معركة التريليون دولار.. “كنز” تملكه كوريا الشمالية لكن لا يمكنها استخدامه الآن
عند النظر في الجغرافيا السياسية المعاصرة، غالباً ما تكون أسئلة الطاقة والموارد ذات الصلة أساسيةً في الصراع من أجل النفوذ بين القوى العالمية، إذ يمكن للطاقة أن تُحفّز أو تُفاقِم التوترات الكامنة. واليوم تفقد جاذبية التنقيب عن النفط التقليدي جزءاً من أرضيتها مع ظهور طاقات وتقنيات جديدة، تنتجها غالباً “تربة نادرة” والعناصر التي تحتوي عليها.
وجمهورية كوريا الشمالية يمكن أن تكون إحدى الدول التي تحتوي أراضيها على تركيز عالٍ من عناصر أرضية نادرة، لكن لكونها دولة منعزلة فإنها لم تتمكن بعدُ من استغلال هذه الموارد، التي يمكن أن يخلّ الصراع من أجلها بالنظام العالمي الحالي. إذ مثلما قامت الحرب الباردة بتقسيم العالم على أسس أيديولوجية، فإن الصراع الجديد على الموارد سيخلق تصدعات وانقسامات بين أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الموارد المعدنية النادرة وأولئك الذين ليس لديهم هذه الإمكانية. خاصة أن الصناعات بأكملها باتت معتمدة على عدد قليل من المعادن النادرة، التي يمكن لانقطاع إمداداتها أن تكون له آثار عالمية عميقة، ويمنح بعض الدول نفوذاً هائلاً على غيرها، بحسب تقرير لمجلة National Interest الأمريكية.
أبرز العناصر الأرضية النادرة
تضم العناصر التي تقع تحت تسمية “العناصر الأرضية النادرة” عناصرَ مثل: الإربيوم والثوليوم والسيريوم والسماريوم والليثيوم. وكثير من التطورات التكنولوجية التي تحققت على مدى العقود العديدة الماضية تستخدم عناصر مستمدة من مجموعة العناصر الـ17 النادرة في الجدول الدوري.
ولا يقل أهمية عن ذلك أن العناصر الأرضية النادرة هي مكون أساسي في صناعة الأسلحة، فعنصر “النيوديميوم” على سبيل المثال يُستخدم في صناعة القنابل والليزر والرادارات والسونار، وعنصر “الديسبروسيوم” في صناعات توجيه الصواريخ وأنظمة كاميرات الفيديو، وعنصر “التِّربيوم” في صناعة المحركات الكهربائية.
تمتلك الولايات المتحدة ثالث أكبر احتياطي في العالم من المعادن النادرة في منجم “ماونتن باس”، الواقع في ولاية كاليفورنيا. وكان هذا المنجم أكبر منجم لإنتاج المعادن النادرة في العالم حتى الثمانينيات، وهو الوقت الذي دخلت فيه الصين سوق العناصر النادرة، لتخلق بعدها ما يشبه الاحتكار العالمي تقريباً. وكانت عوامل الصين الرئيسية في هذا الاستحواذ على السوق تتشكل بالدرجة الأولى من توفر العمالة الرخيصة لديها، وعدم الاهتمام بالشروط البيئية وظروف العمل. ويقدر حالياً أن الصين تسيطر على أكثر من 95% من الإنتاج العالمي للمعادن الأرضية النادرة، بنحو 55 مليون طن من احتياطيات المعادن النادرة.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن كوريا الشمالية قد تكون أراضيها تحتوي على أكبر احتياطيات من المعادن الأرضية النادرة في العالم. ومع ذلك فليس من الممكن استغلال هذه الاحتياطيات في الوقت الحاضر بسبب ضعف الطلب الحالي عليها والعقوبات المعوقة، فالبلد معزول عن الأسواق الخارجية، ولم يطور بعد مجتمعاً قائماً على مفاهيم الاستهلاك الشامل. كما تحتاج أي مشروعات جديدة اليوم إلى بنية تحتية أكثر خبرة، وهو ما يزيد تكاليف بدء المشروعات، ويخلق تكاليف تشغيل أعلى، ويرفع من تكلفة إنتاج المعادن، وكلها استثمارات لا تستطيع كوريا الشمالية تحمل تكاليفها.
يضم موقع غوانغجو في كوريا الشمالية نحو 216.2 مليون طن من أكاسيد الأرض النادرة، أي ضعف الاحتياطيات العالمية المعروفة. ومن حيث القيمة النقدية، إذا كانت هذه الأرقام دقيقة، فإن كوريا الجنوبية تقدر قيمة الموارد المعدنية لجارتها كوريا الشمالية عند 2800 مليار دولار.
هل تصبح كوريا الشمالية أقوى من الصين؟
يعني ذلك أن كوريا الشمالية يمكن أن تتحول إلى طرف رئيسي في صناعة المعادن الأرضية النادرة، إذ يرتفع الطلب على الهواتف الذكية وأشباه الموصلات والمنتجات التي تعتمد على تلك العناصر ذات الصلة. وقالت بيونغ يانغ إنها قد تستغل ما يصل إلى 20 مليون طن من احتياطيات العناصر السبعة عشر لديها، والصين هي المشتري المحتمل لها.
