من مذكرات سكينة جانسيز: نزاعات قرية عرش الخليل.. (الحلقة الثالثة)
حياتي كلها صراع..!(٣)
سكينة جانسيز
النزاعات التي شهدَتها قرية “عرش الخليل”
استيقظتُ ذات ليلية صيفيةٍ من ليالي القرية على ضجيج مرعب. كانت جدتي لأمي تصرخ وتولول، وبيدها عصا تُلوّح بها، مطالِبةً شباب القرية بالتجمع في الساحة. لم أَرَها حانقةً إلى هذا الحد إطلاقاً من قبل. لم أفهم ما حصل قبل ذلك. ولكن، ثمة حِراك غريب وسريع. كان البعضُ مستيقظاً للتو من نومه، ولم يدرك بعدُ ما يجري. بدأَت جدتي تسأل عن مكان خالتي المختَطَفة، وتَقذف مختطِفيها بالشتم واللعن. لم يَكُن أبي موجوداً. أما “مصطفى تشاللي”، زوجُ خالتي، فكان يتصرف بمكرٍ خبيث، وكأنه لا علم له بأي شيء! اقتربَ من جدتي متظاهراً أنه استيقظ للتو من نومه، وقال: “عسى خيراً في منتصف هذا الليل. ما الذي حصل؟ هل من خطب؟”.
وبطبيعة الحال، كان هو أولَ مَن تلقّى ضربات العصا. جرّبَ الكثيرون التظاهر بذلك بعده أيضاً. كان من الصعب فهمُ المجريات في غمضة عين. لكن كل شيء بات يتضح رويداً رويداً: لقد اختُطِفَت خالتي “مَلَك”. وكأنني أمام مشهد سينمائي مليء بالخوف والحماس والمغامرات وغير ذلك. ولولا تدخُّل خالي، لتَحَوَّل الأمر إلى قضيةِ ثأر.
كان أحد أبناء عشيرة “رايبار” قد تقدَّم بطلبِ الزواج من خالتي الوسطى “مَلك”. لكن الأقارب لم يستسيغوا الأمر، لأنهم يفضّلون زواجها من أحد أفراد العائلة. إلا إن جدتي لأمي لم تُصغِ لأحد، فعقدت خطبةَ خالتي على ابن عشيرة رايبار. ولأجل ذلك تُختَطَفُ خالتي بمساعدةِ بعض “المثقفين”. إنها عمليةُ اختطاف مثيرة حقاً. فكِلتا القريتَين بعيدتان بعضهما عن بعض، تتوسطهما عدة قرى. لكنّ جدتي محتاطةٌ لأمرها كالعادة. فالمنزل فسيح، وباب الدار مقفل من الداخل بمزلاج خشبي طويل. وهي تنام أمام باب الدار على سريرٍ مصنوع من خشب الأرز.
لكن مختطفي خالتي داهموا المنزل من عدة جهات، ويبدو أنه ثمة مَن ساعدهم من القرية بلا شك. إن نجاحَ عملية الاختطاف هذه أمر مهم. وإلا، فستغدو خالتي عروساً لدى عشيرةٍ أخرى. وبما أن إقناعَ جدتي كان أمراً عصيباً، فإنهم اضطروا لوضع هذه الخطة: سيتَّجهُ شخص أو اثنان من مجموعة الاختطاف إلى الحظيرة الصيفية، وسيتظاهران أن “ذئباً دخل بين القطيع”، وسيصرخان ويوَلوِلان بهدف إبعاد جدتي من باب الدار. وباقي أفراد المجموعة سينتهزون الفرصة بعد ذلك، بدخول المنزل واختطاف خالتي، والابتعاد فوراً عن القرية. كان إلهاءُ جدتي أصعبَ جزءٍ في الخطة. أي أن وظيفةَ كل شخص من المجموعة كانت محددة وواضحة.
