مناورة عسكرية كادت أن تشعل حربا عالمية ثالثة
كادت مناورةٌ عسكريةٌ، تحل ذكراها السنوية الخامسة والثلاثون هذه الأيام، أن تشعل فتيل حرب عالمية ثالثة. “بي بي سي فيوتشر” تكشف عن وثائق كانت تفرض عليها السرية تُظهر حقيقة ما حدث.
في السابع من نوفمبر 1983، تجمع نحو مئة من كبار ضباط الجيوش في مقر حلف شمال الأطلسي (ناتو) في بروكسل لـ”خوض” الحرب العالمية الثالثة. كان ذلك عبارةً عن تدريب محاكاة عسكريٍ سنويٍ يُعرِفَ باسم “أبِل آرتشر” في ختام مناورة عسكرية واسعة النطاق بالأسلحة التقليدية، أُطلِقَ عليها اسم “ضفدع الخريف”، وشارك فيها عشرات الآلاف من جنود قوات الحلف في أنحاء مختلفة مما كان يُسمى وقتذاك أوروبا الغربية.
وقد أُجري تدريب “أبِل آرتشر 83” في وقتٍ تصاعد التوتر على صعيد الحرب الباردة. فالعلاقات بين دول حلف وارسو من جهةٍ، وبلدان “الناتو” من جهةٍ أخرى، كانت بالسوء الذي طالما اتسمت به.
ففي وقتٍ سابقٍ من ذلك العام، أطلق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان على الاتحاد السوفيتي لقب “إمبراطورية الشر”. وفي سبتمبر/أيلول، أسقط طيارون سوفيت طائرة ركاب تابعةً للخطوط الجوية الكورية من طراز بوينغ 747، وهو ما أدى لمقتل كل من كانوا على متنها، وعددهم 269 شخصاً.
في الوقت نفسه، انخرطت القوى الواقعة على جانبيْ الستار الحديدي في عملية نشر صواريخ نوويةٍ متوسطة المدى، بما في ذلك صواريخ كروز كانت مخزنة في قاعدة غرينهام كومون الجوية جنوبي إنجلترا، وكانت قادرةً على ضرب أهدافها في غضون خمس دقائق فحسب من إطلاقها. وهكذا كان العالم على شفا اندلاع شرارةٍ تشعل صراعاً نووياً عالميا.
ووفقاً للسيناريو الخيالي الذي قامت عليه مناورة “أبِل آرتشر 83″، تمثل العامل الذي أدى لنشوب الحرب المُفترضة في اندلاع اضطراباتٍ وفوضى في منطقة الشرق الأوسط تقود لإحداث ضغوط على إمدادات النفط الواصلة إلى الاتحاد السوفيتي.
ويتزامن ذلك مع اتخاذ يوغوسلافيا – التي كانت تتبنى موقفاً غير منحازٍ لأيٍ من طرفيْ الحرب الباردة – قراراً بدعم المعسكر الغربي.
وبحسب رؤية واضعي تصور المناورة، يؤدي ذلك إلى أن يخشى القادة السوفيت من أن يفضي الموقف اليوغوسلافي إلى تدافع باقي دول أوروبا الشرقية للسير على الدرب نفسه، مُحوّلةً الولاء من حلف وارسو إلى حلف الأطلسي، بما يضع النظام الشيوعي كله في خطر.
وتبدأ الحرب المُتخيلة وفقاً لهذا السيناريو، عندما تعبر الدبابات السوفيتية الحدود إلى داخل يوغوسلافيا، ثم تغزو الدول الإسكندنافية بعد ذلك.
ولا تلبث القوات السوفيتية أن تتدفق على أوروبا الغربية، لتُجبر قوات “الناتو” على الانسحاب من فرط ارتباك تلك القوات من ناحية وقلة أعدادها من ناحية أخرى في مواجهة الجنود السوفيت. وبعد أشهرٍ قليلة من نشوب هذا الصراع العسكري المُفترض، تجيز الحكومات الغربية استخدام الأسلحة النووية.
يعقب ذلك إطلاق قوات حلف الأطلسي المشاركة في المناورة – وبشكلٍ افتراضيٍ بالطبع – صاروخاً نووياً متوسط المدى يمحو مدينة كييف عاصمة أوكرانيا من على الخريطة. وقد أُطْلِقَ هذا الصاروخ كإشارة وتحذيرٍ من أن “الناتو” على استعداد لتصعيد الحرب.
وكانت النظرية هنا تتمثل في أن هذه “الإشارة النووية” ستساعد القادة الأكثر حكمةً والأقل تأثراً بمشاعر الغضب في السيطرة على الموقف. لكن ذلك لم يُجدِ نفعاً.
