مخطوطة تشو الحريرية ينتهي بها المطاف في واشنطن
في مخزنٍ تحت الأرض قرب منتزه ناشونال مول، تقبع مخطوطةٌ صغيرة مصنوعة من الحرير. إنها نسخةٌ صينية، من مخطوطات البحر الميت، خُطَّت قبل 2300 عاماً؛ وتحتوي على نصٍّ مكتوب بشكلٍ دائري، وكأنه نجومٌ منتشرة في السماء، تصف العلاقة بين البشر والسماء.
أبهرت الوثيقة القديمة، المعروفة باسم “مخطوطة تشو الحريرية”، الأشخاص الساعين إلى فهم أصول الحضارة الصينية لعقودٍ. لكنها مخبَّأة عن الناس بسبب رقّة ورقها وقابليتها للتمزُّق؛ وأيضاً بسبب الظروف الملتبسة، التي أوصلت هذه المخطوطة إلى الولايات المتحدة.
والآن.. استطاع مؤرخ وعالم آثار صيني بارز تجميع أجزاء ملحمتها الصينية الاستثنائية، في تحليلٍ موثّق بدقة؛ الأمر الذي تسبب بإثارة ضجة في عالم الآثار الصينية، المحصور في عددٍ قليل من العلماء، وأثار تساؤلات أكبر بشأن جامعي الآثار الذين يجنون الأرباح من نهب المواقع التاريخية.
وتتعقب الدراسةُ، البالغ حجمها 440 صفحةً، أصل المخطوطة؛ بدءاً من غزاة المقابر، الذين اكتشفوها خلال الحرب العالمية الثانية، مروراً بتاجر آثارٍ توفيت زوجته وابنته وهما يفرّان من القوات اليابانية، إلى الجواسيس الأميركيين الذين هرَّبوا المخطوطة من الصين وأخيراً؛ وصولاً إلى العديد من المتاحف والمؤسسات في الولايات المتحدة.
فرضت نتائج الدراسة ضغوطاً جديدة على مالكها الحالي، وهي مؤسَّسة آرثر ساكلر، لإعادتها إلى الصين بعد عقودٍ من محاولات متقطّعة لبيعها إلى مؤسساتٍ صينية. ووفقاً لأشخاصٍ مطّلعين على المباحثات، جدّدت المؤسَّسة مفاوضاتها مع بكين حالياً، وعبَّرت عن استعدادها لتسوية القضية مقابل الحصول على “أتعاب العثور” على المخطوطة.
رفضت إليزابيث ساكلر، رئيسة المؤسَّسة، طلب إجراء حوارٍ معها من قبل الصحيفة الأمريكية؛ لكنها قالت في رسالة بريدٍ إلكتروني: “ستواصل المؤسَّسة، بنيّةٍ حسنة، سعيها للعثور على طريقةٍ ما لإعادة المخطوطة إلى بلدها الأم”.
كيف وصلت المخطوطة الصينية إلى أميركا؟
حدث هذا إلى حدٍّ كبير بفضل دراسة الأستاذ الجامعي لي لينغ، من جامعة بكين، وهو أحد من أبرز علماء النصوص الصينية القديمة.
بدأ لي (69 عاماً) دراسة مخطوطة “تشو الحريرية” عام 1980 وعمل على دراسة صور للمخطوطة لفكِّ رموز كتاباتها القديمة، ثم فحصها بنفسه في الولايات المتحدة لاحقاً. ومنذ عقدٍ، بدأ التحقيق في عملية التنقيب عن المخطوطة الحريرية وما حدث لها بعد ذلك؛ ما قاده إلى الحديث مع اثنين من سارقي المقبرة الأصلية، وإلى فحص وثائق في متاحف في مدن كانساس، وبوسطن، ونيويورك، وواشنطن.
وتعدُّ الآثار المنهوبة أمراً حساساً في أية دولة. لكن تحظى المخطوطة الحريرية باهتمام خاصٍ في الصين، لأنها تعود إلى حقبة الممالك المتحاربة، عندما بدأت الديانات الصينية: مثل الكونفوشيوسية، والطاوية، في التشكّل. وتعود أهميتها كذلك لكونها تقدّم وصفاً للآلهة، التي كان يعبدها الصينيون في هذه الفترة.
إحياء ذكرى الشهيدتين
في العام 1942، اكتشف غزاة القبور في ضاحية زيدانكو، بمدينة تشانغشا – وسط الصين – أثراً استثنائياً: مقبرة سليمة تحتوي على سيفٍ، وغمده، ووثيقةٍ حريرية، أسوَّد لونها مع تقدُّم الزمن.
