي هذا، أكدَت لي أمي على ضرورة عدم خجلي من الهوية الكردية. ولَمّا تطوَّرَ وعيي الكردي والكردستاني نوعاً ما في السنوات اللاحقة، خجلتُ هذه المرة من خجلي من هويتي. إذ أدركتُ كم أنني اغتربتُ وابتعدتُ عن لغتي الأم.
كان المنزلُ الذي نقيم فيه مسكناً للعساكر قبل ذلك. حدَّثَنا أبي عن تلك الفترة، حين كان يأتي إلى هناك من القرية لإتمام دراسته الابتدائية. إذ كان يَبيت مع أقرانه في أقبيةِ تلك المساكن، عندما تُغلَقُ الطرقات إلى القرية شتاءً. ولَمّا بُنِيَت مساكن عسكرية جديدة، خُصِّصَت تلك المساكن للموظفين، فلَم يبقَ أي أثر يدل على أنها كانت سكناً للعساكر، عدا لون جدرانها الرمادي. كما رُدِمَ الحوضُ الذي كان يتوسط الحديقةَ، التي عُرِّيَت تماماً من أشجارها.
كانت الأبنية المُطلّة على المدينة تتكون من ثلاثة طوابق، بينما الأبنية الأخرى تَكَوَّنَت من طابقَين، لتُشبِهَ بذلك صندوقاً مربعاً. وقد بُنِيَت جميع الأبنية فوق الصخور التي تَحدُّ نهرَ منذر. وتميّزَت بوفرة ممراتها الداخلية، المنبسطة منها والمدرَّجة، إذ تؤدي طرقاتها إلى كل الأماكن. لكني كنتُ أحبذ دوماً العبور من الحديقة الوسطى، التي يُجاوِرها تلٌّ يَعلو قمتَه مطعمُ “تبه باشي”، وترتمي في أسفل أحضانه سينما صيفية. كان المطعم مخصصاً للضيوف المهمين والأثرياء فقط دون العوامّ، ويتسم بمنظر خلاب. إذ ينعطف نهر منذر في أسفله تماماً، وتتجلى منه الأبنية المتلاصقة للحي السفلي بحدائقها الخضراء. كانت طرقات ذاك الحي نظامية جداً، وطرازه المعماري مختلفاً.
أما منزل المحافظ، فيقع على حافة النهر تماماً، وينفرد عن بقية منازل الحي بأنه مؤلف من طابقَين. في حين كان موظفو الدولة من الطبقة العليا يسكنون المنازل الأخرى. وكأن ذاك الحي حدٌّ فاصل بين ديرسم والدولة. إذ يسكنه المحافظ والقائمّقام ومدير الأمن والكثير من بيروقراطيي الدولة وموظفيها الرفيعين.
وكأن ذاك الحي لا ينتمي إلى ديرسم بتاتاً. إذ يقع على حافة النهر، ولكل منزلٍ فيه حديقة. ولو أن أهالي ديرسم هم الذين سكنوه، لَبات لذلك معانٍ مختلفة دون شك. لكن ذاك الحي بسكانه هؤلاء، كان جامداً وغريباً علينا كلياً، ومختلفاً بأطفاله ونسائه ورجاله ولغته وثقافته. أما دخوله فكان أَشبَهَ بدخولِ ثكنة أو مخفر عسكري. كان يبث الذعر فينا!
كانت هناك مساكن الضباط أيضاً، والتي هي كناية عن أبنية ضخمة متعددة الطوابق، مطليّة باللون العسكري، وتطلّ على جسر ألازغ. لقد تأسست المدينة في مكانٍ صغيرٍ بقدرِ كفِّ اليد، أسفلَ تلِّ “دُلدول”، الذي يعيقُ اتساع رقعة المدينة من الخلف، ما جعلَ حوافّه تعجّ بالمنازل العشوائية. أما حي “الجبل”، فيقع على تلّ صغيرٍ شبيهٍ بأن يَكونَ ابناً لتلّ “دُلدول”. أما حي “دميرولوك” وحي “المشفى” فكانا في مدخل المدينة، التي احتوَت أيضاً مستشفى ومدرسة ثانوية تُجاوِرها أسفلاً “مدرسة البنات المهنية”، والتي تُجاوِرها أسفلاً “مدرسة الفنون للذكور”. أي أن ديرسم كانت مدينةً وفيرةَ المدارس.
وفي الجهة الغربية من المساكن، هناك حي “الغابة” المعروف باسم “منطقة الغابة”، والذي تختلط فيه المنازل بالمؤسسات الرسمية. وكان مبنى مديرية “الغابة” ومبنى الكتيبة العسكرية أكثر ما يلفت الأنظار فيه. أما مدرسة المعلمين، فتقع في الطرف المقابل من نهر منذر، في المنطقة المسماة “كالان ماميكي”، وكانت من أفخم المباني في ذاك الطرف، ويُجاوِرها حي “غازي”.
لقد شطَرَ نهرُ منذر المدينةَ إلى قسمَين، على غرار نهر الراين تماماً. أما مكان التقائه بنهر “هارتشيك”، فسُمِّي “بحيرة خضر”، التي هي كناية عن مزار مقدس يقصده الأهالي أيام الأربعاء عموماً، حتى يخال للمرء أن المدينة كلها تنتقل إلى هناك كل أربعاء. كانت عبارةُ “بِاسمِ خضر xızır vo” أحدَ أنواع اليمين والقَسَم الذي تعلمناه في الصِّغَر. كانت منطقةُ التقاءِ هذَين النهرَين تبث الذعر بدوّاماتها المائية العميقة، التي اختنق فيها شبانٌ كثُر. ولعل هذه الحوادث المروعة هي التي حوَّلَت المنطقةَ مزاراً مقدساً. فأياً يَكُن، فتقديسُ شيء ما، قد بدأ عموماً بعبادة الإنسان لكل ما عجزَ عن إدراكه أو تذليله أو فك طلاسمه. وعليه، كان كل يومِ أربعاء تعبيراً عن هذه المقاربة اللاواعية، من خلال إيقاد الشموع وتقديم القرابين والتفاني في النذور.
