مواجهة بين الصين وأمريكا في ميناء استراتيجي بإفريقيا
يؤدي مسار ترابي في ميناء دوراليه الجيبوتي إلى سلسلةٍ من المباني المتواضعة ذات الطابق الواحد، التي استضافت في وقتٍ مبكر من العام الجاري أكبر قوتين عالميتين.
اتخذ الوفد الصيني مقاعده إلى أقصى يمين المنصة، حيث أعلنت الأدميرال هايدي بيرغ رسمياً بدء التدريبات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة باسم «Cutlass Express»، بحسب ما نقلته شبكة CNN الأمريكية.
هذه التدريبات إلى جانب عددٍ آخر من التدريبات السنوية التي تقودها الولايات المتحدة في جميع أنحاء القارة الإفريقية تعد وسيلةً منخفضة المخاطر والتكلفة بالنسبة للقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) لكي تكتسب الحلفاء الإقليميين وتحافظ عليهم.
النفوذ الصيني يتزايد في القارة الإفريقية بشكل عام
لكن في جيبوتي -وهي دولة صغيرة تعداد سكانها 884 ألف نسمة فحسب، وتعد حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في البحر الأحمرـ وفي عموم أنحاء إفريقيا، ينافس طرفٌ جديد على ولاءات دول المنطقة، وهو الجيش الصيني، الذي يؤكد نفوذه في القارة على نحوٍ متزايد.
إذ افتتح جيش التحرير الشعبي الصيني أول قاعدةٍ خارجية له في جيبوتي عام 2017. يقع هذا المجمع الخرساني الرمادي المترامي الأطراف في موقع متميز بجوار واحدٍ من الموانئ الأساسية في جيبوتي، ويبعد 15 دقيقة فحسب بالسيارة عن معسكر ليمونيه، القاعدة الدائمة الوحيدة للجيش الأمريكي في إفريقيا.
تكمن أهمية القاعدة في موقعه، حيث يعد معسكر ليمونيه موقعاً استراتيجياً للمهمات الأمريكية في الخارج. إذ استُخدم كنقطة انطلاق لعمليات الاستخبارات الأمريكية وعمليات مكافحة الإرهاب في القارة الإفريقية وخارجها.
لذلك أصبحت إزعاج لأمريكا، فالوجود الفعلي لجيش التحرير الشعبي الصيني في إفريقيا أصبح مصدر قلق استراتيجي طويل الأمد بالنسبة لأمريكا، بحسب أحد مسؤولي أفريكوم، كان مصرحاً له بالحديث بشرط عدم الكشف عن هويته.
وأضاف مسؤول أفريكوم: «لقد طوَّر الصينيون تحركاتهم بكل وضوح، وهم في نهاية المطاف يقدمون أشياء يريدها شركاؤنا ويحتاجونها. ولدينا مخاوف من أنَّهم قد تفوقوا علينا في بعض الأماكن».
كيف تبدو العلاقة بين الطرفين على الأرض؟
ومع ذلك، فكلا الطرفين ينخرط على أرض الواقع في جهودٍ دبلوماسية تتسم بالاحترام. إذ دعا المسؤولون العسكريون الصينيون الأدميرال بيرغ وفريقها في الليلة التي سبقت تدريبات Cutlass Express على متن مدمرةٍ صينية كانت راسيةً في الميناء القريب.
وللمرة الأولى، رحبت بيرغ بقائد جيش التحرير الشعبي الصيني ليانغ يانغ في الحفل الافتتاحي للتدريبات.
وعندما طُلب من بيرغ التعليق على مسألة التنافس الصيني الأمريكي، سارعت بإعادة تركيز الانتباه على ما تستطيع الولايات المتحدة تحقيقه لحلفائها.
إذ قالت بيرغ: «أعتقد أنَّنا نريد أن نضمن عدم تصوير الأمر وكأنَّ إفريقيا ساحة خلفية وميدان لنا لحيازة الأفضلية على الصين. نحن هنا، واستثمارنا وتركيزنا منصبان على دعم شركائنا الأفارقة».
