ما رأي الملكة إليزابيث في البريكسيت؟
رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تطلب من رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حتى 30 يونيو لكن في الوقت نفسه تعلن إنها تهدف إلى أن تغادر بلادها التكتل في موعد أقرب تجنباً للمشاركة في الانتخابات الأوروبية.
وكان من المقرر أن تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي خلال أسبوع لكن ماي اضطرت لطلب مزيد من الوقت بعد أن فشل البرلمان البريطاني في التصديق على اتفاق الانسحاب.
بحسب موقع “ديلي بيست” الأمريكي فقد أصبح أداء البرلمان البريطاني في أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شديد الحماقة إلى درجة أنَّ بعض الناس يأملون بشدة في أن تتدخل الملكة.
لكنَّ ذلك لن يحدث
فآخر مرة أوقف فيها أحد الملوك تشريعاً كانت عام 1707، عندما أسقطت الملكة آن قانوناً من شأنه السماح بأن يكون لإسكتلندا ميليشيا خاصة بها. وكما يعرف عشاق فيلم The Favourite، فإنَّ الملكة آن كانت أحياناً صعبة المراس.
أما الملكة إليزابيث فهي مختلفة عن الملكة آن وقد أمضت عمرها في تجنب تقديم أي تلميح لآرائها السياسية بمهارة بارعة. خلال ذلك الوقت فُككت الإمبراطورية البريطانية وذهب معها الزعم بأنها لا تزال قوة عالمية.
وبدا أنّ الملكة قبلت كل ذلك بوصفه من طبائع قوى التاريخ. كان من الممكن لمملكتها بسهولة أن ينتهي بها المطاف كما انتهى بالبيوت الملكية الأوروبية الأخرى، إما من خلال تقليصها إلى مجرد استخدام ألقابها بوصفها ألقاباً بلا معنى بين المجتمع الراقي أو أن يصبح أفرادها ديمقراطيين اشتراكيين يركبون الدراجات.
لكنَّ العائلة المالكة البريطانية صمدت
وصحيح أنها حيدت سياسياً لكن تم التسامح معها بوصفها جزءاً من المشهد القومي الذي لا يزال يتوقع فيه للقصور والقلاع أن تُسكن.
واجهت الملكة لحظات عصيبة عندما بدا أنها فقدت تواصلها بشعبها، وكان أسوأ مثال على ذلك تأخرها في إدراك عمق الحزن العام على موت الأميرة ديانا والاعتراف بهذا الحزن.
لكن في العقود الأخيرة من حكمها -وهي أطول الملوك البريطانيين حكماً على الإطلاق- لم يبد وكأنَّ إليزابيث قد اعتنقت الروح الجديدة لشعبها فحسب، بل بدا أيضاً استمتاعها بهذه الروح بطريقة تقترح أنها لا بد وأن تبغض الخروج من الاتحاد الأوروبي ورهاب الأجانب المدمر المصاحب له.
والدليل على ذلك في حدث واحد لا يمكن التغاضي عنه الآن: الحفل الافتتاحي لدورة الألعاب الأولمبية 2012 بلندن.
فكما هو الحال مع الكثير من دورات الألعاب الأوليمبية الأخرى، فإنَّ هذه الدورة ربما تكون قد جلبت معها تدريبات مبالغاً فيها في البروباغندا القومية.
لكن بدلاً من أن يكون الحفل ثقيل الظل للمجد البائد، حصلنا على حفلة شوارع صاخبة من تخطيط المخرج السينمائي داني بويل جعلت بقية العالم يعتقدون أننا قد أصبحنا بلداً ممتعاً للغاية.
لم يكن ثمة تهديد للآخرين في هذا السيناريو
لم يكن هناك شعور بأنَّ ثمة اعتراضاً لتمرد من القوميين المستائين، في مكان ما خلف الكواليس في المقاطعات، وراء مدينة لندن النابضة بالحياة، ينتظر اللحظة المناسبة للضرب.
