محمد أرسلان يكتب: في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة الخامسة)
لإدراك ما وصل إليه الإنسان في راهننا علينا قبل كل شيء سبر أغوار التاريخ وربطه بما يتم معايشته الآن، إذ لا يمكن فصل الانسان عن التاريخ واعتباره ابن اللحظة. في هذه الجزئية حاول ويحاول منظَّري الرأسمالية أو ما بعد الحداثة الإثبات أن الانسان وليد اللحظة التي يعيشها وعليه الانقطاع عن التاريخ. بهذه الأفكار حاول الفلاسفة الغربيين وخاصة هيغل وآخرهم فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والانسان الأخير”، إثبات أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها والمصطلحات التي ولَّدتها “الحرية، الفردانية، المساواة، السيادة”، وغيرها ستشكل الأبدية للمنهج الرأسمالي وسيادة التطورات التكنولوجية والمعلوماتية مخلفة وراءها الحياة المجتمعية والثقافية والارتباط بالأرض. أي نهاية التطور الفكري والايديولوجي للانسان وبالتالي عولمة الليبرالية وبهذا سيكون نهاية التاريخ.
وهذا ما تريده قوى الرأسمالية اثباته لنا وخاصة أنها تستخدم إلى جانب القوة العنفية والتدميرية للأسلحة التي تمتلكها، تستخدم الغزو الثقافي بكل معنى الكلمة كي تكون هي الحكومة الكونية على العالم. هذا ما قصده فوكوياما في وريقات كتابه. لكن في المقابل لا يمكن اعتبار ذلك سوى نهاية لتاريخ المدنية وليس للحضارة.
إذ، أن القوة الثقافية لأية حضارة لا يمكن تجاوزها والقضاء عليها مهما طال الزمن، لأنها موغلة في التاريخ والأرض ومنها ستنمو وتزدهر ثانية ولو بعد حين. لأن ولادة المجتمعات ليست منفصلة عن بعضها البعض أبداً بل هي عبارة عن حلقات في سلسلة موغلة في الزمن وغير متناهية نحو المستقبل. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “لَم يُولدْ المجتمعُ المدينيُّ في مصر وسومر من تلقاءِ ذاتِه. بل إنه ينتهلُ بالتأكيدِ مشاربَه من ثقافةِ ميزوبوتاميا العليا، كما يُثبِتُ هذان المثالان أيضاً ذلك. البرهانُ الآخرُ البالغُ الأهميةِ حول مدى رقيِّ الدياليكتيكِ التاريخيِّ في الهلالِ الخصيب، هو سفرُ النبيِّ إبراهيم إلى مصر قبل ما يُخَمَّنُ بحوالي ثلاثةِ آلافٍ وسبعمائةِ عام. والثقافةُ المُوَلِّةُ للمدنيتَين المصريةِ والسومرية، هي تلك الثقافةُ اليانعةُ في قوسِ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس. المهمُّ هنا هو وجودُ مستوى ثقافيٍّ باهرٍ بعظمتِه، ولا يزال تاركاً آثارَه على التاريخِ الاجتماعيّ. من هنا، لا مفرَّ من إسنادِ نشوءِ الحقيقةِ الكرديةِ إلى هذه الثقافة، ما دامَت آثارُ هذا المركزِ الثقافيِّ لا تُعاشُ بكثافةٍ ملحوظةٍ بين الكرد، وما دام هذا الشعبُ لا يَنفكُّ يواصلُ سيرورتَه بوصفِه أقدمَ الشعوبِ الآهلةِ في هذه الأراضي”.
فالواقع الكردي لا يمكن انكاره بمصطلحات أفرزتها لنا العلوم الوضعية من قبيل العلمانية التي عرَّفوها لنا على أنها “فصل الدين عن الدولة”. وبهذا المصطلح قسَّموا المجتمع منذ عشرات السنين وجعلوه يتصارعون فيما بينهم على من تقع الأحقية في ريادة المجتمع، هل ستكون لله أم للعلوم الوضعية. فراح هذا طرف ينعت الآخر بالكُفر بينما الطرف الآخر يصف الأول بالمتخلف والبربري. وكِلاهما على خطاً.