عندما بدأت مأمأة النعاج تتعالى، أمسكَت جدتي بالعصا، واتجهت نحو الحظيرة. فدخل أفراد مجموعة الاختطاف إلى المنزل فوراً، وبدأوا يبحثون عن خالتي، ليَجدوها أخيراً تحت السلة الكبيرة المصنوعة من أغصانِ شجر الصفصاف، والتي يُحفَظ فيها الحليب واللبن وغيرهما من الطعام. عَقدوا قطعةَ قماش على فم خالتي فوراً، واختطفوها وهربوا سريعاً. ولَمّا شكّت جدتي في الأمر، بدأ أفراد العصابة الآخرون بإلهائها، فاقتربوا منها زاعمين أنهم عابرو سبيل، فقَبَّلوا يدَها، وتحدثوا إليها بهدف كسب الوقت. لكن جدتي ردّت عليهم بالضربِ بالعصا، فأصابت رأس أحدهم وجرحَته. لكنهم في النتيجة نجحوا في إلهاء جدتي لمدة، حتى تكسبَ المجموعةُ الأخرى الوقت الكافي. بدأَت جدتي بالصراخ مناديةً على خالتي بعبارات قاذفة. وعندما انتبهَت أنها ليست موجودة، أدركت أنها اختُطِفت، فلَحقَت بأفراد المجموعة.
ثمة طريقان يمران من قريتنا. لكن المجموعة التي اختطفت خالتي، قررت ألاّ تتجه إلى قرية علي. بل مرّت من قرية “كافون” قاصدةً قرية “عرش الخليل”، أي قريتنا. فهذه الطريق أكثر أماناً لهم. أما جدتي، فاتجهت على الفور نحو القرية التي يمكث فيها علي، أي إلى قرية “هوبوك”. وبدأت بالصراخ والعويل فور وصولها. فاجتمع أهالي القرية جميعاً في الساحة، ووجدوا جدتي تقول بإلحاح: “أَحضِروا ابنتي”. أخبرَها الأهالي أن علي وابنتها غير موجودَين في القرية. وأخيراً، اقتنعَت جدتي أنهما حقاً غير موجودَين هناك، فاتجهَت على الفور نحو قريتنا.
كانت خالتي في تلك الأثناء مُخبَّأة في حرش القرية. في حين، ذهب كلُّ مَن كان له يدٌ في اختطافها، ليَخلدوا إلى النوم في منازلهم، وكأنهم لم يفعلوا شيئاً. نجحَت حادثة الاختطاف بأحد جوانبها. لكن الأمر لم يَكُن ليَنتهيَ هنا. فعندما خرجَت جدتي من القرية، كانت قد أطلَعَت قرية “رايبار” المجاورة لنا بصوتِها الجَهور وصُراخها المدوّي عمّا حصل. وبالمقابل، أخبروها هم بحقيقة الأمر، واشتكوا إليها. وبطبيعة الحال، لم يَأتِ على بالِ أحد أن يصل الأمر إلى أجهزة الدولة.
داهمَت قواتُ الدرك القريةَ في اليوم الثاني، وفتَّشَت المنازل ثم الأحراش. فبناءً على الشكوى التي وصلتها، عقدَت القواتُ عزمَها على العثور حتماً على خالتي. وتعقَّدَت الأمور أكثر حصيلة عنادِ جدتي. إذ لم يتوقَّع أحد أن تصل الأمور إلى حدّ إخطارِ الدولة وتدخُّل قوات الدرك. وهذا ما أثر في العلاقات بين أهالي القرية، وتسبَّبَ بظهور ردودِ الفعل. بل حتى إن قوات الدرك جعلت من هذه الحادثة ذريعةً لتضرب العديد من أبناء القرية بمؤخرات البنادق. وَجَّهَ أهلُ القرية تهمةَ تقديم الشكوى إلى خالي “حسن”، الذي يعمل جابياً في الضرائب. لكن قسماً منهم كانوا يُخمّنون أن أهالي قرية “رايبار” هم المشتكون. وبازدياد جدية المسألة، تشكلت مجموعةٌ من أهالي القرية لإقناع جدتي بالعدول عن الأمر. لاشك أن جدتي أيضاً لم تستسغ ما جرى. لذا، وبمجرد أن هدأ روعُها وزال غضبها، اقتنعَت وسحبَت شكواها. أو بالأحرى، قالت أنها لَم تَشتَكِ. وهكذا رجعَت قوات الدرك إلى مراكزها.