الصين تصف هذا التوسع برحلة جديدة في التاريخ
ورفض الفريق الصيني المشارك في حفل افتتاح تدريبات Cutlass Express التعليق لشبكة CNN، لكنَّ الرئيس شي جين بينغ أوضح في قمة رفيعة المستوى في بكين عقدت في سبتمبر الماضي أنَّه يسعى إلى «شراكة استراتيجية وتعاونية شاملة» مع إفريقيا، تشمل حزمةً من المساعدات والاستثمارات والقروض لإفريقيا بقيمة 60 مليار دولار.
وقال شي جين بينغ: «نحن على وشك الانطلاق في رحلة جديدة في التاريخ».
أهداف التوسع الصيني في إفريقيا
تعمل الصين منذ سنوات على توسيع روابطها العسكرية بإفريقيا، من خلال البعثات الموسعة لحفظ السلام، وتدريب العسكريين، ومنتدى مبادرة السلم والأمن الصينية الإفريقية.
وقال المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية جينغ شوانغ عام 2017 إنَّ قاعدة جيبوتي جزء من جهودٍ مستمرة لإحلال السلم والأمن في المنطقة.
وأضاف شوانغ: «استكمال القاعدة وتشغيلها سوف يساعد الصين على الوفاء بالتزاماتها الدولية على نحوٍ أفضل في القيام بمهمات الحراسة والمساعدات الإنسانية.. وسوف يساعد أيضاً على تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في جيبوتي».
الخلاصة: ما الذي يقلق أمريكا إذاً؟ الإجابة تكمن في في قرب القاعدة الصينية من معسكر ليمونيه وميناء جيبوتي الرئيسي للحاويات، الذي يعد المصدر الأساسي للإمدادات لتموين قوة قوامها حوالي 4 آلاف عسكري أمريكي في القاعدة.
وقال الجنرال توماس والدهوسر، قائد أفريكوم، أمام لجنة إحاطة عقدت في وقتٍ قريب في مجلس الشيوخ: «ليس سراً أنَّ 98٪ من الدعم اللوجستي لجيبوتي، وكذلك الصومال وشرق إفريقيا، يأتي عبر هذا الميناء. هذا الميناء واحد من 5 موانئ في عموم جيبوتي. وكذا، فإنَّ وصولنا إلى هناك ضروري ومطلوب».
عدم وصول أمريكا لهذا الميناء سيعد ضربة مدمرة للمصالح والعمليات الأمريكية، وإحدى الطرق التي يمكن أن يحدث بها هذا الأمر أن تستغل الصين ديون جيبوتي للسيطرة على الموانئ الجيبوتية. ذلك أنَّ الصين تمتلك حوالي 80٪ من ديون البلاد.
وقالت لينا بن عبدالله، الأستاذة المساعدة بجامعة وايك فورست، التي يركز بحثها على العلاقات الصينية الإفريقية: «ربما تبدو القاعدة (الصينية) تهديدية أو مريبة أو مصدراً للخوف، لكنَّ تركيا لديها قواعد في المنطقة، والإمارات لديها قواعد، والسعودية تريد قاعدة، واليابان لها قاعدة».
وأضافت لينا أنَّ القاعدة الصينية أثارت انزعاج الولايات المتحدة بسبب خطاب «الخوف» المتنامي عن الصين.
وتابعت: «انعدام الثقة بين واشنطن وبكين ينتشر حقاً، وقد أخذ بُعداً عالمياً».