باع اللصوص غنيمتهم لتاجرٍ محلي، الذي وضع الوثيقة الحريرية على ورق وعرضها في محلّه. لم يمضِ عامان حتى اشتراها تاجر آثار ومؤرخ هاوي، يُدعى تساى جي شيانغ.
كتب تساي لاحقاً أنه صُعِق من قِدم الوثيقة الحريرية، التي يبلغ طولها (35.5 سم) وعرضها (45.7 سم)، وشكَّ في أنها ربما تعود إلى حقبة الممالك المتحاربة. وكان يأمل في دراستها وربما إعادة بيعها.
لكن مدينة تشانغشا كانت في مرمى الهجوم الياباني الأخير، لهزيمة القوات الصينية خلال الحرب العالمية الثانية. فانضمَّ تساي وعائلته إلى الحشود المتدفقة خارج المدينة. وقبل أن يلوذ بالفرار، لفَّ المخطوطة ووضعها في أسطوانةٍ حديدية.
وقعت العائلة في قبضة القوات اليابانية على جزيرةٍ، كانت قد لجأت إليها. ووصف شاهد من المنطقة، والذي أعاد لي نشر روايته، كيف حاول ضابطٌ اغتصاب زوجة تساي، التي هربت وألقت بنفسها في بركة. ونجحت إحدى بناتهما في الهروب والقفز في الماء أيضاً، حيث غرقتا سوياً وهما تحتضنان بعضهما البعض.
هرب تساي مع 4 من أطفاله المتبقيين إلى قرية جبلية مجاورة. وفي محاولة منه “للتعايش مع هذه الكوارث العديدة”، كتب لاحقاً أنَّه عاد إلى المخطوطة “أملاً في أن أركَّز عليها”.
ورغم عجزه عن استشارة باحثين أخرين، أو حتى الاستعانة بكتبٍ مرجعية أساسية، استطاع تساي فكَّ ألغاز معظم كتابات المخطوطة. واكتشف أنَّ المخطوطة تتحدث عن الطريقة التي تعامل بها البشر مع القدر والموت، وهي أفكارٌ كانت قريبةً من قلبه.
وكتب مقالاً يضمُّ النتائج التي توصَّل إليها، ورسم خريطة دقيقة لموقع زيدانكو. وأضاف للمقال رواية صديقٍ عن انتحار زوجته وابنته، في محاولة لشرح الأسباب التي دفعته إلى فعل كلّ هذا. ناشرٌ محلي طبع المقال في العام 1945.
مكيدة شانغهاي
بعدها بعامين، سافر تساي إلى شنغهاي، لبيع بعض الآثار التي كانت بحوزته. كانت اليابان قد هُزمت في الحرب، لكن الصين وقعت في حربٍ أهلية؛ وتساي كان بحاجةٍ إلى المال.
وفي شنغهاي، التقى تساي بأحد معارفه القدامى جون هادلي كوكس (34 عاماً) وهو أميركي كان يعمل لدى رابطة ييل والصين في ثلاثينات القرن الماضي. كان كوكس حينها ضابطاً هاماً في مكتب الخدمات الاستراتيجية، وهو جهاز الاستخبارات الحربية الأميركي السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية CIA الحالية. أُرسل كوكس إلى شنغهاي لجمع معلوماتٍ استخباراتية، حتى قبل استسلام اليابان في العام 1945.
كان عميل الاستخبارات الأميركي أيضاً مؤرخاً هاوياً وجامعاً للقطع الفنية. طلب كوكس شراء المخطوطة، بعد أن قرأ كتاب تساي عنها، ووفقاً لمراسلاتٍ اكتشفها لي. عقد الاثنان صفقةً: دفع كوكس ألف دولار، كدفعةٍ أولى، وتعهَّد بدفع 9 آلاف أخرى عند بيعها.
وفي غضون أيام، تواصل كوكس مع ضابط استخبارات حربية أميركي آخر، هرَّب المخطوطة الحريرية ومقتنيات أخرى إلى الولايات المتحدة، باعتبارها تحفاً صينية “مجهولة القيمة”.
لم يكن استيراد قطع فنية وأثرية منهوبة جرماً في الولايات المتحدة آنذاك، لكن الصين كانت تحظّر تصدير أيَّ آثارٍ مُستخرجة، لأنها كانت تُعدُّ ملكاً للدولة.
وقال لاي غولونغ، الأستاذ بجامعة فلوريدا والمتخصِّص في قوانين الآثار الصينية: “من المنصف القول بأنَّ المخطوطة خرجت من الصين مُهرَّبة. لكن الصين كانت أضعف من أن تفعل أي شيء”.