قلَّت هيبةُ جدتي بعد هذه الحادثة، شئنا أم أبينا. فمواجهتها للجميع بسبب ابنتها، وشتمها إياهم، وغير ذلك من الحوادث الأخرى، قد وَلَّدَ خيبةَ الأمل والاستياء نوعاً ما. ولكن، في النهاية، وصلت خالتي مَلَك وعلي إلى مُرادهما، وأُقِيمَ لها عرسٌ في قرية “هوبوك”، ليَنتقلا منها إلى قرية “ميللي”، التي أصبحَ فيها علي مُعَلّماً. وبعد فترة طويلة من المقاطعة، لم تحتمل جدتي، فذهبَت لزيارة ابنتها، وصالحَتها.
أجل، لقد اهتزّت صورةُ جدتي في تلك الحادثة. فجَلبُها لقوات الدرك إلى القرية، وتسَبُّبها بضرب أبناء القرية على يد تلك القوات، قد أثر سلباً بدرجةٍ كبيرة. ولكن، ثمة تصرفٌ آخر لجدتي، هو الذي صدَم الأهالي أساساً، وأَثَّرَ فيَّ لدرجةِ أني لم أَنسَه ولم أغفرْه لها أبداً. لقد زعزعَت تلك الحادثةُ محبتي لقرية “عرش الخليل” ولـ”أزي”. لكنها أيضاً باتت دافعاً قوياً لي كي أنفر من كل الشجارات السيئة وغير العادلة.
لطالما ذُعِرتُ من نزاعات القرية. لكن أكثر ما أخافني وأثَّر فيّ، هو ذاك الشجار المروّع الذي حصل في قرية “عرش الخليل”. إذ حصلت عدة مشاجراتٍ لأسباب تافهة جداً في قرية “هوبوك”، التي اعتَدنا لبضعة سنين أن نقضي شهر الصيف فيها. فكان يحصل أنْ يضربَ الأهالي بعضَهم بعضاً، ويسود الاستياء في ما بينهم. كما كانت المقارباتُ الاستفزازية لبعض النساء تسفر عن تضخيم الحوادث التافهة، وتتسبب بردودِ فعلٍ عاطفيةٍ عصبية، وتنتهي بفَجِّ الرؤوس وإدماءِ الوجوه. كانت تلك النماذج من النساء يتسبَّبن بتأجيج التوتر في البيت والقرية على السواء. لذا، لَم يَكُن أحد يُحبُّهنّ. أنا أيضاً لم أحبّهن. بل كنت أغتاظ منهن ضمنياً، ولم أستطع بأي شكلٍ من الأشكال فهمَ نَكَدِهنّ.
بكل الأحوال، فإن عطلتنا الصيفية تلك في قرية جدتي كانت الأخيرة لنا. لم أعُدْ أذكر لِمَ ذهَبنا باكراً إليها في تلك السنة. إذ نَقَلنا سجلّنا الدراسي إلى مدرسةِ قريةِ “كافون”، قبل انتهاء العام الدراسي بشهر. فحرارة الصيف في المدينة كانت لا تُطاق. كما كانت أمي تود الإفادة من خيرات القرية. إذ تُزرَع البساتين، وتُستَخرَجُ السمنة وأقراص الكشك من حليب الأبقار والأغنام التي تمتلكها جدتي. فضلاً عن أن الماء والحطب بلا ثمن هناك، على عكس المدينة التي يُشتَرى كل شيء فيها بالمال. بالتالي، فما كنا نصنعه في القرية، كان يُعَدُّ وارداً إضافياً على راتبِ أبي.
كانت خالاتي وأخوالي أيضاً يأتون إلى تلك القرية كل صيف. ومقاربةُ جدتي من عائلتنا كانت تتوقف، نوعاً ما، على سلوك أمي التي تُعَدُّ أكبر البنات في عائلتها. كانت أمي على مسافةٍ في علاقاتها من إخوتها الآخرين. كما اتسمت علاقات أبي مع الغير أيضاً بخصوصيتها. أي أن علاقات القَرابة ليست من أولوياته، بل يُثَمِّن العلاقات الإنسانية أساساً. لذا، لَم تَكُن علاقاته ضيقة. وكموظف من الدرجة الثانية، كان يتميز باعتماده على ذاته في شق طريق حياته. لم يَكُن ماكراً، ولا متملقاً، ولا مهووساً بالمال. بل كان إنساناً قنوعاً.