كان سيناريو بويل عبارة عن توازن بارع في الرسائل: واثق بما يكفي للسخرية من نفسه، وحصيف بما يكفي لاستعراض الأيقونات الثقافية العالمية الشهيرة مثل هاري بوتر وجيمس بوند وديفيد بيكهام، ومجنون بما يكفي ليكون خليطاً من موسيقى الروك أوبرا وتاريخاً للثورة الصناعية، وذكياً بما يكفي ليشتمل على المجاز الوطني الحتمي فيستخدم تشرشل بوصفه تمثالاً مفعماً بالحيوية على نحو فجائي، وسياسياً بما يكفي لعمل لوحة مدببة تدعم هيئة الخدمات الصحية الوطنية والرعاية الصحية المجانية الشاملة عندما كان أعضاء حزب المحافظين يحاولون إلغاء هذه الرعاية. (أحبط بويل جهداً من حزب المحافظين لإزالة هذا الجزء من البرنامج).
وزادت الملكة كل ذلك بمشاركتها في خدعة بهلوانية ذهب فيها كل وقارها المفترض وبُعدها وهيبتها أدراج الرياح.
إذ أخرج بويل مشهداً تتوقف فيه إحدى سيارات الأجرة أمام قصر باكينغهام وتُنزل شخصاً شهيراً إلى درجة أنَّ أطفال مدارس في جولة في القصر ينفصلون بصفاقة عن مرشدهم ليحدقوا في هذا الشخص ببلاهة: دانيال كريغ، المعروف باسم: جيمس بوند.
من الضروري عند هذه النقطة التحذير من أنَّ أي أمة تبني سمعة استخبارات وطنية متفوقة على سجل شخص سيكوباتي كاره للنساء مثل بوند هي أمة واهمة لكنَّ ذلك غير مهم، فالعالم كله يستمتع بالدعابة، كما نأمل.
جيمس بوند يظهر في حضور الملكة
يظهر بوند في حضور الملكة -في خطوة يبدو أنَّ الملكة نفسها هي من اقترحتها- لتتجاهله في البداية، ثم تتحول من كتابة الملحوظات على مكتبها، وتنطق الاسم السحري: «سيد بوند».
ما تلا ذلك كان أمراً مذهلاً فعلاً: تتبع الملكة بوند إلى مروحية بانتظارهما، ويطيران قريباً من سلسلة من المعالم ويصلان إلى الاستاد الأوليمبي مع بدء حفل الافتتاح، وتسلط عليهم الكشافات. يقفز بوند والملكة (دوبليرات شجعان لهما) بالمظلات إلى الساحة، ومن ثم، وصولاً إلى الحدث الفعلي، تدخل الملكة لتعلن رسمياً عن افتتاح البطولة.
بالنسبة إلى جمهور التلفاز العالمي الضخم الذي كان يشاهد ذلك، فقد كان ذلك بمثابة حدث مذهل. وكان تلميحاً واضحاً للرسالة التي ينبغي فهمها. كانت الملكة متفقة مع رسالة حول بلدها بوصها مجتمعاً شاباً لبرالياً تقدمياً متعدد الأعراق لم يعد مرتبطاً بالشوفينية القديمة لما كان يعتبر في الماضي «عرق جزيرة» متميزاً. وهذه الملكة وهذه الرسالة هي ما بدا أنَّ حشود البريكسيت قد هزموها.
فلماذا لا تكون جلالتها غاضبة فعلاً؟
في هذه اللحظة بالذات، فإنَّ الملكة على وشك أن تصبح جدة لطفل مولود من امرأة مطلقة مختلطة العرق وحفيد احتضنته بحماس غير محدود.