كانت قد تشكلت طبقة دهنية مكانَ إيقاد الشموع. ومَن يودّ أن يتمنى شيئاً، كان يضع على تلك الطبَقة الدهنية حجراً أو نقوداً. فإذا التصقت تحقَّقَ ما تمناه، وإذا سقطَت تَخيب آماله. وبما أن الأرضية كانت مرنة ولاصقة، فعادةً ما كانت الأمنيات تُقبَل! طالما وفدتُ ذاك المزار. وذات مرة، وضعتُ قطعةً معدنية من فئة 25 قرشاً على الطبقة الدهنية، متمنيةً من سيدنا “خضر” تيسيرَ أمري في امتحاناتي الكتابية في المدرسة. وسررتُ جداً لأن نقودي التصقَت بالطبقة، فأقدمتُ على الامتحانات بمعنويات عالية، وفزتُ بدرجات عالية.
كان تأثير العقيدة لديّ محدوداً بهذا الإطار. إذ ما كان لي أن أدرك جوهر الثقافة العَلَوية في ذاك العمر. لكنّ صورةً كبيرة لسيدنا علي كانت معلّقة في بيتنا. لكنّ انحدارَ أبي في الوقت نفسه من شريحةِ “بِير” أي الوَليّ، قد أثّر في استمرار تقاليد عشيرةِ “قُرَيشان” في هذا السياق. ولعائلتنا “بِيرُ”ـها (وَلِيُّها) أيضاً. أتذكر أنه عندما كان “بِيرُ”ـنا يزورنا في البيت، كنا نصطفّ أمامه حسب ترتيب الأعمار، يتقدمُنا أبي بالطبع، ويَدا كلٍّ منا معقودتان على بعضهما بعضاً. وبعد انتهاء الـ”بِير” من تلاوة الدعاء جالساً على الأريكة، كنا نُقَبِّلُ الأرض ثم قدَمَيه فيَدَيه. لكني لم أَكُن أستسيغ هذه الطقوس. لذا، قلّما شاركتُ فيها.
لم يمارس أبي شعائر شريحةِ الـ”بِير”، ولم يُلَبِّ دعوات الطالبيِّين له. والطالبيون هم السائرون على درب الوليّ (البِير)، وكذلك العشائر والجماعات المبايعة إياه. إذ يستلهمون الأدعية من الولي، ويقدمون له الهدايا التي يطلبها. لكنّ كل هذا انقلبَ رأساً على عقب في عائلتنا. فالطالبيون كانوا يزوروننا ويطلبون المساعدة من أبي. وعادةً ما يُحضرُ كل واحد منهم من قريته سطلاً صغيراً من اللبن وطاساً من الزبدة. لكنهم بالمقابل كانوا يأفلون مُحَمَّلين بما يفيض عن حاجاتهم. فمَن يقطن في القرية، عادةً ما كان بحاجة إلى السكر والصابون والاحتياجات الأساسية الأخرى. وأحياناً كانوا يأخذون الإكرامية أيضاً. نمطُ العلاقة ذاك كان يُضاعف من حبي لأبي. لذا، طالما كنتُ واثقة أنه يقوم بالأعمال الحسنة والفاضلة. كنتُ أتأثر في الصميم من مساعدته للآخرين. في حين أن أمي كانت تغضب أحياناً، متذرعةً أنه لا يجوز تعويدهم على ذلك.
إلى ذلك، كان أبي يرفض بعض الأمور الأخرى. إذ كان ينتقد الوليّ الذي يأخذ المال أو الهدايا التي يريدها في كل زيارة سنوية له إلينا، على الرغم من رغَدِ حياته المادية. وقد عبَّرَ أبي عن استيائه ذاك علناً أثناء زيارة الـ”بير” لنا، بعد عودة أبي من ألمانيا لقضاء العطلة. فأثناء زيارة الوليّ وضيوف آخرين، قال أبي بكل حميمية ما مفاده: “سأطرح سؤالاً على وَلِيِّنا، على أمل ألاّ يستاء مني. إنني أعمل كادحاً في بلاد الغرب، وأكدّس بعض النقود لإرسالها إلى أطفالي. إنهم لم يُحرَموا من شيء، ولكنهم جميعاً طلابٌ في المدارس. وأبوهم غائب عنهم. وقد يحتاجون إلى الرعاية. فهل سألتم يوماً عن أحوال أطفالي؟ هل أعطيتم إكراميةً ولو قرشاً واحداً لأحدهم ذات مرة؟ أهذه هي شعائر الوليّ؟ إن المعنويات أمر مهم. ويجب ألاّ تتذكر أنك وليّ أثناء عودتي من ألمانيا فحسب”.
كان الطموح والبحث يتسللان إلينا أيضاً في تلك الفترة. إذ غدَونا في سنٍّ تُمكّننا من مساءلة الكثير من الأمور. وعادةً ما كانت الأحداث والنقاشات تنعكس علينا بأحد جوانبها. وفي الحقيقة، إننا لم نَستسِغ انتقادات أبي تلك. إذ لم يكرر الوليّ زيارته إلينا بعدها أبداً.
ترجمة: بشرى على