ما سبب التأييد الأمريكي للمواقف التركية بسوريا وليبيا؟
“نؤيد الموقف التركي في ليبيا وإدلب”، تغيير لافت في التوجهات الأمريكية إزاء السياسة التركية في المنطقة في أكثر ملفين ساخنين، فلماذا بدأت أمريكا تؤيد السياسات التركية في ليبيا وسوريا، وإلى أي مدى سينعكس هذا التغيير على الأرض في الأزمتين؟
بينما كانت سوريا سبباً لخلاف أمريكي تركي كبير جراء تهديد أنقرة باستهداف قوات سوريا الديمقراطية، وتم حله بمفاوضات صعبة، فإن الموقف الأمريكي في ليبيا كان دوماً ملتبساً وغامضاً ومتقلباً.
ولكن في الأزمتين بدأت واشنطن تتقارب مع أنقرة بشكل أقرب من أي دولة أوروبية، ويأتي هذا التقارب بعد جولات بين التوتر السياسي الشديد بين البلدين وصل إلى إخراج أنقرة من برنامج الطائرة زف 35، مروراً بالتوتر حول سوريا، والخلافات حول تقسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط والمرتبطة بثروتها من الغاز، وأخيراً الموقف التركي الشديد الوضوح في رفضه لصفقة القرن الأمريكية.
امتداح للتدخل التركي في ليبيا.. أعاد التوازن
في ليبيا، أعلن مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والأدنى، ديفيد شينكر، الأربعاء 12 فبراير 2020، رفض بلاده للحملة العسكرية التي تشنها القوات التي يقودها اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر.
شينكر قال خلال جلسة استماع بمجلس الشيوخ الأمريكي حول سياسة الوزارة تجاه ليبيا، وفق ما نقلته وكالة “سبوتنيك” الروسية: “نرفض الحملة العسكرية التي شنها حفتر، وندعوه إلى الانخراط في محاولات حل الأزمة”.
وقال إن “الولايات المتحدة تؤيد وتعترف بحكومة الوفاق، ولا تعترف بحفتر”، مشيراً إلى أن التدخل التركي أسهم في موازنة الكفة في ليبيا.
وتابع أن “التدخل التركي في ليبيا أبطأ تقدُّم قوات حفتر وخلق توازناً يمهد الطريق أمام سبلٍ أفضل للتفاوض”، مؤكداً ضرورة وقف إطلاق النار بين الأطراف المتقاتلة في ليبيا.
وفي سوريا.. نحن معكم
وقال جيمس جيفري، الممثل الخاص للولايات المتحدة لمشاركة سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش، على قناة الأخبار التركية NTV، إن الولايات المتحدة تدعم تركيا و “مصالحها المشروعة في إدلب”.
وقال خلال زيارته لأنقرة إنه ناقش مع المسؤولين الأتراك الوضع القانوني في إدلب “نحن ندعم وجود تركيا ومصالحها المشروعة في إدلب”.
وتحدث جيفري أيضاً عن أن أنقرة وواشنطن لهما أهداف جغرافية استراتيجية مشتركة في سوريا وليبيا، حيث التنسيق والتعاون في المعلومات مهم جداً.
وقال جيفري إن الجنود الأتراك لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم في إدلب، وإن الولايات المتحدة تتفهم حاجة تركيا للرد على قوات المعارضة. بصفتنا حليفاَ لحلف الناتو، فإننا نستكشف كيف يمكننا المساعدة. ونقل المعدات هو أيضاً في غاية الأهمية.
وأضاف أن “قضيتنا اليوم هي إدلب، ونريد إيجاد حل دبلوماسي لهذا مع العديد من الدول. ومع ذلك، فإن قضيتنا اليوم هي إدلب”.
وقال: “لا يمكن لتركيا وحدها أن تكون مسؤولة عن التعامل مع الكوارث الإنسانية، وأن روسيا والأسد مسؤولان عن الارتباك في سوريا”.
وسبق أن ناقش الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان يوم الإثنين الوضع في ليبيا، وسوريا، وبدا موقف ترامب خاصة في إدلب داعماً بشكل كبير للموقف التركي.
لماذا بدأت أمريكا تؤيد السياسات التركية في ليبيا وسوريا؟
يبدو أن العامل المشترك في الأزمتين هو التدخل الروسي.
ففي ليبيا بدا أن مشاركة المرتزقة الروس الذين تستخدمهم مجموعة فاغنر ساندت التوازن لصالح حفتر، ما استدعى قلقاً أمريكياً من تزايد نفوذ موسكو في هذا البلد النفطي.
وثارت المخاوف في واشنطن من أن ليبيا يمكن أن تضيع بنفس طريقة سوريا. ويعتقد أن القوات الروسية غير الرسمية تختبر الأرض لمساعدة حفتر على السيطرة على البلاد.
هناك قوات أمريكية خاصة في ليبيا، لكنها مكرسة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية بدلاً من الوقوف إلى جانب الحكومة، وتم تخفيض تواجدها مع اشتداد المعارك.
اللاموقف الأمريكي من ليبيا
ويمكن اعتبار أن أغلب القوى الكبرى والإقليمية لديها موقف واضح ومعروف في ليبيا، إلا الولايات المتحدة، وقد يكون هذا سبباً رئيسياً لاستمرار الأزمة.
وتقليدياً تعترف الولايات المتحدة بحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، وهي الحكومة التي تعاونت مع الغرب في مسألة مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، وتلقى تأييداً من إيطاليا المستعمر الأوروبي السابق لليبيا إضافة إلى دعم تركي تزايد مؤخراً.
ولكن في المقابل، فإن خصم هذه الحكومة خليفة حفتر يحظى برعاية حلفاء ترامب المدللين، الإمارات ومصر، وبصورة أقل السعودية، بالإضافة إلى فرنسا.