وبحلول 11 نوفمبر 1983، كانت القوى المتصارعة قد أطلقت العنان لاستخدام ترساناتها النووية، ليُدمر الجانب الأكبر من عالمنا ويلقى المليارات من البشر حتفهم، وتزول الحضارة من على وجه البسيطة.
إشارةٌ غير مقصودة
في وقت لاحقٍ من اليوم نفسه، عاد القادة العسكريون لقوات الناتو إلى ديارهم، وهم يتبادلون التهانئ لإجرائهم مناورةً عسكريةً ناجحةً أخرى.
لكن الحكومات الغربية لم تكتشف سوى فيما بعد أن تدريب “أبِل آرتشر 83” العسكري كاد أن يتسبب بشكل خطير في إشعال حرب نووية حقيقية.
ويمكننا الاستعانة هنا بما يقوله نات جونز مدير “مشروع تطبيق قانون حرية المعلومات” بمعهد “أرشيف الأمن الوطني” بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وهي منظمةٌ مستقلةٌ غير هادفةٍ للربح تدافع عن مبادئ ما يُعرف بـ”الحوكمة المفتوحة”، والتي تكفل للمواطنين الحق في الاطلاع على الوثائق الخاصة بحكوماتهم لكي يتسنى لهم الرقابة الفعالة على أفعالها.
ويقول جونز في هذا الصدد: “هناك أدلةٌ على أعلى المراتب والمستويات في الجيش السوفييتي تفيد بأنهم كانوا يجدون صعوبةً متزايدةً في التمييز بين التدريبات والهجمات الفعلية. نكدس الآن مجموعةً من الوثائق التي تؤكد أن السوفيت كانوا مذعورين حقاً من أن الغرب سيشن ضربةً نوويةً”.
وإذا ما تسنى لك زيارة مكاتب معهد “أرشيف الأمن الوطني” في مقره بجامعة جورج واشنطن، فستجد هذه المكاتب مكدسةً بالملفات والصناديق، التي تتراص إلى ارتفاعاتٍ عالية، وهي تحوي الوثائق بين جنباتها.
بل إنك تكاد تسمع حفيف الأوراق المتراصة على كل رفٍ، وهي تنوء بما تحمله من معلومات كانت الحكومات تفضل إبقاءها طي الكتمان. وبالنسبة لجونز، تطلب كشف النقاب عن تفاصيل تدريب “أبِل آرتشر 83” وما ترتب عليه سنواتٍ من الإصرار والمثابرة.
ويقول الرجل: “أتذكر (عندما بدأت) الذهاب إلى (قسم) المحفوظات، ليُسْخَرَ مني ويُقال لي إنني لن أرى هذه الوثائق أبداً لأنها مُصنفةٌ على أنها في غاية السرية”.
لكن بعد 12 عاماً كاملةً، من تقديم الطلبات التي يُستند فيها إلى قانون حرية المعلومات، ومن الشكوى والمطاردة والإلحاح بشكلٍ مستمر، آتت كل هذه الجهود أُكُلها عام 2015. ويصف جونز تلك اللحظات بالقول: “تلقيت هذه الحزمة في بريدي، (وهي عبارة عن) التقرير الاستخباراتي الرئيسي الذي يتضمن كل المصادر، ولكي يصبح الأمر أفضل (بالنسبة لي) وصلني في يوم عيد ميلادي”.
أُعِدتْ هذه الوثيقة في عام 1990 على يد المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية في الولايات المتحدة، وهو جهةٌ تابعةٌ للرئيس الأمريكي مباشرةً، وحملت عنوان “فزع السوفيت من الحرب”.
وباستثناء بعض الفقرات القصيرة التي أُعيد تنقيحها وصياغتها، يتناول التقرير – المؤلف من 109 صفحات – وبالتفصيل العواقب غير المقصودة لـ “أبِل آرتشر 83″، وهو ما يجعل تلك الوثيقة جديرة بقراءة جادة متبصرة
بين “أبِل آرتشر 83” وما سبقه من تدريبات مماثلة في السنوات السابقة، فقد تضمن ذلك التدريب اتصالاتٍ مُشفرةً وفتراتٍ من الصمت اللاسلكي الكامل. كما اشتمل على نشر قواتٍ على الأرض. بل بلغ الأمر حد إجراء اختباراتٍ في بعض القواعد الجوية الأمريكية على تذخير الصواريخ وتصويبها، إذ أُخْرِجَتْ هذه الصواريخ من حظائرها وهي تحمل رؤوساً هيكليةً تشبه تلك الحقيقية.
