محمد أرسلان يكتب: في البحث عن الحقيقة الكردية.. التحول إلى ظاهرة الشعب (4)
أصل الوجود يعتبر من المعضلات الكبيرة التي تواجه الإنسان في معرفة حقيقته المجتمعية وارتباطه الوثيق مع التاريخ. أي أنَّ التاريخ هنا يلعب دوره الكبير في إثبات الوجود في الحاضر ويرسم من خلاله الإطار المزدهر للوحة المستقبل. عدم معرفتنا بالتاريخ يعتبر من الأسباب الرئيسة في ابتعادنا عن حقيقة وجودنا وحتى مع تواصلنا مع الآخر. الكثير من المؤرخين والدارسين في حقل التاريخ تقربوا منه على أنه عبارة عن مراحل مرَّ بها الإنسان وأنها أي هذه المراحل باتت غريبة عنَّا وعلينا تجاوزها.
وهذا ما أوقع انجلز في الخطأ حينما اعتبر التاريخ ما هو إلا “فترات ماضية وأن الانسان تجاوزها وصنَّفها على أنَّ التطور البشري يتقدم بعيداً عمَّا مضى”، لكن السيد أوجلان يثبت أن التاريخ لا بدَّ أن يتم معايشته في الحاضر أيضاً كي معلم حقيقة وجودنا الآن.
لأن تاريخ الكرد قديم قِدم التطور البشري. فمنذ تطور الإنسان عبر مراحله الأولى وحتى الآن كان الكرد موجودين ويمكن اعتبارهم أصل ومركز التطور الذي نشروه في الأطراف.
وعليه يقول أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية” : “يتضمنُ تشخيصُ وجودِ الكردِ وتعريفُه بالأساليبِ التاريخيةِ المألوفةِ مشقاتٍ عديدة. فالجغرافيا التي قطَنوها، والتواريخُ التي مروا بها، قد أَثَّرت بِحِدةٍ في نشوئِهم، وأَرغَمَتهم على البقاءِ على هامشِ الحياة.
والبحوثُ الأخيرةُ تُشيرُ إلى أنّ ظهورَ الهوموسابيانس– الذي يُعَدُّ جَدَّ الإنسانِ الحاليّ – إلى الساحةِ خلالَ الثلاثِ مائةِ ألفِ سنةً الأخيرة من تاريخِه على وجهِ التقريب، قد حَصَلَ وتكاثَف في الهلالِ الخصيب (في الأراضي التي تَشغلُ كردستان الحاليةُ مركزَها، والتي تَقطنها غالبيةُ الكرد)”.
والثورة الأولى التي قام بها الإنسان والتي تعتبر أس التطور الذي نعيشه هي ثورة “اللغة” التي كانت ثمرة التطور الفكري نتيجة اهتمام الانسان بالانتاج الزراعي أو الصيد. أي أنه يمكن اعتبار الانتاج هو جوهر التطور البشري من ناحية الفكر والذي يولد بدوره اللغة المناسبة لهذا التطور. ومن دون الانتاج لا يمكن للفكر أي يعمل ويبحث عن كلمات ومصطلحات جديدة يسمي بها المنتج الجديد.
وبما أنَّه اعتبر الكثير من المؤرخين أن أول ثورة زراعية تمت في ميزوبوتاميا العليا والتي هي الموطن الأول لأجداد الكرد والجغرافيا التي ما زال الكرد يقطنونها، فهذا ينقلنا إلى أن مراحل تطور الفكر الانساني واللغة والانتاج كانت من نصيب هذه الجغرافيا ولذلك تم تسميتها بـ “مهد الحضارة الانسانية”.
ويوضح السيد أوجلان في نفس المجلد الخامس ويقول حول هذا الأمر: “إنّ النقلةَ المُعاشةَ في اللغةِ والفكرِ مع ثورةِ الزراعةِ والقرية، قد فتحَت السبيلَ أمام تشكيلاتٍ اجتماعيةٍ لَم يَكُن لها نظيرٌ في عهدِها. وتشكلت المجموعاتُ الهندوأوروبيةُ كمجموعةٍ لغويةٍ – ثقافيةٍ سائدة (لقد سُمِّيَت خطأً بهذا الاسم، والأصحُّ هو تسميتُها بالمجموعة اللغويةِ – الثقافيةِ الآرية).
في حين بالمقدورِ تعريفُ أصولِ الكردِ الحاليين بأنها الخليةُ النواةُ للمجموعاتِ الهندوأوروبية. والبحوثُ الجاريةُ بصددِ اللغةِ والثقافةِ الكرديتَين، تَطفو بهذا الواقعِ إلى السطح.
