من أين نبدأ؟!.. بقلم/ محمد أرسلان علي
لطالما كتب الكثير من الفلاسفة والمثقفين والحكماء على مرّ العصور آلاف الصحف والكتب والمقالات حول وجوب تجاوز الأزمات المعاشة قبل أن تتحول إلى ظاهرة تفتك بالمجتمع على غير قليل من الضحايا. إلا أنها مشيئة الإنسان بحد ذاتها أن لا ينتبه لهذه المحن والآهات إلا بعد مرور الوقت. وكما يُقال: “بعد أن يصل السكين إلى العظم” أو “بعد أن يضرب الفأس بالرأس”. إلا أنه وفوق كل ما يدور ويحدث، تبقى اللامبالاة هي المتحكمة بين البشر في أكثر المراحل خطورة، وربما يكون لهذا أسبابه السسيولوجية المجتمعية والتركيبة الفكرية لهذه المجتمعات. حيث أنه حينما لا يجد الإنسان أن له قيمته ومكانته ضمن المجتمع الذي هو عضو مؤسس وفاعل فيه، ويكون مهمّشاً قدر المستطاع من قبل النظم المتحكمة في السلطة الإدارية والسياسية، حينها يتقوقع الإنسان على نفسه ويتحول إلى شخص اتكالي خَنوع نظراً لقلة حيلته.
إنها حالة صراع الإنسان مع نفسه في محاولة منه للإقدام على تغيير ما يراه أو ما يعايشه. هذا الصراع الذي يبدأ في كثير من الأحيان بحالة من الهيجان والحماس ويفرض على صاحبه في الكثير من الأوقات عدم استخدام الأسلوب المناسب في الوقت المناسب والمكان المناسب، ربما يكون السبب الرئيس في حالة التراجع التي تصيب الإنسان حتى يصل لاتخاذ موقف النظر إلى الحياة بشكل عادي وكأن شيئاً لم يحدث. أو أنه يضمر في داخله ويصل لمرحلة الكبت الانفعالي النفسي تجاه الكثير من المواقف التي قد يراها خاطئة. أو أنه يتخذ الموقف المعاكس تماماً ويقارب من السلبيات بكثير من الفظاظة وبأسلوب فج يزعج أقرب المقربين منه أو حتى ينفرهم من أسلوبه هذا الذي يراه مناسباً وعلى صواب في الكثير من الأحيان.
موقفان ربما نراهما كثيراً في مواقفنا ومقارباتنا في الحياة التي نسعى بداخلنا أن تكون الأفضل أو الأنسب أو الأصلح. قد ندخل هنا في نفق مظلم وهو: من يحدد مقياس الأفضل والأنسب والأصلح؟ وما هي آلياته وأساليبه وأهدافه؟…. الخ، والكثير من الاستفسارات التي إن دخلنا في تفاصيلها لن نخرج إلا بتحويرها وإخراجها من جوهرها على أقل تقدير.
ربما يتعلق هذا بالجغرافيا أيضاً أي بالمكان وكذلك الزمان، لِما لهما من تأثير قوي على تشكل البنية الذهنية للانسان. قد تحدد هذه العوامل الهيكليةَ الشخصية للمرء منذ ولادته وحتى مماته وما يعاش بين هاتين المرحلتين. وبما أن الإنسان بتعريف مبسط هو ابن بيئته التي ولد فيها، حينها تكون شخصية هذا الانسان كناية عن تراكم ثقافي ممتد لآلاف السنين لهذه البيئة التي تحدد معظم سلوك الانسان هذا. حيث أنه وعبر التاريخ كانت ثمة قواعد تحدد سلوك الانسان ضمن العائلة الكبيرة أو لنقل الـ “كِلان”، التي كانت تُعَدّ الخلية الأم التي تشكلت منها المجتمعات عبر التاريخ والتي منها اتخذت القرى الأساس في بنائها. تم التأكيد على هذه الروابط عبر الكثير من الرقم الطينية التي عُثِر عليها في التلال الأثرية المترامية على جغرافيا مابين النهرين، لاسيما شماله الذي يُعَدّ من المراحل البدائية لتحول الإنسان إلى الزراعة وتسييس الحيوان وتدجينه وانتقالاً لجنوب الرافدين حيث المرحلة الثانية من التطور المجتمعي والذي شهد بداية ظهور المدن.
