من أين يحصل الحشد السعبي بالعراق علي تمويله؟
في يونيو 2014، وبينما قوات الجيش العراقي المرابطة في الموصل تشكو نقص التعزيزات، قبيل ساعات من سقوط ثاني أكبر مدن العراق بأيدي داعش، تأتي الاستجابة من بغداد، ممثلة في رئيس الوزراء حينها نوري المالكي، رافضة أي محاولة لتغيير الوضع المأساوي.
وعلى أثر موقف المالكي المثير للجدل، انهارت المؤسستان الأمنية والعسكرية في الموصل، وتحول السلاح والعتداد من حيازة الجيش إلى قبضة داعش في تحول “مريب”، كما وصفه لموقع “سكاي نيوز عربية” مصدر عسكري واستراتيجي عراقي، اشترط عدم ذكر اسمه، مضيفا أن هذا السقوط مهد لتشكيل “للتعبئة الشعبية”، وهي الخطوة التي بدت إيذانا بتشكل مأساة السنوات التالية.
وبعد 4 أشهر على سقوط الموصل، وتحديدا في 24 أكتوبر 2014، خرجت “ميليشيات الحشد الشعبي”، بتعزيزات ضخمة، في عملية استغرقت يومين لتستعيد السيطرة على ناحية جرف النصر قرب العاصمة بغداد من براثن التنظيم الإرهابي.
وفي أسابيع، باتت ميليشيات، من المفترض أنها ولدت حديثا، لاعبا أساسيا في مشهد عراقي ملغم، وتحول اسم “الحشد” لغزا جديدا وخطيرا في بلد لا تنتهي ألغازه أو تنفك عقده، فيما فرضت تطورات الأشهر والسنوات اللاحقة علامات استفهام كبيرة.. من أين حصلت ميليشيات الحشد الشعبي على ما فشل الجيش العراقي في نيله؟ وكيف تطورت الحوادث وصولا إلى ما يعيشه العراق اليوم؟
تساؤلات قد تبدو إجابتها في نظر كثيرين، أقرب إلى البديهيات، فمساعدة “جار” يفاخر بإعلان أجندات واضحة مادية ولوجستية، لا تخفى على أحد، لكن المال القادم من الشرق ليس وحده ما صنع “الحشد” أو أبقى ميليشياته على قيد الحياة، والقصة التي سنكشف تفاصيلها لاحقا أكثر إثارة ومأساوية بكثير.
وقائع تتجاوز حسابات المصالح السياسية وصراعات الهيمنة إلى مشاهد من نوع آخر، مكانها عوالم إجرامية، ومفرداتها خمور ومخدرات وصولا إلى بائعات هوى، ومواخير في شوارع مظلمة.. سياسة تقتات على جريمة، ومصالح لا تلقي بالا لمبادئ أو حتى لشعارات تنادي بها ليل نهار.
إن تتبع تمويل الحشد الشعبي لا يستقيم من دون رواية قصة الميليشيات ذاتها، أصلها ونشأتها وتطورها، وهو ما سنتطرق إليه باختصار خلال السطور التالية قبل عرض ما توصلنا إليه بشأن قنوات التمويل.
البداية.. “الجهاد الكفائي”
في 13 يونيو من عام 2014، توسع اتحاد فصائل شيعية مسلحة، بعدما استجاب عشرات آلاف العراقيين لدعوة المرجع الديني الشيعي علي السيستاني إلى حمل السلاح، لمواجهة تنظيم داعش الذي سيطر على ثلث أراضي العراق حينها.
وصفت فتوى السيستاني فقهيا بـ”الجهاد الكفائي”، إذ دعا كل من يستطيع حمل السلاح إلى التطوع في القوات الأمنية لقتال داعش، ونادى بالتعبئة الشعبية لدرء خطر التنظيم الإرهابي.
لكن من لبوا دعوة السيستاني لم يتطوعوا في القوات الرسمية، وإنما عرفوا طريقهم إلى ميليشيات مسلحة كانت موجودة بالفعل قبل الحشد الشعبي وشكلت نواته مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر.
توحدت تلك الميليشيات، التابعة إما لأحزاب أو حركات أو أشخاص، تحت اسم “وحدات الحشد الشعبي”، بدعم وتدريب وتمويل نظام الملالي الإيراني، وقائد فيلق القدس، التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني.
ميليشيات تصنع الحشد
بحسب مصادر معنية تحدثت إلى موقع “سكاي نيوز عربية” يفوق أعضاء الحشد الشعبي 140 ألفا، بين مجموعات قتالية وأخرى لوجستية، جميعها لا تزال منتشرة في مناطق عدة من العراق، ومن أبرز هذه الميليشيات:
– منظمة بدر
تأسست في إيران عام 1981، لقائدها هادي العامري.
اتهمت بتصفية كوادر ونخب عراقية انتقاما لسنوات الصراع مع إيران.
