«موسى حوامدة»: كانت بلدتي معبرا للفدائيين في مواجهة الاحتلال.. وصورة فدائي وحيد لا تفارقني.. (الحلقة الثالثة)
يستمر الشاعر موسى حوامدة في سرد قصة حياته، تحتل فلسطين.. وتظل بلدته معبرا للفدائيين إلى الأراضي التي احتلتها دولة الاحتلال الاسرائيلي، وفي بلدته يأتي الاحتلال يسيطر على الأرض ويبدأ في مسيرة الادعاء بوجود تاريخ لهم..
فإلى بقية حكايته .. التي تمثل مسيرة حياة الشاعر وسيرة الأرض والوطن:
كانت البلدة التي ولدت فيها، “السَّموع”، تقع آخر سلسلة جبال الخليل جنوباً، وتطل على صحراء النقب، وحين كنت أنظر إلى خارطة فلسطين، وأبحث عن موقعها، كنت أجد نقطةً في منتصف المسافة بين شمال فلسطين وجنوبها، وفي نفس المسافة تقريباً بين الشرق والغرب، عرفت فيما بعد؛ أن ترسيم الحدود عام 1950 نزع أكثر من نصف أراضي البلدة، التي ظلت نفسها ضمن حدود المنطقة التي صارت تعرف باسم الضفة الغربية، والتي صارت جزءاً من أراضي المملكة الأردنية الهاشمية، بعد إعلان الوحدة مع الضفة الشرقية لنهر الأردن، في مؤتمر أريحا عام 1952م.
في تلك المنطقة الجبيلة المطلة على البحر الميت شرقاً، وصحراء النقب جنوباً، والخليل وبيت لحم والقدس (التي تبعد خمسة وثلاثين كيلو متراً فط عن الخليل) شمالاً، كانت بلدتنا، وكنت أقول لنفسي حينما أرى خضرة فلسطين، التي تتناقص كلما هبطت من الشمال إلى الجنوب، يبدو أن الأجداد وفروا الشمال الغني والخضرة، وأقاموا في هذه المنطقة بسبب توفر الخلاء الواسع والمراعي قديماً والكهوف التي تساعدهم للسكن فيها، أو تحويلها إلى زرائب، أو تعلقهم البدائي بالبداوة، فسكنوا على أطرافها، واضعين رجلاً في الجبال، ورجلاً في الصحراء، فعاشوا البداوة والفلاحة معاً، وعيونهم دائماً تتجه شمالاً، إلى القدس، بل إن هناك أقاويل أن هناك نفقاً تحت الأرض يصل البلدة التي كانت موقعاً رومانياً او كنعانياً هاماً بالقدس، لكن ما صار يصل إلى القدس من تلك البلدة، هو مياه السيميا شمال البلدة، والتي تطفو على بحر من المياه الجوفية، حيث قامت اسرائيل بحرمان أهل البلدة من هذه المياه، وجرها عبر أنابيب ضخمة إلى مستوطناتها في مدينة القدس المحتلة حتى اليوم.
مر على البلدة كما مرَّ على بقية فلسطين، جوع، واحتلال، وانتداب، واستبداد، وفقر، وتجهيل، وظلم، ورغم أن سكان تلك البلدة كانوا لا يزيدون على أربعة آلاف نسمة، حينما ولدتُ، لكنهم كانوا فسيفساء فريدة وعالماً قائماً بذاته.
كما توجد في البلدة آثار رومانية، حيث هناك الكثير من الحجارة التي لا زالت تظهر عليها الحروف اللاتينة، منقوشة نقشاً، كما أن شجر الزيتون هناك قديم جداً، مزروع منذ أيام الرومان.
وقد بني مسجد باسم عمر بن الخطاب، فوق مبنى قديم كان يسمى الولي عبدالله، والذي يقال أن عمراً توقف فيه مع ناقته، وهو في طريقه إلى بيت المقدس.
للحيطان آذان
منذ الصغر؛ كانت لدي حساسية عالية، لا أدري أسبابها، وذاكرة قوية تحتفظ بالأشياء المهمة التي أسمعها، وبأشياء قد لا تكون مهمة لكنَّ صوراً ما ترسخت في ذاكرتي حتى اليوم، ومن تلك الصور، مشهد الفرسان وهم يجرون شاباً مربوطاً بحطته المرقطة بالحصان، كانوا يضربونه بالسياط، والشاب يحاول الإفلات منهم، وحين انتبه أبي إلى وجودي، حملني ورماني بسرعة داخل الحوش، فعدت أحاول التملص لرؤية ما يجري، وأعادني أبي الذي كان يخاف الفرسان، (ومن كان لا يخافهم)، إلى الداخل، محاولاً ألا أرى شيئاً، لكني رأيت المشهد الذي انطبع في ذاكرتي.