ربما كان بناء القرى التحولَ الأكبر في حياة الانسان الممتدة لمئات الآلاف من السنين والتي كانت فيه المرأة هي الإدارية التي ترعى شؤون الكلان البدئي، وهي المحرك الأساس في تحديد قواعد الحياة والسلوك اليومي لكافة أفراد الكلان. هذه القواعد التي تحولت إلى ما نسميه الآن “الأخلاق”، كانت القوة الوحيدة التي من خلالها يتم ضبط أي سلوك شاذ قد يقوم به أحد أفراد هذا الكِلان البدائي. كانت المرأة مصدر الأخلاق هذه والمرتبطة بحسها وشعورها الطبيعي في رعاية العائلة الكبيرة وفق منطقها الأمومي المحب للجميع من دون تفرقة وكلٌ حسب عمله ومكانته. ربما هذا ما جعل من المرأة إلهة لأنها كانت بمقارباتها الطبيعية مصدر الخير والانتاج والعدالة في توزيعه، مما رفع من مكانتها المجتمعية ضمن هذا الحيز الصغير من الزمكان.
مع مرور الزمن أدى التنوع في أدوات الانتاج وأساليبه إلى زيادة الإنتاج لبعض السنين مما دفع بالمرأة الأم والإلهة إلى التفكير في كيفية الإفادة القصوى من هذه الزيادة الانتاجية لاستخدامها في أوقات متأخرة وفي غير زمانها، وهو ما دفعها لاكتشاف الاقتصاد المنزلي والذي أساسه تخزين الانتاج لوقت الحاجة بل الضرورة.
هذه التدابير الاحترازية جعلت الثقافة تتطور أكثر في تأمين المصطلحات والرموز اللغوية مع مرور الزمن لاستيعاب الأمور المستحدثة والطارئة التي لم يكنّ يعرفنها. وعلى سبيل المثال: مصطلح “ناموس” المستخدم بكثرة على أنه القانون الصارم الذي لا يقبل الاجتهاد ولا التأويل في اتخاذ القرارات، قد تحول مع مرور الزمن إلى الشرف حتى وقتنا الراهن. ثمة علاقة قوية بين الشرف والناموس وفق المنطق التاريخي للمجتمعات الزراعية والتي تختلف طبعاً عمَّا يتم تعريفه في حاضرنا والتي كانت المدينة وتشكلها سبباً في هذا التحريف الذي أصاب المصطلح. حيث كان الناموس والشرف مرتبطَين ارتباطاً وثيقاً بتأدية المرأة لوظيفتها الاقتصادية المعتمدة أساساً على الزراعة والانتاج، والأهم من ذلك هو التخزين لوقت الضرورة.
الأم المثالية هي التي كانت تعرف الكمية التي يتم استهلاكها ضمن الكِلان وما هي احتياجاتهم وما هي الكمية التي ينبغي توفيرها لقادم الأيام. الناموس إذاً مرتبط بمدى حرص المرأة على أسباب العيش على مدار السنة لجميع الأفراد وذلك بحسابات معقدة كانت تقوم بها.
ربما يمكن عَدُّ ثالوث (المرأة + الزراعة + التخزين = الناموس والشرف) ثالوثاً مقدساً في المجتمع الريفي القروي والذي ما زال مستمراً في هذه المجتمعات حتى راهننا. والمرأة التي لا يمكنها صون وحماية هذا الثالوث كان يُقال أنها عديمة الناموس لأنها لم تستطع تأمين مسببات الحياة لأفراد جماعتها وكان يتم عقابها على فعلتها هذه أو التقليل من قيمتها ضمن الكِلان.
التحول الكبير الذي برز كان في بداية ظهور المدن الكبيرة نوعاً ما مقارنةً بالقرى المترامية على أطراف الأنهار. ظهور المدن الكبيرة أو الانتقال من المجتمع الزراعي والرعوي نحو الحياة المدنية البيروقراطية وما رافقها من التحولات الفكرية والعملية الكثيرة، قد حرّضت على العمل في مجالات بعيدة عن الزراعة وعلى التفكير في حِرَف أخرى أقل تكلفة وأقل اعتماداً على الحياة القاسية للقرى والتي كان أساسها الكد والجهد الكبيرَين.