نسبت إليها جرائم طائفية خاصة في محافظة ديالى.
تساهم في الحشد بأكثر من 24 ألف مقاتل، من أصل عشرات آلاف المقاتلين المسجلين لديها.
– كتائب حزب الله
أعلنت ولاءها لإيران ومرشدها علي خامنئي، ويتزعهما جعفر الغانمي.
يعتقد أنها تشكلت بمساعدة من ميليشيات حزب الله في لبنان عام 2007.
تساهم في الحشد بأكثر من 8 آلاف، من أصل 40 ألف مقاتل.
– عصائب أهل الحق
انشقت عن جيش المهدي، لزعيمها قيس الخزعلي.
تساهم في الحشد بألف من أصل 10 آلاف مقاتل.
إيران ليست وحدها
تقول البرلمانية العراقية عن تحالف القوى نورة البجاري لموقع “سكاي نيوز عربية” إنها توصلت بناء على معلومات من قادة الفصائل وبيانات رسمية إلى أن الدولة تخصص راتبا للمنتسب بالحشد الشعبي يبلغ 750 ألف دينار شهريا (حوالي 630 دولار)، وذلك قبل الزيادة الأخيرة التي أقرها رئيس الوزراء حيدر العبادي.
وأضافت “قبل قانون مؤسسة الحشد الشعبي القاضي باستقطاع جزء من ميزانية الدولة لتمويل الفصائل، ظلت قوات الحشد تنشط في العراق دون معرفة مصادر تزويدها بالأسلحة والمركبات والمرتبات”.
إن التمويل الإيراني لتلك الميليشيات، لا يخفى على أي متابع، لكن الأزمات الاقتصادية المتتالية التي تعصف بنظام الملالي تطرح سؤال منطقيا: “هل لا تزال إيران تنفق على تلك الميليشيات”؟
تقول الجباري: “بالطبع أغلب التمويل يأتي من إيران، وفصائل الحشد تعترف بذلك”.
لكنها تضيف أن تمويل تلك الميليشيات “لا يتوقف على الدول فقط، بل يعتمد أيضا على الشخصيات التي تقودها، فقادة الفصائل يملكون مؤسسات، ولديهم امتيازات، ويتمتعون بمناصب خاصة في الدولة”.
فهادي العامري، على سبيل المثال، وهو قائد منظمة بدر، كان وزيرا عراقيا سابقا، وهو عضو حالي بمجلس النواب.
في السياق ذاته، تأتي شهادة أخرى مهمة من مصدر أمني، اشترط عدم ذكر اسمه، أكد أن ميليشيات العراق الموالية لإيران تمتلك استثمارات، وموارد عدة، وقنوات فضائية.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف حصلت هذه الميليشيات على الأموال التي مكنتها من بناء هذه الإمبراطورية الاستثمارية؟
يجيب المصدر ذاته، والذي يصف نفسه بأنه ينتمي إلى التيار الوسطي بعدما كان من أشد المقربين إلى الحشد “عن طريق الإتجار في العملة بين إيران وجهات موالية لها تستثمر في موارد العراق”.
أما الباحث في الشؤون الإيرانية حسن راضي قال : إن إيران وميليشياتها ستزيد من الاعتماد “على مصادر التمويل الأخرى”، بالنظر إلى العقوبات الأميركية المتتالية عليها بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي.
ويوضح راضي “تعتمد إيرادات الحرس الثوري الإيراني، الذراع الخارجية لنظام الملالي، وميليشياته في المنطقة مثل حزب الله اللبناني، على تهريب المخدرات والبضائع والدعارة”.
ويفسر هذا “انتشار المخدرات والنوادي الليلية في العراق في الفترة الأخيرة، خاصة بالمناطق التي يزيد فيها نفوذ الميليشيات الموالية لإيران”، وفق الباحث في الشؤون الإيرانية.
وفيما يخص هذه النوعية المشبوهة من التمويل، التي تعتمد عليها الميليشيات يقول مصدر أمني سابق: “الجميع في العراق يعرف ذلك”.
وطوال أسابيع من الاتصال بأطراف موالية ومعارضة للحشد الشعبي، وأخرى تعد نفسها مستقلة، لتقصي تفاصيل وأسرار اعتماد الميليشيات العراقية على مصادر تمويل “مشبوهة”.
وبينما تحدث إلينا كثيرون باستفاضة وقدموا مشاهداتهم ورصدهم وتحليلاتهم لواقع الميليشيات ومصادر تمويلها، امتنع آخرون عن الحديث فور سؤالهم تحديدا عن تلك المصادر، بينما اشترط آخرون عدم ذكر أسمائهم.
ويعكس توجس هؤلاء سطوة ونفوذ الميليشيات غير الخاضعة لأي نوع من أنواع الرقابة، التي حولت الأراضي العراقية إلى مناطق نفوذ تتقاسمها فصائل الحشد.