جدير بالذكر أن تلك المعادن النادرة لا غنى عنها أيضاً في صناعات أنظمة الأسلحة الأمريكية والروسية والصينية، إذ تتطلب أنظمة الدفاع الجوي الصاروخية من نوع أرض جو (ثاد) الأمريكية عناصر منها، والحال نفسه مع أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية “إس 400″ و”إس 500”.
ومع ذلك، يبدو أنه لا يوجد شيء قادر على إطلاق العنان لاستغلال المعادن الأرضية لكوريا الشمالية لأغراض خارجية، إلا عبر الدولة نفسها، من خلال اتفاقات دولية محتملة أو رفع للعقوبات، أو في السيناريو الأكثر تطرفاً، من خلال تدخل عسكري. ما يعني أن هذه العناصر النادرة تطرح رؤى جديدة بخصوص الوضع الجيوسياسي الخاص بكوريا الشمالية.
وفي الوقت الذي تبتعد فيه الصين بدرجة ما عن حليفتها السابقة، فإنها عمدت إلى تخفيض كبير في وارداتها من الفحم من كوريا الشمالية، على أساس “عدم التوافق مع معاييرها الجديدة لمكافحة التلوث”، ومع ذلك، فإن روسيا، على الناحية الأخرى، تتطلع بدرجة متزايدة إلى الموارد الأرضية النادرة في البلاد. وحتى الشركات الكورية الجنوبية يمكن أيضاً أن تفكر في اتفاقيات اقتصادية جديدة لاستغلال هذه الموارد.
ما هي العقبات أمام كوريا الشمالية؟
أبدى عديد من المسؤولين الكوريين الجنوبيين قلقهم من اهتمام الصين المتزايد بالمعادن النادرة في كوريا الشمالية. ويقول عضو البرلمان الكوري الجنوبي، بارك سونغ سون “يجب على الحكومة أن تتصرف بسرعة لأن الصين قد ضمنت بالفعل حصة لها في العديد من الموارد المعدنية في كوريا الشمالية. وإذا تمكنت كوريا الجنوبية من تأمين استيراد الموارد المعدنية من كوريا الشمالية، فيمكنها استخدامها باضطراد لعدة عقود”.
تعود العقوبات الأولى التي فرضتها الأمم المتحدة على كوريا الشمالية إلى عام 1993، غير أنها أتت بنتائج عكسية، فقد دفعت بيونغ يانغ إلى الضغط أكثر فأكثر في محاولة لابتزاز العالم بأسلحتها النووية واختبارات الصواريخ.
يمكن أن يكون أحد سبل الخروج من هذه الأزمة هو اعتراف محتمل بالوضع القائم لكوريا الشمالية فيما يتعلق باستخدام الطاقة النووية، على غرار الهند أو باكستان أو إسرائيل، وكلها دول حازت أسلحة نووية دون موافقة دولية. وصحيح أن هذا الخيار قد يكون بمثابة اعتراف بفشل سياسات عدم الانتشار النووي، ولكنه قد يكسر الجمود الذي يدفع بيونغ يانغ إلى المضي قدماً في برنامجها النووي وتهديداتها الصاروخية. وقد أثار اتفاق عُقد بالفعل في عام 1994 عديداً من التوقعات والآمال في الخروج من هذه الأزمة، إذ كان مطلوباً آنذاك من كوريا الشمالية التخلي عن برنامجها النووي مقابل مساعدات في مجال الطاقة من كوريا الجنوبية واليابان وروسيا والولايات المتحدة، التي كانت تعهّدت ببناء محطتين للطاقة النووية يستخدمان الماء الخفيف في كوريا الشمالية، إلا أن هذا الاتفاق فشل في النهاية في ظل غياب الالتزام من مختلف أطرافه.
وفي الختام يجدر الالتفات إلى أنه ليس ثمة مبالغة في اعتبار أن “فن التفاوض” ينطبق أيضاً على التفاوض من أجل العناصر الأرضية النادرة. ومعنى ذلك أن واشنطن إذا لم تُبد جديةً في سعيها بشأن الموارد المعدنية النادرة في كوريا الشمالية، فإن الفائز بها قد يكون، مرة أخرى، بكين. حتى موسكو يمكن أن تستفيد بحصة أيضاً من خسارة واشنطن، بالنظر إلى أن الصين تحتاج إليها لاستمرار الوصول إلى موارد الطاقة في روسيا وآسيا الوسطى، وكذلك إلى التقنيات العسكرية الروسية المتقدمة. وتشكل مساعي الصين في الحصول على الطاقة تحدياً كبيراً للسياسة الأمريكية. ومن ثم فإن السؤال سيدور حول من سيقدم لكوريا الشمالية أفضل عائد على الاستثمار، وهل الصين قادرة على التفوق على اتفاق أمريكي محتمل؟ هل ستوفر قمة أخرى بين ترامب وكيم جونغ أون مساحةً لفرصة ثانية؟