الهروب نحو المدن هو بداية الانتقال من الجهد العضلي والجسدي للانسان نحو البحث عن حياة سريعة تكون فيها مستلزمات الحياة متوفرة بشكل دائم. حيث تأسست المدن على الزيادة في الانتاج والوفرة فيه. والبحث عن أماكن تخزين لها كان العامل المؤثر في حدوث الفرز الذي قد يكون هو أول تمييز طبقي في المجتمعات.
ولَّدت هذه العملية الكثير من الوظائف التي استجلبت المنبوذين من حياة الكِلان والذين كانوا يتحينون الفرص للحصول على أكبر قدر من الغذاء. الطرد الذي كان يحل بكل شخص لا يلتزم بالقواعد الاخلاقية والناموس الكِلاني والذي كان معظمه من نصيب الرجال، قد جعلهم يتفننون بألف حيلة وحيلة لسرقة المجهود الثقافي الأمومي الممتد لآلاف السنين.
كان هذا هو الصراع الأول الذي أفرز ثقافة مغايرة تماماً ومانزال نعاني منها في راهننا. إنها ثقافة الانتقال من الاعتماد على الجهد والكد الملازم للعمل الزراعي والمعتمد أساساً على العمل الجماعي لكل أفراد الكِلان إلى العمل الفردي الذي يُخضع العملَ الجماعي لأنانيته وروحه الفردية. صراع ربما استمر آلاف السينين بين الإلهة المرأة والرجل الذي يبحث عن ذاته من خلال الاستئثار بالمرأة والحط من قيمتها ومن مكانتها المجتمعية.
تُذكِّرنا الكثير من الملاحم والأساطير الرافدينية التي تم تدوينها على الرقم الطينية بهذا الصراع والتنافس، والذي انتقل إلى الأطراف ولكن باسماء مختلفة مع بقاء الجوهر كما هو. ملحمة جلجامش تُعيننا كثيراً في البحث عن أسباب هذا الصراع وتُخبرنا بالكثير من أسبابه وخفاياه، والتي ما زلنا نجهلها على أقل تقدير.
صراع ننهورسج وجلجامش وكذلك الصراع بين أنكي وإنانا التي أصبحت ستار وتحولت إلى عشتار في ثقافة أوغاريت، هو نفسه صراع أوزوريس وإيزيس في المدنية المصرية القديمة، وهو نفسه الصراع بين أثينا وإسبارطة في الثقافة اليونانية، وكذلك في الثقافة الهندية البوذية والصينية الكونفوشيوسية. التقارب بين هذه الثقافات ليس محض صدفة إذا أدركنا أن المعين هو واحد وأنه انتقل إلى الأطراف من نفس المصدر، أي من حواف جبال زاغروس في ثقافة بلاد الرافدين العليا الجبلية ومنه إلى المناطق السهلية من الرافدين والتي شهدت بدايات تشكل المدن.
هذا الصراع كان دموياً بكل معنى الكلمة في “البانثيون” والتي أصلها سومري ومعناها (مجمع الآلهة). الصراع الذي كان يحدث في البانثيون هو صراع على السلطة ومركزية السلطة على من ستقع. استمر هذا الصراع الذي لاقى صداه في المدن تحديداً بالاقتتال الذي كان يدور فيما بينها. فهناك مدن أور، أوروك، لكش، أدوبا، كيش، أوما، نيبور، لارسا، أوريدو، عيلام، سوبار، آل عبيد… وغيرها الكثير من المدن، والتي كان لكلٍّ منها إله خاص بها. وصراع الآلهة قد جعل هذه المدن تتصارع فيما بينها بغية فرض النفوذ ونهب الانتاج وتوزيعه على الجنود، على الرغم من أنّ هذه الغنائم هي ملك للشعوب يمنحها إياها الإله وفق سلطته ومشيئته الربانية. بعدما كانت كل مدينة ترعى شؤونها بنفسها بعيداً عن التدخل في أمور المدن الأخرى وكأن نظامها كان فيدرالياً على مرّ عصور من الزمن، حتى جعلت من حاكم أوروك جلجامش الذي كان نصف إله ونصف انسان يبحث عن السيطرة على كافة المدن الأخرى ليفرض هيبته ومركزيته وليعلن من بعدها ألوهيته الشاملة على كافة المجتمعات والمدن.