ولذا لم يكن غريباً أن يقلب ترامب السياسة الأمريكية تماماً، ويُجري اتصالاً هاتفياً مفاجئاً مع الجنرال المتقاعد خليفة حفتر في إبريل/نيسان 2019، ويشيد بدوره في مكافحة الإرهاب، مخالفاً للموقف الرسمي للخارجية الأمريكية، وهو اتصال قيل إنه تم بوساطة من القيادتين الإماراتية والمصرية.
ولكن مع تزايد الهواجس الأمريكية تجاه روسيا، يبدو أن تأثير الحلفاء المدللين والتوتر في العلاقة مع تركيا يتراجعان قليلاً.
يشعر صُناع الساسة الأمريكيون أن تركيا التي لاموها على تقاربها مع موسكو هي القوة الوحيدة التي تتصدى للنفوذ الروسي الزاحف في ليبيا، بينما الحلفاء المدللون هم طابور خامس لهذا النفوذ.
في السابق، كانت الولايات المتحدة تبدو محايدة من خلال الدعوة لوقف إطلاق النار بدلاً من حثّ جانب واحد على الانسحاب، ولكن بياناتها الأخيرة أصبحت أكثر وضوحاً في انتقاد حفتر.
ولكن كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية، يبقى أن نرى هل هذا الدعم السياسي الجديد لحكومة الوفاق الليبية ستقابله تغريدة من قِبَل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما إذا كان الموقف الأمريكي المنتقد لحفتر سيؤدي إلى ضغوط أمريكية عملية، إما على حفتر أو حلفائه الراعين لدفعه للانسحاب.
في إدلب.. تركيا تتصدى لنفوذ خصوم أمريكا
والأمر ذاته في سوريا، فواقعياً فإن تركيا هي العائق الوحيد أمام نظام الأسد المدعوم من أعداء واشنطن روسيا وإيران.
يبدو التأييد الأمريكي للسياسات التركية في سوريا وليبيا أمراً طبيعياً وبديهياً، بل جاء في وقت متأخر.
فأمريكا لا تُخفي تنافسها مع روسيا وعداءها لإيران، وبالتالي فإنه يفترض أنه حتى لو أن تركيا ليست حليفاً للولايات المتحدة وليست عضواً بارزاً في الناتو فإن واشنطن يفترض أن تدعم موقفها نكايةً في طهران وموسكو.
التاريخ القريب يُعلّم تركيا ألا تثق في واشنطن
ولكن رغم ذلك، فإن التاريخ القريب يعلّمنا أن استمرار هذا التأييد الأمريكي للسياسات التركية وتحوله إلى تصرفات فعلية في وقت الضيق أمرٌ غير مضمون.
فخلال الأزمة السورية، كانت الولايات المتحدة ومعها بقية الدول الغربية تعتبر الأسد حاكماً متوحشاً خارجاً عن القانون يجب أن ينتهي حكمه، وأشرفت أجهزة الاستخبارات الغربية والخليجية على دعم المعارضة السورية عبر تركيا.
وفي النهاية، عندما تدخَّل الروس لدعم الأسد، وحدث توتر بينهم وبين الأتراك وصل لاختراق روسيا للمجال الجوي لتركيا، ثم إسقاط الأخيرة لطائرة روسية، تركت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو أنقرة وحدها، بل إنها سحبت صواريخ باتريوت المضادة للطائرات والصواريخ، كما ترك الغرب تركيا وحدها في مواجهة أزمات تدفق اللاجئين، ولم يتلزم الاتحاد الأوروبي بتعهداته تجاه أنقرة فيما يتعلق بأزمة اللاجئين، بما في ذلك تقديم المساعدات اللازمة لهم والسماح للمواطنين الأتراك للدخول بدون تأشيرة.
ولذا لم يكن غريباً أن يعترف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن السبب في توجُّه تركيا لشراء صواريخ إس 400 هو رفض سلفه أوباما منح صواريخ باتريوت لأنقرة.
وبقدر ما يقرب العداء والقلق من روسيا، الولاياتِ المتحدة إلى تركيا، بقدر ما هناك أشياء كثيرة تباعد الغرب، ومنه الولايات المتحدة الأمريكية، عن أنقرة، وهي أشياء أعمق من انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة التي لم تمنع التقارب الغربي مع الإمارات والسعودية ومصر.
لا يتقبل الأوروبيون والأمريكيون تركيا الجديدة، ولا يتفهمون حرصها على الندية في التعامل وضمان مصالحها، كما أن كثيراً من النخب الغربية لا تُخفي موقفها السلبي من التوجهات الإسلامية التي يعبِّر عنها الرئيس التركي أكثر من ذي قبل، فالبنسبة لليبراليين الغربيين فهو يميني، وبالنسبة لليمينيين هو إسلامي.
كما أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية يطالبان تركيا بالالتزام بضوابط التحالف المفترض بينهما، بينما هم يتجاهلون وأحياناً يعادون متطلبات الأمن القومي التركي، بدءاً من دعمهم لقوات سوريا الديمقراطية التي تعد امتداداً لحزب العمال المصنَّف إرهابياً في تركيا وأغلب الدول الغربية، وصولاً إلى تجاهل مصالح تركيا في شرق المتوسط.
تلوم الدول الغربية تركيا على تقاربها مع روسيا، في حين تتناسى أنها هي السبب في هذا التقارب.
وقد يشير هذا التاريخ القريب إلى أن التغيير في الموقف الأمريكي من السياسات التركية في سوريا وليبيا قد يكون هدفه تسعير الخلاف التركي – الروسي ثم ترك أنقرة وحدها مجدداً.