مصائب التدخل الأجنبي في إفريقيا
رغم أن الاحتلال الأوروبي لقارة إفريقيا انتهى منذ عقود، وحصلت المستعمرات على استقلالها، فإن “المصائب” التي خلّفتها الدول الاستعمارية لا تزال آثارها الكارثية مستمرة حتى اليوم.
وتحيي الجزائر في مارس الجاري الذكرى 61 للتفجيرات النووية التجريبية التي أجراها الاستعمار الفرنسي في صحرائها، في ظل استمرار تداعياتها الخطيرة على صحة السكان والبيئة، بينما لا تزال مصر تعاني من الألغام المنتشرة في منطقة العلمين وعلى طول منطقة ساحل البحر المتوسط، والتي خلفتها صراعات ألمانيا وبريطانيا هناك أثناء الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن 14 دولة إفريقية نالت استقلالها عن الاستعمار الفرنسي قبل ستة عقود، فإن باريس لا تزال حتى اليوم تتحكم في شؤون تلك البلاد، وسط اتهامات باستمرار الاستعمار، ولكن في صورة مختلفة تجعل ذلك الاستقلال منقوصاً.
التجارب النووية للاستعمار الفرنسي في الجزائر
تعرّضت دول القارة السمراء لموجات من الاحتلال الأوروبي منذ العصور القديمة والوسطى والحديثة، ما بين استعمار ألماني وإيطالي وبرتغالي وبريطاني وفرنسي، لكن الاستعمار الفرنسي تحديداً يوصف بأنه “الأبشع”، ولم تنتهِ آثاره السلبية حتى اليوم سواء في إفريقيا السمراء أو في الجزائر.
ففي يوم 13 فبراير/شباط عام 1961، قامت قوات الاستعمار الفرنسي بإجراء تجارب نووية كبيرة، سطحية وباطنية، في منطقة رَقَّان بولاية أدْرَار الجزائرية على مدى 4 أيام، استخدمت فيها حتى البشر الجزائريين كفئران تجارب في مواقع التفجيرات النووية، لمعرفة الآثار النووية على أجسامهم، حسب شهادات محلية وأوروبية تعود لتلك الحقبة، في أعمال ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، برأي العديد من الخبراء والباحثين، “لا تسقط بالتقادم”، بحسب تقرير لموقع روسيا اليوم.
وبلغت التجارب النووية الفرنسية في الجزائر 17 تجربة على الأقل، تمت في منطقتي رقّان وعين أمْقَل وسمحت لباريس بحيازة أولى قنابلها النووية.
ورغم مرور أكثر من 6 عقود على تلك التجارب النووية، فإن آثارها المدمرة لا تزال مستمرة حتى اليوم، وترفض فرنسا إطلاع الجزائر على تفاصيل تلك التجارب والخرائط الخاصة بالأماكن التي تم دفن النفايات النووية فيها.
والسبت الماضي 14 مارس/آذار، قال وزير الشؤون الخارجية الجزائري صبري بوقادوم في تغريدة على “تويتر” بمناسبة الذكرى 61 لتلك الجريمة الاستعمارية: “في مثل هذا اليوم من عام 1960 على الساعة 7:04 صباحاً، قامت فرنسا الاستعمارية بأول تفجير نووي في منطقة رقان بالصحراء الجزائرية، في عملية سُميت بـ”الجربوع الأزرق”…”.
وذكَّر بوقادوم بأن شدتها فاقت شدة القنبلتين الذريتين الأمريكيتين التي قصفت بهما واشنطن اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، مؤكداً أن ذلك التفجير النووي الفرنسي في رقان كانت شدته “بقوة 70 كيلوطناً، وهو ما يعادل من ثلاثة إلى أربعة أضعاف قنبلة هيروشيما، كان لهذا الانفجار تداعيات إشعاعية كارثية لا تزال أضرارها على السكان والبيئة قائمة إلى اليوم”.
واللافت في هذه القضية هو أن الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون اتّخذ بالفعل خطوات نحو الاعتراف بجرائم استعمار بلاده للجزائر، منها اعترافه قبل أيام بتعذيب وقتل المناضل علي بومنجل على أيدي جيش الاستعمار، إلا أن كثيراً من المراقبين يرون أن خطوات ماكرون “رمزية”، وتعكس غياب الإرادة لديه للتعامل بجدية مع الملف الاستعماري لبلاده.
استقلال منقوص للمستعمرات الإفريقية السابقة
ألقى تقرير لموقع دويتش فيله الألماني بعنوان “فرنسا ومستعمراتها السابقة” الضوءَ على الآثار الممتدة للاستعمار على الدول الإفريقية حتى اليوم، ركز على العلاقة بين باريس ومستعمراتها السابقة التي نالت الاستقلال عام 1960، وعددها الآن 14 دولة هي بنين، وبوركينافاسو، وساحل العاج، ومالي، والنيجر، والسنغال، وتوغو، والكاميرون، وتشاد، والكونغو-برازفيل، ومدغشقر، وموريتانيا، والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وقالت ناتالي يامب، مستشارة حزب “الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج” للموقع الألماني، إنه “بعد ستين عاماً لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية”، مضيفة أن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا.
إذ قررت فرنسا قبل أن تغادر عام 1960 إلغاء النظم البرلمانية في بعض الدول كساحل العاج، وإقامة نظم رئاسية بدلاً منها، يمسك رأس الدولة فيها بكل شيء في البلاد، والفكرة من وراء ذلك أنه “للسيطرة على البلد ينبغي فقط التحكم بشخص يتمتع بكل السلطات”، بحسب يامب.
وكان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول قد كلف في عام 1962 مستشاره جاك فوكار بصياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في إفريقيا، وأطلق البعض على فوكار لقب “مهندس الاستعمار الفرنسي” الحديث لإفريقيا.