مسيرة محاولة جلجامش في البحث عن الخلود والمدونة في ملحمة جلجامش تدغدغ مخيلتنا حينما نقرأها بتمعن فيما يخص معنى الخلود الذي كان ينبش عنه هذا الملك نصف الإله ونصف البشر. فهل كان جلجامش يريد الهرب من نصفه البشري ويتشبث بنصفه الإلهي كي يكون من الخالدين؟ أم أنه كان يقترب من عشتار التي ينظر إليها على أنها جزءٌ منه وحارب من أجل الحصول عليها وضمها لمُلكيته الخاصة؟ أم أن الخلود وفق منطق جلجامش كان لا بد أن يرجع إلى أصوله الإلهية التي كانت عليه أمه في المجتمع الأمومي ليتخلص من أبيه الذي كان كنايةً عن بشر عادي وفانٍ؟ ربما كان جلجامش بشخصه يعاني الصراع ذاته الذي استمر آلاف السنين بين الرجل والمرأة من أجل السلطة والتي كانت تعني فيما تعنيه (الخلود).
تخبرنا سردية جلجامش في نهايتها أنّه تم انفصال البشر عضوياً عن العصر الأمومي، ودخلوا عصرهم الثاني وهو عصر البشر الفانين. وهذا ما أيقنه جلجامش في نهاية ملحمته وبحثه عن الخلود مع صديقه أنكيدو ذي الأصول الجبلية.
وما زال صراع رؤساء القبائل والمدن والدول يعيشون صراع جلجامش الأبدي في بحثهم عن الخلود الأبدي والذي يجدونه فقط في الاستحواذ على السلطة والمال والانتاج واخضاع الشعوب لقوانينهم الإلهية. فقناعة “ظل الله على الأرض” التي تمسَّك بها الملوك لآلاف السنين، قد جعلتهم يثقون بأنهم من الآلهة وأن كل ما يقومون به هو وصايا إلهية وعلى الجميع تنفيذها دون تردد. ربما هذه هي العقلية التي سيطرت على الكثير من الملوك ليعلنوا ألوهيتهم على الشعوب والدول المجاورة والتي أشعلوها حرباً مقدسة تحت إطار ديني وذلك بأمر من الله.
هكذا تشكلت الامبراطوريات عبر التاريخ وكان الامبراطور “ظل الله على الأرض” و”كليم الله” الذي يَنزل إليه الوحيُ ليُخبر الناس بما يريده الله منهم، بدءاً من آكاد أول أمبراطورية على وجه الأرض بعد سومر إلى بابل وآشور وميديا – برس واليونانيين والرومان – البيزنطيين في بلاد الرافدين شمالاً ومصر القديمة التي كانت وما تزال المدنية الوحيدة التي حافظت على نفسها على مرّ العصور حتى وقتنا الحاضر.
ويبقى سؤال “من أين نبدأ؟” للوصول إلى حقيقة صراع المدن من أجل السلطة، والذي تم إلباسه القناع الوثني والذي تحول مع الزمن إلى قناعٍ ديني في وقتنا الحاضر. من أين نبدأ لمعرفة الحقيقة المخفية في أساس الصراعات التي نعيشها الآن بين المدن للاستحواذ على الهيمنة والسلطة وإخضاع الأطراف للمركز؟ نفس المنطق مستمر حتى راهننا منذ أكثر من عشرة آلاف سنة وما زال منطق السلطة والحرب لم يختلف وإن اختلفت مسميات الدين، لكن تبقى سردياته المخفية محافظة على ذاتها وجوهرها وإن اختلف مكانها. صراع بدأ بين ميزوبوتاميا العليا وميزوبوتاميا السفلى لمرحلة طويلة حتى تم التوافق بينهما والتوصل إلى نتيجة أن العيش المشترك هو أساس الحياة.
تحول بعد ذلك الصراع ومع بروز الديانة التوحيدية متجسدةً في شخص سيدنا ابراهيم من أورفا ومسيرته الملفتة للانتباه والمتجهة جنوباً نحو القدس وسيناء ومنها إلى مكة. صراع هذه المدن ما زال مستمراً حتى راهننا حول مَن منها سيكون المركز والأساس والمهيمن. ربما تجلى صراع هذه المدن بكثير من الأشكال إلا أنه ما زال مستمراً وهو ما سنبحثه من خلال الكتابات اللاحقة.