محمد صالح البحر يكتب: “يوسف زيدان” و تصريحات الغروب
مما لا شك فيه أن المجتمع صار بحاجة ماسة إلي هزة ثقافية، تحرك المياه التي ركدت حتى أضحت آسنة، وغير قادرة علي ري العقل بأية أفكار جديدة تدفعه إلي الأمام، ولن نكون مبالغين إن قلنا إن الركود الثقافي قد وصل إلي حد الاطمئنان الكامل، والإيمان المطلق، بكل ما تم ترسيخه من قبل، بحيث صار الصعب علي العقل أن يتقبل حتى مجرد التلميح، أو لفت النظر، إلي أن شائبة ما قد علقت بالراسخ والمستقر، وأنه آن الأوان لمحو هذه الشائبة وتصحيح الأوضاع، الإيمان المطلق بالقديم، والتحريم الحازم للمساس به، هو أكبر مصيبة ثقافية تصيب المجتمع، لأنها لا لن تشكل عائقا لتقدمه، بل ستظل تأخذه دوما، بهدوء وبطء، إلي الوراء، حتى يصير مجتمعا بدائيا بشكل أكثر خطورة ووحشية من بدايته الأولي.
لذلك يحتاج المجتمع كل حين إلي هزة للثوابت الثقافية التي يؤمن بها، ليس لنفيها بكل تأكيد، بل لمراجعتها وتصحيح المسار، والبناء عليها بما يناسب التحولات الاجتماعية التي تصيبه، ولا يستطيع مجتمع ما أن ينكر إصابته بالتحول، أو تأثره بالمتغيرات التي تطرأ علي البشرية، جراء التقدم التكنولوجي الرهيب والمتسارع، وجراء هيمنة العولمة التي بات العالم فيها مجرد كيان واحد صغير، ما يحدث في جزء منه لابد وأن تتأثر به بقية الأجزاء، سواء رضيت أم لم ترض بذلك، وهو ما يصعب معه علي أي مجتمع أن يظل منغلقا علي ذاته، أو متحاشيا للحظته الآنية، أو قادرا حتى علي حماية معتقداته الثقافية من النقد، أو محاولات الاستلاب لصالح القوي الأكبر.
علي أن إيمان المجتمع بنقد ذاته يجب ألا يكون عشوائيا يأتي علي الأخضر قبل اليابس منه، بل موضوعيا يأتي عبر رؤيته النقدية لذاته، راسما لها هدفا محددا وواضحا غايته التصحيح والرغبة في التقدم، وأن يجري ذلك بشكل صحيح، وفي إطار علمي، تحدده قوي المجتمع الفاعلة، والموكول لها تلك المهمة العويصة والخطرة في آن، والتي تمتلك ـ بحق مكتسب من المجتمع كله ـ القدرة علي تنفيذ الرؤي التي تصل إليها، وآليات الوصول أيضا، أما العشوائية فمن شأنها أن تحول مسار الدفة تماما، بحيث يصير المجتمع باتجاه التخبط والنفي والهدم، بلا هدف واضح، مما يجعل المجتمع عرضة للتفتت والانقسام والوجود في العراء الفكري والثقافي، وبالتالي يصير فريسة سهلة التناول لأي قوي أخرى، يتداعى لها عقله الفارغ بنهم الجائع المشرف علي الهلاك، أو العطشان الذي يتوف لقطرة ماء الحياة، ولا يعنيه أن تكون آسنة أو عذبة، المهم أن يملأ الفراغ الذي خلفته العشوائية بأي شكل من الأشكال، وتتجلي أهم مظاهر العشوائية الثقافية في أن يتولى غير أهل الاختصاص تلك المهمة، وأن يتحدثوا بلا خطط أو ترتيب أو منهجية أو هدف، بحيث تأتي أقوالهم كسهام نارية تمتلك القدرة علي الاحراق بأكثر مما تثير الضوء حولها، وتهدم بأكثر مما تقيم أبنية جديدة، أو حتى بديلة.
