ماذا ينتظر النظام العالمي بعد جائحة كورونا؟
مثل سقوط جدار برلين عام 1989 أو الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، فإن جائحة فيروس كورونا تعد حدثاً مفصلياً على مستوى العالم لا يمكننا أن نتخيل عواقبها إلا بعد مرور وقت طويل. فمثلما أدى هذا المرض إلى تحطيم حياة كثير من المجتمعات، وتعطيل الأسواق، وكشف كفاءة الحكومات أو انعدامها، فإنه سيؤدي إلى تحولات دائمة في حجم وشكل القوى السياسية والاقتصادية في مختلف أنظمة دول العالم.
عالم أقل انفتاحاً وازدهاراً وحرية
من المتوقع أن هذا الوباء سيعزز القوميات، إذ تتبنى حالياً الحكومات بجميع أنواعها إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وسيصعب على كثير من الأنظمة التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الأزمة. ويبدو أننا سنرى الدولة القومية ذات السيادة ستكتسب مزيداً من القوة مرة أخرى أمام المؤسسة الدولية ورأس المال العالمي.
تذكر مجلة فورين بولسي الأمريكية حول ذلك أن هذه الأزمة أيضاً ستسرع من تحول السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق. وقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل من واشنطن أو عواصم أوروبية أخرى، وكان رد فعل الصين جيداً بعد أخطائها المبكرة، فيما كانت الاستجابة في أوروبا وأمريكا بطيئة وعشوائية، مما زاد من تشويه هالة “العلامة التجارية” الغربية التي “لا ينافسها أحد”، والتي تستطيع التغلب على أي أزمات.
لكن الأمر الذي ربما لن يتغير هو الطبيعة المتضاربة بشكل أساسي للسياسة العالمية، إذ إن الأوبئة السابقة -بما في ذلك وباء الإنفلونزا الإسبانية في 1918-1919 – لم تنهِ تنافس القوى العظمى ولم تبشِّر بعصر جديد من التعاون العالمي.
باختصار، ستخلق أزمة كورونا عالماً أقل انفتاحاً وازدهاراً وحرية، إذ إن اجتماع فيروس قاتل، وتخطيط غير ملائم، وقيادة غير كفؤة، سيضع البشرية على مسار جديد ومثير للقلق.
نهاية العولمة التي نعرفها
مع تعثّر نظام العولمة المكون من اقتصاد السوق الرأسمالي والسياسات الديمقراطية الليبرالية، يظهر أمامنا نموذج جديد آخذ في الظهور، يعمل على صهر الدولة السياسية والقومية الثقافية والاقتصاد التجاري في وعاء واحد.
وثمة عاملان مرتبطان ببعضهما يدفعان بعجلة تلك التطورات، فمن ناحية، تسرب رأس المال الغربي الكبير إلى الشرق بحثاً عن الأيدي العاملة الزهيدة والتسهيلات الضريبية، ومن ناحية أخرى، تدفق اللاجئون والمهاجرون هرباً من الشرق والجنوب نحو الغرب بسبب الفقر وعدم الاستقرار والحروب.
هذان العاملان أزعجا استقرار الطبقتين الدنيا والمتوسطة في البلدان الغربية، فبدأت تظهر حالات من التململ والانزعاج تجاه النظم المستقرة على سُدة الحكم.
ويمكن أن تكون جائحة كورونا هي القشة التي قصمت ظهر البعير للعولمة الاقتصادية، والآن سيجبر COVID-19 الحكومات والشركات والمجتمعات على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية.
كما يبدو من غير المحتمل إلى حد كبير في هذا السياق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة المفيدة للطرفين التي حددت أوائل القرن الحادي والعشرين. وبدون حافز لحماية المكاسب المشتركة من التكامل الاقتصادي العالمي، فإن بنية الحوكمة الاقتصادية العالمية التي تم إنشاؤها في القرن العشرين ستتدهور بسرعة.
عولمة أكثر تتمحور حول الصين
لن تغير جائحة كورونا بشكل أساسي الاتجاهات الاقتصادية العالمية، لكنها سوف تسرع فقط من التغيير الذي بدأ بالفعل: الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين.
ويبدو أنه سيكون أمام الولايات المتحدة خياران، فإذا كان هدفها الأساسي هو الحفاظ على التفوق العالمي، فسيتعين عليها الانخراط في منافسة جيوسياسية صفرية سياسياً واقتصادياً مع الصين. وإذا كان هدف الولايات المتحدة هو تحسين رفاهية الشعب الأمريكي – الذي تدهورت حالته الاجتماعية – فعليها أن تتعاون مع الصين. تقول المجلة الأمريكية: بالنظر إلى البيئة السياسية الأمريكية الحالية السامّة تجاه الصين، قد لا تسود الحكمة في التعاون مع بكّين.
مزيداً من الدول الفاشلة
ستؤدي أزمة كورونا إلى تحول تركيز معظم الحكومات إلى الداخل بدلاً من الخارج، وستعمل الكثير من الدول من الآن فصاعداً على التحرك نحو الاكتفاء الذاتي الانتقائي. ونتيجة لذلك، سنجد معارضة أكبر للهجرة على نطاق واسع؛ وسنجد انخفاضاً أكبر في الرغبة أو الالتزام بمعالجة المشكلات الإقليمية أو العالمية (بما في ذلك تغير المناخ) نظراً للحاجة لتكريس الموارد لإعادة بناء ما دمرته أزمة كورونا.
فيما ستُترك العديد من البلدان النامية لمواجهة مصيرها بنفسها، وستجد هذه الدول صعوبة كبيرة في التعافي من الأزمة القادمة، مما سيزيد من انتشار الدول الفاشلة.
في النهاية، من المرجح أن تشكل جائحة كورونا أكبر أزمة عالمية في هذا القرن، وسيكون عمقها كبيراً بشكل يهدد أزمة الصحة العامة لـ7.8 مليار شخص على وجه الأرض. ويمكن للأزمة الاقتصادية القادمة أن تتجاوز في تأثيرها الركود الكبير 2008-2009. وعليه، فإن كل أزمة كهذه مرّت على العالم شكلت صدمة زلزالية، غيّرت بعدها في شكل النظام الدولي بشكل دائم.
وكما كان الحال دائماً، سيكتب “المنتصرون” على فيروس كورونا التاريخ. وستدعي تلك الدول المثابرة – سواء من خلال نظمها السياسية والاقتصادية الفريدة، أو من منظور الصحة العامة – النجاح على أولئك الذين يعانون من نتائج مختلفة وأكثر تدميراً. وبالنسبة لبعض الدول، سيظهر ذلك على أنه انتصار كبير ونهائي للديمقراطية والتعددية والرعاية الصحية الشاملة. وبالنسبة للآخرين، سوف تُستعرض “الفوائد” الواضحة للحكم الاستبدادي الحاسم في القضاء على الوباء. وفي كلتا الحالتين، ستقوم هذه الأزمة بتعديل هيكلة القوى الدولية بطرق لا يمكننا أن نتخيلها إلا بعد مرور وقت طويل.