لأنه بفصل الدين عن الدولة لا تنهار الحضارة الانسانية، بل الذي سينهار هو مفهوم الدولة بمؤسساتها الدينية التي تم تشكيلها في سراديب الزيكورات والمعابد السومرية حفاظاً على هيبة الإله، والمنتصر في هذه الحرب هو المجتمع الثقافي والأخلاق والسياسة المجتمعية. وحينها سنبدأ عصر جديد ألا وهو “عصر الآلهة المقنعة والملوك العراة”، كما وصفهم أوج ألان في مجلداته الأخيرة. وعليه يقول أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”: “لواقعُ الكرديُّ ثمرةٌ من ثمارِ هذا السياقِ التاريخيِّ العظيمِ من ناحية، ومشحونٌ من الناحيةِ الأخرى بالأعراضِ الدالةِ على تَسَمُّرِه وبقائِه عالقاً بقوةٍ في هذه الثقافة. لذا، من غيرِ الممكنِ إيضاحُ إصرارِه على البقاءِ شعباً قَبَلِيّاً ثقافياً وعَزوُه إلى وضعِ الدفاعِ عن الذاتِ إزاءَ قوى المدنيةِ وحسب. فلو أنّ تلك الثقافةَ بِحَدِّ ذاتِها لا تمتلكُ جذوراً ضاربةً في الأغوار الغائرة، فإما أنْ تتحولَ بذاتِ نفسِها إلى مدنية، أو أنْ تنصهرَ في بوتقةِ المدنياتِ التي نشأَت في ربوعِها. ونحن شاهدون على آلافِ المجتمعاتِ القَبَلِيّةِ المنصهرةِ بهذا المنوال. والكردُ بجانبِهم هذا مجموعةٌ شعبيةٌ لا مثيلَ لها. وكحقيقةٍ سوسيولوجية، فإذا كان مجتمعٌ ما قد شَهِدَ ثورةً تاريخيةً بنحوٍ جذريّ، فمن العسيرِ عليه ريادةُ ثورةٍ ثانيةٍ كبرى ومختلفةٍ بين ثناياه. واحتلالُ الثورةُ الذاتيةُ التي عايَشَها لعالَمِه الذهنيِّ والمؤسساتيِّ بنحوٍ تامّ، إنما يلعبُ دورَه في ذلك”.
فشل فوكوياما في نشر أفكاره وانتصار الفردانية الليبرالية التي هي الدين الرسمي للرأسمالية وانتصر أوجلان في مشروعه المجتمعي الديمقراطي المعتمد على أخوة الشعوب وعيشها مع بعضها البعض ومتممة بنفس الوقت. لأنه لا يمكن فهم أية مدنية بدون معرفة استنادها على أي موروث ثقافي نهلت منه علومها وآلياتها. فالذي ينكر الواقع الكردي كأن حاله ينكر ذاته بنفس الوقت.
لا يمكن اعتبار المدنية على أنها مسيرة طبيعية للتطور البشري بقدر ما يمكن اعتبارها طفرة أو تآليل في جسد المجتمع الثقافي وينبغي معالجته. فالمحدد الرئيس هنا هو الرجوع للحقيقة التاريخية والثقافية للسوسيولوجيا والابتعاد عن علمنة التاريخ وتقطيع أوصاله. يقول أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” في هذا الصدد: “لهذه الأراضي دورُها المُحَدِّدُ والمصيريُّ في الانتقالِ إلى مرحلةِ الحضارة، ليس على صعيدِ رَصفِ الأرضيةِ الثقافيةِ فحسب، بل ومن حيث رسمِها ملامحَ الحضارةِ وتكوينِها لمضمونِها أيضاً. فالأراضي التي ازدهرَت عليها المدنيتان التاريخيتان الأَوَّلِيّتان السومريةُ والمصرية، أي ميزوبوتاميا السفلى ووادي النيل السفليّ، تفتقرُ إلى خلفيةٍ ثقافيةٍ عريقة. فمَناخُها لا يَصلحُ حتى لحياةِ مجتمعِ الكلان. من هنا، فهاتان المدنيتان المتصاعدتان قبل خمسِ آلافِ سنة، إنما هي مَدينةٌ بالفضلِ في أرضيتِها الذهنيةِ والمؤسساتيةِ جمعاء إلى تلك الثقافةِ ذاتِ المسارِ البهيِّ المُعَمِّرِ آلافاً من السنين؛ تماماً مثلما هي عليه المدنيةُ الأوروبيةُ في استنادِها إلى الحضارتَين الإسلاميةِ والصينية، وما هي عليه المدنيةُ الأمريكيةُ في ارتكازِها إلى المدنيةِ الأوروبية. لذا، فأوهنُ نقاطِ علمِ التاريخِ والسوسيولوجيا التي لا تزالُ قائمة، تتجسدُ في عجزِه عن التحليلِ الكافي للجوانبِ النظريةِ والعمليةِ للعلاقةِ بين الثقافةِ والمدنية. ولعدمِ تحليلِ الانتقالاتِ الثقافيةِ والحضاريةِ بين ميزوبوتاميا العُليا وميزوبوتاميا السفلى ووادي النيلِ دورٌ مهم في ذلك. حيث محالٌ عَلمَنةُ التاريخِ والسوسيولوجيا بالأساليبِ التحليليةِ وحسب. بمعنى آخر، محالٌ عَلمَنةُ السوسيولوجيا، ما لَم يُفهَمْ التاريخُ مثلما حدث، وما لَم يُستَوعبْ المجتمعُ مثلما هو عليه”.