هكذا نري الأمر مع الكاتب “يوسف زيدان” في كل تصريحاته النارية التي لا يكل، ولا يمل، من اطلاقها في الفراغ الفكري والثقافي للمجتمع، فالرجل اكتسب شهرته وأضحت شخصيته عامة في المجتمع كونه كاتبا روائيا كبيرا، وهو الأمر الذي يبدو ـ من كل تلك الغوغاء التي يثيرها ـ أنه لا يرضيه، ولا يشبع نهمه الحاد للشهرة والوجود المستمر، لذلك يتعداه دوما إلي دور المفكر المهموم بالنظر إلي قضايا المجتمع وثباته الفكري، بغية إحداث الهزات الثقافية القادرة علي زحزحته، ودفعه باتجاه التقدم، متناسيا الكثير من النقاط الهامة التي تفرق بين الروائي والمفكر، أولا فيما يختص بمهمة كل منهما الاجتماعية، حيث يأتي رصد الروائي بغية إظهار التناقض المجتمعي بشكل فني لا يحتمل إصدار الأحكام، ولا يعني بموضوعات محددة، بينما يأتي رصد المفكر محددا للخلل الاجتماعي، ومشيرا لأسبابه وللحلول التي ينبغي اتباعها، في سياق قضية مثارة أو محددة، وثانيا علي مستوي اللغة المستخدمة للوصول إلي المجتمع، فلغة الروائي فنية تعتمد علي إثارة الخيال، وتري أنه الأكثر تأثيرا وإن كان بطيئا، بينما لغة المفكر مباشرة وتعليمية، أقل تأثيرا بسبب جفافها لكنها الأكثر تأثيرا بسبب حدتها، وأخيرا يتناسى يوسف زيدان أن كلا من الروائي والمفكر مجرد فرد لا مؤسسة، مهما بلغت عبقريته فإنه مجرد وجهة نظر فردية، قابلة للخطأ والصواب، وهو أمر لا يصح لمعالجة المجتمع الذي يحتاج إلي رؤية جماعية تتناسب واختلافه الفئوي والعرقي والتعليمي، وإنه حتى وإن امتلك القدرة علي النقد فإنه لا يمتلك آليات تنفيذها علي أرض الواقع، وهو الأمر الذي من شأنه أن يترك الواقع رخوا، ومقفرا، وعرضة لإنبات البذور الضارة، والطفيليات الخبيثة.
إن أهم ما يثيرنا في ظاهرة يوسف زيدان، أن أحاديثه وتصريحاته لا علاقة لها بالأدب أو الفن الروائي الذي يجيده، ويختص به، ويمتلك الأحقية الكاملة للحديث عنه، رغم أن ذلك محل خلاف أيضا، بل تتناسي ذلك تماما، وتتعداه عمدا إلي موضوعات فكرية واجتماعية وتاريخية ودينية تتجاوز قدرة الفرد الواحد برؤيته الواحدة، واختصاصه الواحد، لذلك فإنك إن أمعنت النظر فيها، فلن تجد رؤي موضوعيه قائمة علي الدراسة والتحليل، وتمتلك منهجها ومنطقها القوي، بل فقاعات متناثرة غايتها إثارة القلق الذي يدعو إلي الشك، وإحداث الفراغ، وهي تنتقل من موضوع إلي آخر بلا أسباب وبعشوائية مفرطة، وهو أمر مثير حقا، ويحق لنا أن نتساءل عن أسبابه، ونتحرى مقاصده، بجد واهتمام يليق بكيان المجتمع ومكانته، وألا نرتكن إلي القول السهل بأن الرجل أصابه مرض الشهرة في مؤخرة الوقت، وهو يعب من ضوئه بكل ما أوتي من جهد الشيخوخة وعجزها وعدم قدرتها علي الاتزان أو إعمال العقل، قبل أن تغرب شمسه، وتغشاه ظلمة الليل، حتى وإن أدي ذلك إلي غروب شمس المجتمع كله.