وجغرافيا الحياةِ وتاريخُها أيضاً يؤيدُ صحةّ ذلك أكثر. وما “غوباكلي تبه” التي نَقَّبَت البحوثُ في بقاياها مؤخَّراً، وكَشَفَت عن دورِها المحوريِّ كمركزٍ لأقدمِ قبيلةٍ ودينٍ يَمتدُّ بجذورِه إلى ما قبل اثنتَي عشرةَ ألفِ سنة؛ سوى أمثلةٌ مهمةٌ لإثباتِ جدارةِ وقوةِ تلك الثقافةِ القائمة. إذ لَم يُعثَرْ على مثالٍ عريقٍ وضاربٍ في القِدَمِ كهذا في أيٍّ من بقاعِ العالَمِ الأخرى”.
ونتيجة تطور الانتاج الزراعي والصيد وتسييس الحيوانات وازدياد عدد السكان الذي أدى للتوسع الجغرافي والسكاني، كانت هناك حاجة ماسة للبحث عن طرق أخرى للعيش والانتقال من مرحلة العيش على شكل مجموعات بشرية صغيرة تم تسميتها بـ “الكلان” التي تعتبر أصغر خلية مجتمعية في التاريخ، انتقل الانسان للبحث عن مساحات أخرى لزراعتها كي تكفي الزيادة السكانية التي طرأت وكانت البذور الأولى في تشكل القبيلة وارتباطها بالدين البدئي لتخليصها من المجهول المحيط بكل شيء من حولها. إذ، هناك علاقة وطيدة بين تشكل القبيلة وظهور الطوطم الذي كان الرمز بالنسبة للقبيلة والحامي لها من أي هجمات خارجية ويتوسل لها كي تقيه شرَّ الأشرار. يشير السيد أوجلان على هذا الارتباط بقوله: “لدى تقييمِ قوةِ الدينِ والقبيلةِ التي لا تنفكُّ مؤثرةً ونافذة، فسيُلاحَظُ أنّ التاريخَ والجغرافيا اللذَين تَستندُ إليهما يتميزان بمنزلةٍ مُعَيِّنةٍ فيها. فبقدرِ ما يتأثرُ مجتمعٌ ما بالتاريخِ والجغرافيا بنحوٍ طويلِ المدى وعميقِ الأثر، تَكُونُ محليّتُه وأهليّتُه قويةً ودائمةً بالقدرِ نفسِه. لا ريب أنّ ظاهرةَ التحولِ إلى شعبٍ لَم تتكونْ بعدُ في العهدِ النيوليتيّ. بل نَشهدُ ولادةَ المجتمعِ القَبَلِيِّ آنذاك. فالعشيرةُ تطورٌ ثوريٌّ عظيمٌ قياساً بمجتمعِ الكلان. هذا وبالإمكانِ نعتُ الثورةِ النيوليتيةِ بالثورةِ القَبَلِيّةِ أيضاً. فقد بدأَ اختلافُ اللغاتِ والثقافاتِ إلى جانبِ العلاقاتِ شبهِ المستقرةِ – شبهِ البَدَوِيّةِ بالنماءِ والازدهارِ في المجتمعِ القَبَلِيّ.
وما المركزُ الدينيُّ في غوباكلي تبه سوى كعبةُ عصرِه، تَقصدُها القبائلُ التي تَعيشُ الاستقرارَ والترحالَ بنحوٍ متداخلٍ مدى آلافِ السنين. لذا، لا يُمكنُ الاستخفافُ بنصيبِ هذا الواقعِ في بروزِ العواطفِ الدينيةِ التي لا تنفكُّ راسخةً متينةً لدى الكردِ عموماً وفي أورفا على وجهِ الخصوص. إننا نتعرفُ هنا على وجودِ ثقافةٍ وطيدةٍ تَكَوَّنَت قبل الحضارةِ السومريةِ المدينيةِ بآلافِ السنين، ودامَت آلافَ السنين. كما وتُواجِهُنا في الأحجارِ المنتصبةِ هناك أمثلةُ الكتابةِ الأسبق ظهوراً من أولى حروفِ الكتابةِ الهيروغليفية. إنّ نَحتَ تلك الأحجارِ قبل اثنتَي عشرة ألفِ سنة، وتحويلَها إلى كتاباتٍ شبيهةٍ باللغةِ الهيروغليفيةِ الرمزية؛ يُعَدُّ مرحلةً تاريخيةً نفيسة.