وعُني تقرير عام 1990 بالتدقيق في رد الفعل السوفيتي على التدريب الذي نتحدث عنه هنا، وذلك استناداً إلى معلوماتٍ استخباراتيةٍ جُمِعَتْ في الشهور التالية لإجرائه.
وشمل هذا الرد إلغاء طلعاتٍ جويةٍ وإبقاء الطائرات في مرابضها، ونقل أسلحةٍ نوويةٍ لتكون جاهزةً للنشر في مواقعها، وتحديد أهدافٍ ذات أولوية. كما كان هناك تشديدٌ غير مسبوق على تنفيذ إجراءات الدفاع المدني. وهكذا اتخذت تلك التدابير كل المظاهر الخاصة بالتحضير الكامل للتحسب لإمكانية اندلاع حرب.
فقد تبين أن القيادة السوفيتية لم تصدق أن “أبِل آرتشر 83” مجرد تدريب، وإنما اعتبرته ستاراً لضربةٍ أولى نوويةٍ فعليةٍ، وقد استعدت للرد والانتقام من مثل هذا الهجوم.
ويقول جونز في هذا السياق: “الفزع من الحرب كان حقيقياً، وذاك الرد العسكري غير المسبوق الذي كان سيحدث كان مخيفاً للغاية. لا نريد أن يَحْسَبْ أعداؤنا أننا سنشن ضربةً أولى، عندما لا تكون لدينا أي نوايا للقيام بذلك”.
إذن كيف أُسيئ تفسير تدريبٍ عسكريٍ سنويٍ للناتو بشكلٍ فادحٍ كما حدث؟ للتعرف على إجابة هذا السؤال، عكف جونز وزملاؤه مؤخراً على التنقيب بدقةٍ شديدةٍ في المصادر الروسية، بما في ذلك أرشيف جهاز ” كيه جي بي” في أوكرانيا.
ويقول الرجل: “وجدنا مجلةً عسكريةً سوفيتيةً تعود إلى عام 1984، تتضمن تحليلاً مُفصلاً لـ(أبِل آرتشر).. وكان واضحا من الطابع المفعم بالقلق الذي كان يكسوها أن الجيش السوفيتي كان مصاباً بالهلع”.
وربما يجب علينا هنا أن نتذكر أن زعيم الاتحاد السوفيتي في عام 1983 كان يوري أندروبوف، وهو رئيسٌ سابقٌ للـ”كيه جي بي”، وأحد المنتمين للحرس القديم في بلاده بامتياز، إذ وصل إلى منصبه عبر الترقي في صفوف الحزب الشيوعي.
لكن في الوقت الذي وصل إلى قمة هرم السلطة، كان هذا الرجل معتل الصحة بشكلٍ خطيرٍ، ومٌصاباً بجنون العظمة والشك على نحو خطرٍ كذلك.
برأي مارتِن تشالمرز – نائب المدير العام لـ”المعهد الملكي للخدمات المتحدة” والمعروف باسم “آر يو إس آي” وهو مركز أبحاثٍ يتخذ من لندن مقراً له – “كان هناك جنون عظمةٍ وشكٍ.. كان بوسع القيادة السوفيتية تذكر صدمة الهجوم المفاجئ الذي شنه هتلر عام 1941 وأدى إلى تدمير الاتحاد السوفيتي بالكامل تقريباً. هذا هو المنظور الذي كانت السياسة الأمريكية تُرى من خلاله”.
ويقول جونز: “عثرت على وثيقة لأندروبوف يقول لضباط الـ(كيه جي بي’ فيها ‘أولويتكم الأولى هي ألا تُخفقوا في رصد مقدمات ومؤشرات ضربةٍ نوويةٍ.. كُلِفَ عملاء الـ ‘كيه جي بي’ بأن يحاولوا رصد ذلك، ويرفعوا تقارير في هذا الشأن كل أسبوعين”.
لكن لأن أرباب عملهم في موسكو أرادوا سماع أن هناك إمكانيةً لوقوع ضربةٍ أولى من قبل الغرب لبلادهم، وذلك لإرضاء رؤسائهم بدورهم، فقد كان هذا ما أبلغ عنه الجواسيس قيادات جهاز الاستخبارات السوفيتية بالفعل.
ويمضي الرجل موضحاً: “هؤلاء الأشخاص (الجواسيس) كانوا قريبين من الغرب، وعاشوا فيه وعَلِموا بعدم وجود خططٍ لشن ضربةٍ أولى، ولكنهم أبلغوا بما قيل لهم أن يرفعوا تقارير بشأنه”.