تزوج ميغان ماركل والأمير هاري في كنيسة سانت جورج بقلعة ويندسور في احتفالية دوت فيها روح Rainbow Coalition-وهي جوقة غناء إنجيلي من شيكاغو كانت تهز المكان بأغنية «Stand by Me»، وكان جيل ميغان وهاري واقفين في المقصورات جنباً إلى جنب مع الدوقات الواهنين وأوبرا! وكان جمهور التلفاز الذي شاهد ذلك قوامه 1.9 مليار نسمة!
ومع ذلك، فوراء تكريس قيم الأسرة المستنيرة والعصرية هذه تكمن مفارقة تمثلت في قلعة ويندسور حيث علقت على الكنيسة لافتات شعارية تشير إلى الأوسمة العديدة التي منحت لأولئك الذين خرجوا لغزو العالم بوصفهم صليبيين مسيحيين بيضاً من عِرق الجزيرة.
وكذا، فمن الممكن رؤية الأبهة الملكية بطريقتين شديدتي الاختلاف وذاتيتين تتجاهل فيهما كل استجابة أخرى. فمن منظور البعض كانت الملكية تنتقل من جيل إلى آخر مع الموافقة السعيدة للملكة عن العائلة الملكية العالمية الجديدة. ومن منظور البعض الآخر الذين لا يقلون حماساً عن المجموعة الأولى، فقد كانت هذه بريطانيا بحذافيرها، حيث تتغلب البيئة الأرستقراطية الهائلة على تمثيلية التغيير وحيث جرى استدعاء جميع المشاعر الرجعية للبريكسيت.
تقهقر للعزلة
ويترك هذا الأمر الملكة، مثلها مثل بقية البلاد، تتأرجح على نحو خطر بين الأهمية وعدمها.
فإذا ما تحقق الخروج من الاتحاد الأوروبي فإنَّ أفراد العائلة المالكة الجدد قد يجدون أنفسهم مسجونين مدى الحياة باعتبارهم طاقماً فنياً دائماً لأكثر المسلسلات شعبية في العالم. سوف يكون ويل وكيت وهاري وميغان وأطفالهم من بين مصادر الإيرادات القليلة المؤكدة لاقتصاد الجزيرة المحاصرة إذ سوف يجتذبون موجات من السياح.
بعبارات دراماتيكية، فلهذا الأمر كل سحر وتشويق مسلسل The Crown العظيم الذي يعرض على Netflix. في نهاية المطاف، يخلف الملكة الأمير تشارلز العدواني والنازع للتأمل والمستعبد لخليلته السابقة العطوف، التي أصبحت الآن دوقة متعجرفة.
تبرز أسئلة حول ما إذا كانت المؤسسة تستطيع النجاة حتى صعود الملك ويل، وروايات خيالية لا انتهاء لها في الصحف الصفراء حول النزاعات العائلية، وفي حين تعيد هذه السردية اختراع نفسها على نحو دائم تعلن إسكتلندا استقلالها وتعيد الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتستوعب أيرلندا الشمالية في أيرلندا الموحدة، بفضل سخاء تمويل الاتحاد الأوروبي، لتصبح معجزة أوروبا الاقتصادية.
أما إنجلترا المسكينة، ويا للأسف، التي تركت لتكون الرديف المرهق للمملكة، فإنها تصبح مجرد حديقة ترفيهية كبيرة مكونة من مواقع سياحية تتشكل من مزيج من مسلسلي The Crown وDownton Abbey، وتباع بعض القلاع الملكية لتصبح جزءاً من امتياز هاري بوتر المستمر.
لا بد أنَّ الملكة الآن قد أدركت، مع ملايين من رعاياها أنَّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس من قبيل عمل قوى التاريخ الطبيعية، وإنما هو رفض للمستقبل وتقهقر مندفع إلى العزلة والعجز. وكذا، فلا بد أنَّ هذا أمر لا يطاق بالنسبة للمرأة التي تعلمت من تاريخها أنَّ السقوط لا ينبغي بالضرورة أن يتبع الانحدار.