مما رواه الأساطين
يزخر التراث العربي الإسلامي بالكثير من الأدبيات، التي تضبط العلاقة بين المثقف والدولة، بما فيه صلاح أحوال البلاد والعباد. فإلى جانب مصنفات الآداب السلطانية التي كانت تؤلف بأسلوب رمزي، أو واقعي لتوجيه الدولة نحو ما يخدم تحقيق العدل، أو نقل الكتابات الخاصة بأخبار ملوك الفرس وغيرهم، كان الشعراء عن طريق المدح يثنون على الأمير بالحق أحيانا، وبالباطل في أغلب الأحايين، بل إن منهم من كان يذهب إلى هجائه، كما فعل المتنبي مع كافور حين أخلف وعده معه. ولما كانت العلاقة بين المعرفة والسلطة تتخذ أوجها وصورا متعددة حسب الأزمنة والدهور، ونوع المعارف والسلطات المهيمنة، كان موقف كل منهما من الآخر يتغير حسب طبيعة الحاكم ومزاجه، ودرجة المسؤولية التي كان يستشعرها المثقف.
يمكن للحاكم أن يوظف الشاعر مثلا لذكر مناقبه، فلا يكون لذلك الأثر على المجتمع الذي يخلفه تسخيره للعالم أو الفقيه. إن التعامل مع شعر الشاعر يقف عند حدود تحقيق متعة فنية وجمالية، وقد يسهم ذلك في تكريس صورة الحاكم في الوجدان الجمعي. أما تسخير الحاكم للعالم أو الفقيه لخدمة رؤيته وتصوره، لتدبير الشؤون فيكون مختلفا عن الأثر الذي يحدثه عمل الشاعر. وحسب نوع الحاكم والمثقف، يمكن أن يكون لذلك أبلغ الأثر على الدولة والمجتمع معا، ومن هنا تأتي خطورة هذا التسخير.
يمكن للمثقف أن يكون مساهما في تشكيل الدولة، فتتحول معرفته إلى أيديولوجيتها. وبتحول نسق معرفي إلى واقع يتم العمل على إشراك كل المثقفين في الصيرورة الجديدة، وكل من خالفها اعتبر معارضا، أي أن الثقافي يصبح في خدمة السياسي، ولا يمكن أن ينجم عن ذلك سوى التسخير الذي يضر مع الزمن بالمعرفة والسلطة معا. وتاريخ الحركات السياسية والثورات الكبرى، يقدم أمثلة لا حصر لها. فكم من النظريات التي فرضت بالقوة كان مآلها الزوال في آجال قريبة جدا، فكيف يمكن للعلاقة بين المعرفة والسلطة أن تكون في خدمة كل منهما بدون أن تستأثر إحداهما بتسخير الأخرى لفائدتها؟
يقدم لنا السيوطي في مصنفه: «مما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين» أخبارا لا حصر لها عما يحدد العلاقات بين السلطة والمعرفة، ومواقف علماء الإسلام والفقهاء من الأمير أو الحاكم. وفي ما يلي نماذج مما يمكن أن يكون موضوع بحث للتأمل والقراءة: عن ابن مسعود، قال: «لو أن أهل العلم صانوا العلم، ووضعوه عند أهله، لسادوا به أهل زمانهم، ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم، فهانوا عليهم».
قدم عبد الله بن عبد الملك بن مروان المدينة، فبعث حاجبه إلى سعيد بن المسيب فقال له: أجب أمير المؤمنين! قال: وما حاجته؟ قال: لتتحدث معه. فقال: لست من حُداثه. فرجع الحاجب إليه فأخبره، قال: دعه.
ـ قدم هارون الرشيد المدينة، فوجه البرمكي إلى مالك، وقال له: إحمل إليّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك. فقال للبرمكي: أقرئه السلام، وقل له: إن العلم يزار ولا يزور. فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! إعزم عليه حتى يأتيك. فأرسل إليه فقال: «قل له: يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضّع العلم فيضيعك الله».
بعث سلطان بخاري إلى محمد بن إسماعيل البخاري يقول: إحمل إليّ كتاب «الجامع» و«التاريخ» لأسمع منك. فقال البخاري لرسوله: «قل له: أنا لا أذل العلم، ولا آتي أبواب السلاطين، فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه، فلتحضرني في مسجدي أو في داري».
وأخرج أبو نعيم، وابن عساكر قال: أخبرنا نجم: أن بعض الأمراء أرسل إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي، والزهري وغيرهما فقال له: تكلم يا أبا حازم فقال أبو حازم: «إن خير الأمراء من أحب العلماء، وأن شر العلماء من أحب الأمراء. وكانوا في ما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم. وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء. فلما رأى ذلك ناس من الناس، قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثل هؤلاء! وطلبوا العلم فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم، فخربت العلماء على الأمراء، وخربت، الأمراء على العلماء».
ومن أحسن ما قرأت في ضبط العلاقة بين المثقف والأمير، ما أخرجه الديلمي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الأمراء إذا خالطوا العلماء، ويمقت العلماء إذا خالطوا الأمراء، لأن العلماء إذا خالطوا الأمراء رغبوا في الدنيا، والأمراء إذا خالطوا العلماء رغبوا في الآخرة». وفي الإمتاع والمؤانسة: «قيل لديوجانس: متى تطيب الدنيا؟ قال: إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها».
إن نوع علاقة الأمير بالعالم، والعالم بالأمير يدل على واقع ما عليه السلطة من علم، والمعرفة من سلطة.