وفي الولايات المتحدة، عرض كوكس – الذي ذهب لاستئناف أبحاثه في الصين القديمة، وتبرَّع ببعض مقتنياته لمعرض فريير في واشنطن ولجامعته – المخطوطة القديمة على عدة متاحف.
لم تدرك أيّ من هذه المتاحف القيمة التاريخية للمخطوطة؛ فورقها كان غامق اللون، وضعيفاً لدرجةٍ، لا تجعلها مصدر إبهارٍ أمام جمهور وزبائن المتاحف.
بعد عقد الصفقة بشهورٍ قليلة، طلب تساي استعادة المخطوطة الحريرية، حتى أنه عرض على كوكس في إحدى خطاباته ردَّ الألف دولار التي حصل عليها كدفعةٍ أولى.
لكن بدا أنَّ كوكس، الذي ترك مكتب الخدمات الاستراتيجية وبدأ العمل في وظائف غريبة، قد تجاهل طلبه. وبعد نجاح تساي في إرسال أصدقائه، الذين كانوا يزورون الولايات المتحدة لمضايقة كوكس، ردَّ الأخير في نهاية المطاف عليه بوعدٍ ملتبس يقضي ببيع المخطوطة أو إعادتها. لكنه لم يفعل هذا مطلقاً.
وبعد صعود الشيوعيين للحكم في الصين خلال العام 1949، انقطعت العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، ما جعل وصول تساي إلى كوكس مهمةً مستحيلة. وفي العام 1964، وبسبب حاجته الماسة إلى المال، باع كوكس بعض مقتنياته المخبأة، من بينها المخطوطة، بسعرٍ مجهول إلى أحد جامعي الآثار ويدعى جي تي تاي – كان يعمل نيابةً عن أحد أشهر عملاء ومقتني القطع الفنية في الولايات المتحدة، وهو آرثر ساكلر.
أكثر الاكتشافات قيمةً
كوّن ساكلر ثورته عبر تطبيق أساليب الدعاية البرّاقة في صناعة الأدوية. وإلى جانب شقيقيه، تبرَّع الرجل بسخاءٍ لعددٍ من المؤسَّسات، ولصالات عرض التحف في جامعة هارفارد، وبريستون، ومؤسَّسة سميثسونيان؛ ما جعل اسم العائلة مرادفاً للفن الآسيوي.
ووفقاً لدراسة لي، اشترى ساكلر مخطوطة زيدانكو مباشرةً بعد فحصها في شقة تاي. ولم يُفصَح عن سعر البيع، لكن الوثائق تشير إلى أن تاي طلب 500 ألف دولار.
وصف ساكلر المخطوطة لاحقاً بأنَّها الأهم في مجموعة مقتنياته، لولعه بقدمها. لكنه بدا منزعجاً بشأن مصدرها. فكتب لكوكس، وغيره من المتورّطين في تهريب المخطوطة من الصين، ليسأل عن تفاصيل ملكيتها. وتوضح الخطابات، التي نشرها لي مع الدراسة، أن كوكس لم يكن مالك المخطوطة لكنه كان يتصرف بها نيابة عن تساي.
وربما لم يعرض ساكلر المخطوطة في أي من متاحفه، بسبب هذه المخاوف. بل احتفظ بها في مؤسَّسة عائلية خاصة، وعبَّر مراراً عن رغبته في إعادتها للصين.
وقد كان على وشك إعادتها مرتين. ففي زيارةٍ له إلى الصين خلال العام 1979، خطَّط للقيام ببادرةٍ ضخمة عبر إعادتها إلى جوو مورو، وهو مسؤولٌ بارز في الحزب الشيوعي. لكن ساكلر كتب لاحقاً أنَّ جوو كان مريضاً ولم يحدث اللقاء مطلقاً.
ووفقاً لشهادات كشف عنها لي، خطَّط ساكلر للتبرع بالمخطوطة لمتحفٍ جديد في بكين في ثمانينات القرن الماضي. لكنه توفي العام 1987، قبل افتتاح المتحف.
ووفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، فقد حاولت مؤسَّسة آرثر ساكلر بيعها لاحقاً لمتحف خونان الإقليمي، لكن المفاوضات فشلت للاختلاف على سعر البيع. ومن المتوقع إجراء المزيد من المفاوضات خلال الأشهر المقبلة لكن، هذه المرة، مع الحكومة المركزية في بكين.
حظى لي بفرصةٍ لفحص المخطوطة مرّةً واحدة فقط. وتعرَّضت المخطوطة للإهمال بشكلٍ كبير، لدرجة جعلت العفن ينمو عليها. وقال لي: “آمل أن تعود إلى الصين، حتى ولو مجرد زيارة”.