في الليل، وبعد أن نام الجميع، بقيتُ قلقاً، وأنا أفكر فيما رأيت، وانتبه أبي، فهددني كي أنام، ولكني لم أعرف النوم، حتى سألته مرة واحدة، لماذا كانوا يضربونه، وكررت السؤال، لكنه رفض أن يجيبني، وصار يهمس لي، كأن هناك من يتنصت علينا: (اسكت، حط راسك ونام)، لكني لم أعرف طعم النوم، ولمّا أدركَ أني قلقٌ، نادى علي، وقال بصوت خافت: اسمع سأقول لك غداً، ولكن الآن لا أستطيع فللحيطان آذان، بدأت أنظر في العتمة، أبحث عن آذان للجدران، حتى غفوت.
ولم يخبرني في اليوم التالي، لكني عرفت فيما بعد، أن الفرسان كانوا يضربون ذاك الشاب لأنه كان من الفدائيين الذين كانوا يتسللون عبر الحدود، إلى داخل (اسرائيل).
معبر المهربين والجواسيس والفدائيين
فقد كانت بلدتنا معبراً للمهربين والجواسيس والفدائيين، وكان الفرسان الذين يراقبون الحدود على الجانب الأردني، لهم ثلاثة مخافر اثنان قريبان من الحدود، والثالث في علية “العنيد”، وسط البلد، وقد كانت للفرسان سطوة على أهل البلدة والبلدات الحدودية، فهم يعتقلون ويضربون الناس بالسياط، ويفرضون على من شاؤوا أن يطبخ لهم الدجاج البلدي، أو الخراف البلدية، وأحياناً يجبرون البعض على إطعام خيولهم سكراً، وكان السكر شحيحاً، ويباع كمكعبات، وكان الفقر منتشراً، لكن ذلك لم يكن يمنعهم من فرض هذه الأتاوات على من شاؤوا.
وأحياناً لا يعحبهم الطعام، ويطلبون تبديله، كما حدث مع جارنا أحمد اسماعيل (أبو نبيل) آذن المدرسة، فقد ضربوه لأنه أعدَّ لهم عشاء من لحم خاروف صغير، اشتراه بالدين، وأجبروه على إعداد عشاء من الدجاج البلدي، وبعد أن جهز لهم العشاء ثانية، وأجهزوا عليه، اقتادوه إلى المخفر، وأوقفوه في النظارة، ولم يفرجوا عنه إلا بوساطة المختار الذي سينال ثمن الإفراج عنه لاحقاً.
صورة الفدائي لا تغادره
على الجانب المحتل، أي داخل الأراضي التي صارت محتلة من قبل (اسرائيل)، هناك حرس الحدود (مشمار غفول) المشكل من اليهود والبدو والدروز، وهم الذين يتصدون للمتسللين، ولكن بالرصاص الحي، وكثيراً ما شاهدت الجنازات العائدة من وراء الحدود، لعدد من الشبان والرعيان وعابري الخط الأخضر، ولم يكن أحد يجرؤ أن يسأل من الذي قتله، وكان دمه يوزع بين الفرسان العرب، وحرس الحدود اليهود، وبعض البدو، ورربما كانت تتم تصفيات من باب الثأر أيضاً، أو الخلافات الشخصية، أو لأي سبب ثان بين المتسللين والمهربين أنفسهم، وحتى بين أهل البلدة، حيث تتراشق التهم، ويتغذى الحقد والكيد، ولكن من كان يعرف ويعلم، أو يستطيع أن يسأل.
ظلت صورة الفدائي الشاب، وذلك المشهد محفوراً في رأسي، وبقيت أفكر فيه، ولم أعرف، ولم أدر كيف أمسكوا به، وما الذي كان قد فعله، ولا أدري إلى أين قادوه، وما كان مصيره، كل النهايات ظلت مجهولة لدي، ولو عرفت لربما ارتحت، أو نسيت الموضوع، ويبدو أن الغموض هو الذي حفظ ذلك المشهد دون غيره. فقد رأيت الكثير من الجنازات لعدد من الشبان الذين قتلوا على الحدود، وشاهدت أمهاتٍ مفجوعاتٍ يبكين على المقبرة، التي كانت ملاصقة لبيتنا العتيق، وكان ذلك يشعرني بالحزن، ولكني كنت أنسى، وأتناسى، ولا تظل من تلك الأحداث على أهميتها، إلا بعض الصور الضبابية، لكن ذلك المشهد، مشهد الشاب المربوط في ذيل الحصان، والمُكتَّف بحطته، لم يمح، ظل حاضراً، رغم مرور كل هذه السنوات.