وأضاف بالقول: “جمعت موسكو هذه التقارير وخرجت منها باستخلاصاتٍ رهيبةٍ، وبينما كانت عملية رفع التقارير هذه مستمرةً، أُجري تدريب (أبِل آرتشر83)”.
ويعتبر جونز هذه حلقة مفرغة على نحوٍ خطر، و”فشلاً للنظام السوفيتي.. لم تتصرف الاستخبارات السوفيتية بعقلانية”.
ولكن القادة الغربيين لم يدركوا بدورهم المخاطر المترتبة على إجراء تدريبٍ عسكريٍ يُحاكي شن دولهم ضربةً نوويةً أولى. ويعبر جونز عن ذلك بالقول: “كان ذلك افتقارا لمعرفة طبيعة الطرف الآخر، مُتضافراً مع سباق تسلحٍ نوويٍ يُحْدِث التوتر.. أُجري تدريب (ضفدع الخريف) الذي اسْتُخْدِمَتْ فيه الأسلحة التقليدية على الجانب الآخر من الحدود السوفيتية مباشرةً، ثم صار لديك بعد ذلك بعدٌ إضافيٌ” يتمثل في هذه الأسلحة الهيكلية الشبيهة بالرؤوس النووية الحقيقية.
وعلى الرغم من أن التقرير الرئاسي الأمريكي السري الذي أُعِدَ حول “أبِل آرتشر 83” لم يُنشر حتى عام 1990، فلم يستغرق الأمر سوى بضعةٍ أشهر من بعد إجراء هذا التدريب، ليتوالى وصول أولى الإشارات الخاصة بالمتاعب والقلاقل المترتبة عليه إلى الاستخبارات البريطانية.
وقتذاك أصيب الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر بالصدمة عندما اكتشفا أن السوفيت اعتقدوا أن من شأنهما إصدار قرارٍ يجيز توجيه ضربةٍ أولى للمعسكر الشرقي.
ولحسن الحظ شهدت الشهور والأعوام اللاحقة لهذا التدريب العسكري تراجعاً في حدة التوتر، وربما حدث ذلك جزئياً كنتيجةٍ لما انتاب السوفيت من هلعٍ من إمكانية نشوب حربٍ نوويةٍ بفعل ذاك التدريب نفسه. وهكذا شرع ريغان والزعيم الجديد للاتحاد السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في إبرام سلسلة من المعاهدات الخاصة بالحد من الأسلحة.
اللافت أن تدريب “أبِل آرتشر 83” لا يزال وثيق الصلة بما يجري في عالمنا اليوم، ما يجعله أبعد ما يكون عن أن يصبح مجرد حاشيةٍ مرعبةٍ على إحدى صفحات تاريخ الحرب الباردة. فمن جديد تتصاعد الحرب الكلامية بين الولايات المتحدة وروسيا، في ظل مخاوف من أن المعاهدات الدولية الخاصة بالسلاح النووي آخذةٌ في التفكك.
ففي هذه الأثناء، تعكف الولايات المتحدة وروسيا والصين على تجديد ترساناتها النووية. وتصر واشنطن كذلك على أن الروس طوروا صاروخاً جديداً متوسط المدى، في انتهاكٍ لمعاهدة القوى النووية متوسطة المدى. ونتيجةً لذلك، قال الرئيس دونالد ترامب إنه سينسحب من هذه المعاهدة.
ويقول تشالمرز نائب المدير العام لـ “المعهد الملكي للخدمات المتحدة” في لندن إن انهيار منظومة الحد من التسلح والسيطرة عليه “سيترافق مع تلك المخاوف الفعلية للغاية المتمثلة في أن كلاً من الجانبين يرى الجانب الآخر شريراً ومؤذياً وربما يكون قد حَضَّرَ للقيام بشيءٍ رهيبٍ” إذا ما اندلعت أزمة.
ويضيف الرجل بالقول إنه إذا حدثت مثل هذه الأزمة بالفعل “فإن فرص حدوث سوء فهمٍ على الشاكلة التي رأيناها في عام 1983 ستكون أكبر”.
ويتفق جونز – الذي استغرقت الجهود البحثية الخاصة بتدريب “أبِل آرتشر 83” الجانب الأكبر من مسيرته المهنية – مع هذا الرأي. ويقول: “طالما ظلت هناك أسلحةٌ نوويةٌ، سيبقى خطر نشوب حرب ناجمة عن حسابات خاطئة قائماً”.