مخاوف الديون التي علقت بها الدول الإفريقية مع الصين
طورت الصين في السنوات الأخيرة علاقاتها العسكرية المستمرة منذ عقود مع الدول الإفريقية، من خلال توسيع برامج التدريب وزيادة مبيعات الأسلحة، وأصبحت الآن المزود الثاني بالأسلحة لدول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بعد روسيا، والمزود الثالث لشمال إفريقيا بعد روسيا والولايات المتحدة، وفقاً لبحثٍ أجراه معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
لكنَّ ممارسات الإقراض الصينية في القارة تقع في القلب من المخاوف الأمريكية. فمنذ عام 2000، اقترضت الدول الإفريقية حوالي 130 مليار دولار من الصين، وفقاً لتحليلٍ أجرته جامعة جونز هوبكنز. وتضاعف حجم القروض ثلاث مرات منذ عام 2012، وذلك بشكلٍ كبير من خلال مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وقال غابرييل كولينز، المؤسس المشارك لمركز الأبحاث China SignPost: «هذه هي الركيزة الأساسية التي انبنت عليها الاستراتيجية الصينية. فعندما تنظر إلى التاريخ فإنَّك تشكل البيئة على نحوٍ استباقي، وتشكل أرض المعركة المحتملة، لكي يقرر خصومك عدم الخروج إلى الميدان من الأساس. ثمة إمكانية حقيقية لاستغلال الديون بهذا الشكل».
وقد كان مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون صريحاً بشأن هذا الأمر في العام الماضي، إذ زعم أثناء خطابٍ ألقاه أمام مؤسسة التراث وحدد فيه سياسة ترامب في إفريقيا: «تستخدم الصين الرشاوى، والاتفاقيات الغامضة، والاستخدام الاستراتيجي للديون لجعل الدول الإفريقية أسيرة لمطالب بكين».
وقال كولينز إنَّ خطاب بولتون يجعل من مواجهة هذا التهديد المتصور أمراً أكثر صعوبة. وأوضح: «عندما يكون افتراضك الأساسي هو أنَّ أمريكا أولاً، فأظن أنَّ هذه وجهة نظر ضيقة للغاية. نحن بحاجة إلى أن ندرك أنَّ أكبر التحديات في إفريقيا وأكبر الفرص أيضاً تحدث في مساحةٍ غير تقليدية في مجالي الأمن والتنمية».
القلق الأمريكي مردّه تاريخاً، فهذا ما حدث مع سريلانكا
يمكن أن يكون خوف الولايات المتحدة من خسارة وصولها إلى الميناء مرده إلى التاريخ. إذ سلَّمت سريلانكا عام 2017 ميناءً أساسياً للصين بعد التخلف عن سداد القرض الصيني.
في هذه الحالة، أخذت الحكومة السريلانكية بقيادة رئيس الوزراء ماهيندا راجاباكسا في ذلك الوقت هذا القرض الصيني الذي تبلغ قيمته 1.5 مليار دولار لتنمية ميناء هامبانتوتا، والذي فشل في نهاية الأمر. ومن أجل أن تُخفف سريلانكا من عبء ديونها، وافقت على تسليمه بموجب عقد إيجار لمدة 99 عاماً.
ويشير مؤيدو مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى أنَّ هذا البرنامج عادةً ما يمول مشروعات ضرورية للغاية يعجز المستثمرون الآخرون عن دعمها، وأنَّ تركيزها على البنية التحتية، واستهدافها استثمار تريليون دولار في مجال البناء، له أثر مباشر على القارة.
لكن الصين تنفي هذه النوايا، فقد صرحت وزارة الخارجية الصينية مراراً بأنَّ استثماراتها في إفريقيا تأتي غير مصحوبةٍ بأي قيودٍ سياسية، وأنكرت مراراً انخراط الصين في ما يشار إليه باسم «دبلوماسية فخ الديون».
ويصر المسؤولون الجيبوتيون على أنَّ البلاد سوف تحتفظ بالسيطرة على موانئها، وأنَّ لدى الحكومة حتى الآن سجلاً قوياً في تسديد قروضها.
وقال أبو بكر عمر هادي، رئيس سلطة موانئ جيبوتي والمنطقة الحرة: «يأتي التمويل بشكلٍ أساسي من الصين، لكنَّنا نملك الاستثمارات والأصول. سواءٌ كنا نتكلم عن ميناء أو سكة حديدية أو منطقة حرة، فنحن نملك ثلثي استثماراتنا».