كانت أمي تراعي التسامحَ المفرط مع بعض أولاد جدتي. ما أدى إلى ظهور بعض الحزازيات وفتور العلاقات أحياناً. في ذاك اليوم، حصلت بين أمي وخالتي “سكينة” مشادّة كلامية مزعجة جداً وعلى مرأى الجميع. تفاقم الأمر بينهما إلى درجةِ أنه انعكس على أبي، الذي كان يدردش مع زوج خالتي ملتزماً الهدوء حتى ذاك الوقت. إذ قلَبَ الاستفزاز والإغاظةُ الدنيا ولم يُقعِداها. وعلى الرغم من انسحاب أمي وذهابها لأجل حَلْبِ الماشية، إلا إن الحادثة ازدادت تفاقماً.
أما القطرة التي أفاضت الكأس، فكانت تلك الشتائم التي قَذَفَتها خالتي بحقّ أبي، الذي تدخَّلَ حتى حينها بالكلام فقط لفضّ الشجار، والذي نهضَ غاضباً حانقاً إثر ذلك، فحصل ما حصل. رأيتُ أبي يسقط في غمضة عين مُترَعاً بالدم، وينهال عليه بالضربِ المُبرِح كلُّ مَن وقعَت عليه عيناي: خالي، وخالاتي، وجدتي. تسمَّرتُ في مكاني، وبدأت أصرخ وأبكي بكل قوتي. أخي الأكبر أيضاً كان ما يزال صغيراً. ومع ذلك، كان يصرخ بين الحين والآخر قائلاً “كفاكم”، أو يرمي الحجارة عليهم لإيقافهم، ولكن دون جدوى. ثم تدَخَّلَ محمد، المزارع المستأجر عند جدتي، وتدخلت زوجته، وتَمكّنا من إنقاذ أبي. كان منظر أبي الدامي مروّعاً، فأخذوه إلى المدينة على الفور للذهاب إلى المشفى.
كان حادثاً مروعاً حقاً. والأنكى أن كل مَن كانوا فيه هم من الأقارب. ولكن، كيف يُمكن أن يُضرَب إنسانٌ لدرجةِ الموت من أجل لا شيء؟ عندما سمعَت أمي بالحادث، أمسكَت بحجرة كبيرة وهرعت إلى مكان الشجار. لكنها وصلَت متأخرة. وعندما رأت أبي مضرجاً بالدم، أقامت الدنيا ولَم تُقعِدها.
كلما تذكرتُ هذه الحادثة، تدمع عيني، وأتألم في الصميم. إذ لم أستسغْ بأي حالٍ من الأحوال أن يجتمع الكلُّ على ضرب أبي. كما إنني غضبتُ من أمي أيضاً وتألمتُ لأجلها في آنٍ معاً. إلا إن الغضب كان يطغى على الألم أو الأسف، لأنها هي التي ابتدأت الشجار، في حين أنّ أبي هو مَن طاله الضرب المبرح. ومَن ساهم في ضرب أبي، كانوا جميعاً من أقارب أمي.
ما كان لنا أن نبقى في القرية بعد ما حصل. رجعنا إلى المدينة فوراً. لقد تلقى أبي ضربات موجعة في جبينه ورأسه. ومن شدة حزنه وأسفه نَحفَ كثيراً. كان غاضباً من أمي، ويعلن عن غضبه من خلال سلوكه، على الرغم من قلة حديثه في الأمر. أما أمي، فاعترفت بخطئها، واعتذرت منه، وسعَت إلى إرضائه للصفح عنها. لم يَكُن أبي ناقماً. فعلى الرغم من تأثُّره في الصميم حتى الآن بالحادث، إلا إنه غفر للجميع ما بدَر منهم مع مرور الوقت. بل وتصافح مع أغلبهم. أما هؤلاء الأقارب، بما فيهم خالي الصغير، فخجلوا كثيراً مما جرى، وأدركوا لاحقاً سفاهة الأمر، وندموا على ما فعلوا.
دورُ المرأة في ذاك الشجار المروع أثّر فيّ كثيراً، وجعلني أمعن في التفكير لاستنباط العِبَر.
ترجمة: بشرى علي