وقال باول ملي من معهد شاتم-هامس البريطاني، إن تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب في البلدان المستقلة حديثاً كانت “غير شفافة وأبوية وفيها تحكم”، إذ أبرم فوكار عقوداً مع حكام تلك البلدان لا تزال سارية حتى اليوم، مقابل الحماية العسكرية والحماية من الانقلابات.
وفي مقابل ملايين من الدولارات كعمولات، ضمنت الدول الإفريقية للشركات الفرنسية استغلال الموارد الاستراتيجية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط. والوجود الفرنسي في القارة اليوم لا يمكن تجاهله، إذ توجد 1100 شركة كبرى، و2100 شركة صغرى كما تمتلك باريس ثالث أكبر محفظة استثمارية بعد بريطانيا والولايات المتحدة داخل القارة السمراء.
الوعود بفتح صفحة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها لا يعدو كونه كلاماً في كلام ومجرد “طقس”، حسب البرفيسور يان تايلور المختص بالسياسية الإفريقية في جامعة سانت أندروز في اسكتلندا، مضيفاً لدويتش فيله أنهم “يعدون بالتغيير، لكن بعد تسلمهم مهامهم سرعان ما يلاحظ الرؤساء الفرنسيون أن المصالح السياسية والاقتصادية لبلادهم في القارة السمراء كبيرة، وأنه ليس هناك مصلحة حقيقية لدى المسؤولين الأفارقة ولا لدى الفرنسيين بأي تغيير”.
ويعتقد يان تايلور أن اقتصاد المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا لا يزال مرتبطاً بباريس بصورة متعمدة تخدم المصالح الفرنسية فقط، إذ إن الفرنك الإفريقي عملة متداولة في 12 دولة إفريقية، وهو مربوط باليورو، وهذا ما يحول دون انتهاج سياسة نقدية مستقلة في تلك الدول، كما أن تلك الدول المتعاملة بالفرنك الإفريقي تقدم ما يصل إلى 65% من احتياطاتها النقدية للخزينة الفرنسية.
ويتهم الباحث يان تايلور في حديثه مع دويتش فيله الفرنسيين بإعادة ضخ الأموال الإفريقية التي تأتي إلى خزينتهم من جديد على شكل مساعدات تنموية، ما يقوي من نفوذهم في المنطقة، ويلخص المختص بالعلوم السياسية: “الخطوة الأولى للاستقلال الحقيقي هي دفن الفرنك الإفريقي. ما تحتاجه الدول الفرنكوفونية بعد ستين عاماً من الاستقلال هو نخبة إفريقية تضع مصلحة بلدانها في المقدمة”.
ألغام الحرب العالمية الثانية في مصر
مصر أيضاً لا تزال تعاني من الآثار السلبية التي نجمت عن تعرضها للاحتلال الاستعماري من جانب بريطانيا، رغم انتهاء الاستعمار وجلاء القوات البريطانية عن البلاد منذ أكثر من 73 عاماً. فمصر اليوم تعاني من مشكلة الألغام التي تم زرعها في منطقة العلمين ومناطق واسعة من الصحراء الغربية، وصولاً إلى الحدود مع ليبيا، وذلك أثناء الحرب العالمية الثانية.
وكانت تلك المنطقة قد شهدت معركة العلمين الأولى والثانية خلال الحربين العالميتين، ونتج عن تلك المعارك زرع ملايين الألغام الأرضية المضادة للمركبات والأفراد، ورغم انتهاء تلك الحروب منذ أكثر من ثمانية عقود، ورغم أن مصر لم تكن طرفاً أصيلاً في تلك الحروب بين قوات المحور بقيادة ألمانيا وقوات الحلفاء بقيادة بريطانيا، فإن الدولة العربية الإفريقية لا تزال تدفع ثمناً باهظاً حتى اليوم.
وتقدر التقارير الدولية عدد الألغام المزروعة في العلمين ومنطقة الصحراء الغربية في مصر بأكثر من 22 مليون لغم أرضي، تجعل مصر الخامسة عالمياً في قائمة الدول التي تعاني من تلك الأفخاخ القاتلة، والتي تحتاج إلى إمكانيات مادية باهظة لا تقدر عليها مصر، وتطالب منذ عقود الدول المسؤولة عن زرع تلك الألغام (تحديداً بريطانيا وألمانيا وإيطاليا) بتحمل مسؤولية التخلص منها دون جدوى.
وبسبب تلك الألغام أو “حدائق الشيطان” لا تستطيع مصر تنمية منطقة تزيد مساحتها عن أكثر من 15 ألف كيومتر مربع، سواء للتنقيب عن مصادر الطاقة من نفط وغاز أو استصلاحها للزراعة، أو تنميتها سياحياً، هذا بخلاف الخسائر البشرية المتكررة، نظراً لانفجار تلك الألغام بمجرد حدوث أي حركة جانبها، بعد أن تسببت العوامل المناخية في تناثر بعضها خارج حقول الألغام التي كانت شبه محددة، كما أن كثيراً من تلك الألغام أصبح عصياً على الاكتشاف بالوسائل التقليدية، بعد أن تغيرت طبيعتها بفعل عوامل التعرية.
ونظراً لعدم وجود خرائط دقيقة بأماكن زرع تلك الألغام، وطبيعة دفنها في الرمال على عمق يصل إلى مترين، وتشظيها مع الوقت، باتت الطرق التقليدية وحتى أدوات المسح قليلة الجدوى في العثور عليها، وتتطلب إمكانات مالية باهظة، ولا تزال مصر تسعى للحصول على مساعدة دولية للتخلص من هذا الكابوس الذي خلّفه الاستعمار الأوروبي.