لكنَّ جيبوتي تدرك مخاطر الاعتماد على الصين. إذ عاد هادي لتوه من رحلةٍ إلى آسيا وأوروبا في محاولة لجذب الاستثمارات. وأضاف: «لا نريد أن نعتمد على جانبٍ واحد فحسب، أو على قارة واحدة أو بلد واحد».
يشعر هادي بالاستياء من فكرة أنَّ بلاده وبلاداً أخرى في القارة واقعة في هذه المنافسة بين القوى العظمى، وتابع: «العالم بحاجة إلى أن يفهم، سواءٌ كنا نتكلم عن الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، أنَّنا سوف نقرر مصيرنا… الجميع مرحب بهم».
قد لا يساهم الموقف الرسمي لحكومة جيبوتي في طمأنة المتشككين، الذين يعتقدون أنَّ برنامج الاستثمار الصيني واجهة لدوافع أكثر شراً تتمثل في ترك بصمةٍ عسكرية في جميع أنحاء العالم.
ما تخشاه أمريكا الآن، هي النظرية التي تقول «لو استمرت الصين في التوسع غير المقيد، عسكرياً واقتصادياً على حد سواء، وإذا لم نتنافس لحماية نفوذنا، فقد تكون نتيجة ذلك خروجنا تدريجياً من هذه المناطق، وفقدان القدرة على ما تحقيق مصالحنا القومية لمواجهة الإرهاب في إفريقيا حسبما نراها»، بحسب ما قاله مسؤول أفريكوم.
وقالت لينا، الأستاذة بجامعة وايك فورست، إنَّ مواجهة القوة الاقتصادية للصين لا ينبغي أن تقع على عاتق أفريكوم.
وأضافت: «تعمل الصين (في إفريقيا) منذ حوالي عقدين من الزمان، وهي تفعل ذلك بطريقةٍ ذكية للغاية، من خلال شبكات وصلات وثيقة تطورها منذ سنوات».
وتابعت لينا أنَّ معظم توسع الصين في إفريقيا هو نتيجة لاهتمامٍ استراتيجي يقوده شي. إذ سافر الرئيس الصيني في 6 رحلاتٍ إلى القارة، ومنذ يناير/كانون الثاني عام 1990، كانت أول زيارة يقوم بها وزير الخارجية الصيني كل عام مخصصة لدولةٍ من دول إفريقيا.
وقال كولينز، مؤسس China SignPost، إنَّ القوة الناعمة كانت سمةً مميزة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية لفترة طويلة، وإنَّ أفضل ما ينبغي للإدارة الحالية فعله أن تتبنى نهجاً متعدد الأطراف للعلاقات في إفريقيا.
وأضاف: «يمكنك أن تنشئ فروعاً متعددة للجامعات بثمن طائرةٍ واحدة بدون طيار أو طيارة مقاتلة، وسوف يظل لديك الأموال لدعم هذه المشروعات على المدى الطويل».
وتابع كولينز: «ثمار تلك الاستراتيجية لن تكون فوريةً بالنسبة لأشخاصٍ غير صبورين مثل بعض الأشخاص في إدارتنا الحالية، لكنَّنا لو تبنينا استراتيجية تركز على السبب الجذري، فسوف نجني أرباحاً هائلة من ذلك بعد عشر سنوات من الآن».
لكن إلى أن تتمكن الولايات المتحدة من تحديد نهج يوافق عليه «جميع أطراف الحكومة»، فإنَّ البعض يعتقدون أنَّ معظم المسؤولية لا تزال واقعةً على عاتق أفريكوم.
وقال مسؤول أفريكوم: «لقد انتقلنا من العالم أحادي القطب، وبدأنا ندرك أنَّه ثنائي القطب في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال متعدد الأقطاب. لدي وجهة نظر قاسية. أظن أنَّنا نخسر. في إفريقيا نحن نخسر».