ماذا سيفعل مولر مع ترامب؟
قبل فترة طويلة من إدانة اثنتين من الدوائر المقربة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بلغت توقعات اليسار السياسي ذروتها بشأن التحقيقات في تدخل روسيا في الانتخابات.
تنبأ الديمقراطيون بأن المحقق الخاص، روبرت مولر، سوف يتخلى عن سياسة مستمرة منذ نصف قرن ليحاكم رئيس في منصبه. وتناولت إحدى مذيعات قناة MSNBC كيفية إلقاء القبض عليه إذا رفض مغادرة البيت الأبيض (كانت الإجابة: «في مرحلة ما، سيتحتم عليه الخروج»)، بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
ويواجه مولر، وهو جمهوري طيلة حياته ويلعب دور بطولة غير محتملة في المقاومة المناهضة لترمب، سلسلةً من القرارات الحاسمة في الأشهر المقبلة. فهل يستدعي الرئيس للمحكمة؟ وهل يوجه إليه اتهامات؟ هل يكتب تقريراً عاماً؟ يمكن لكل من هذه القرارات أن تؤثر على انتخابات التجديد النصفي، بل وتؤثر على مستقبل الرئاسة نفسها.
يقول هؤلاء الأشخاص الذين عرفوه منذ أعوام: لا تنظروا إلى الأساطير التي نُسِجَت منذ تعيين مولر قبل 15 شهراً لفهم حقيقة ما سيحدث في المرحلة التالية. بل انظروا بدلاً من ذلك إلى أربعة عقود قضاها في الخدمة الحكومية.
ولمّا كان يصعد في السلم الوظيفي -بدءاً من وظيفة المدعي العام ومروراً بكونه مسؤولاً في وزارة العدل، ووصولاً إلى شغله منصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي- اتسم عهده بالمحاكمات العنيفة، لكنه اتسم أيضاً في لحظات هامة باحترام التقاليد، والسوابق القضائية، وأصحاب المناصب العليا. قال غلين كيشنر، الذي عمل مع مولر مدعياً عاماً في جرائم القتل: «إنه آخر شخص يفعل شيئاً يحيد ولو حياداً بسيطاً عن المبادئ الراسخة».
وقال زملاء له إن تحقيقات المستشار الخاص سارت وفقاً لمسارٍ مألوف، ويعزى جانب كبير من هذا إلى أن مولر، البالغ من العمر 74 عاماً، وهو شخصية كارهةٌ للدعايةِ ومحافظةٌ مثل ثيابه التي يرتديها (بدلة سوداء، وقميص أبيض -لا يغيرها إلى الأزرق أبداً- وزر ياقة مغلق)، قد التزم بنهجه.
قالت مارلين هول بتيل، وهي قاضية فيدرالية متقاعدة في سان فرانسيسكو: «إنه نفس الشخص الذي كان عليه دائماً: ثابت، ومتزن، وحذِر».
اجمع فريقاً
بعد فترة قصيرة من تولي منصب المدعي العام للولايات المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1998، تذكر زملاؤه السابقون أنه طالب جميع المشرفين في المكتب بالتنحي. وأرسل على الفور بريداً إلكترونياً إلى العاملين في وزارة العدل معلناً عن أن «الوظائف التالية شاغرة الآن»؛ وذكر كل وظيفة مدعي عام رئيسية في شمال كاليفورنيا.
أحس كثير من العاملين معه أنها طريقة فظة ومثيرة للاشمئزاز. لكن مولر أخبر زملاءه أنه تعلم أسلوباً إدارياً قبل عقود عندما كان قائد فصيل بالبحرية: لا يمكنك أن تجعل الأشخاص يفعلون الأشياء التي لا يستطيعون القيام بها. لذا بدلاً من تحفيز الموظفين، فضَّل أن يتحرك بسرعة ليجمع أفضل فريق ممكن، حتى إذا كانت طريقته مزعجة.
عندما صار مستشاراً خاصاً، عيَّن مولر المدعين العامين الموهوبين في جميع أنحاء البلاد، ليملأ المكتب بزملائه القدامى الموثوقين والمدعين العامين الأصغر ممن لهم سير ذاتية جيدة جداً. قالت ماليندا هاج، وهي مدعية عامة سابقة للولايات المتحدة في لوس أنجلوس كانت قد عملت من قبل مع مولر كبيرة للمدعين العامين في جرائم أصحاب المهن المرموقة: «إذا كان أمامك فرصة للعمل معه والتعلم منه، فاحصل عليها».
لم يكن مولر الخيار الأمثل لقيادة مكتب المدعي العام في سان فرانسيسكو خلال إدارة كلينتون. تذهب هذه الوظائف في المعتاد إلى المحامين ذوي العلاقات السياسية، وقد شكلت العضوة الديمقراطية بمجلس الشيوخ الديمقراطية عن ولاية كاليفورنيا، باربارا بوكسر، لجنة اختيار لتقديم توصيات حول المرشحين لشغل المنصب.
كان مولر مرتبطاً بالحزب الآخر، أو لنقل بالحزب الخطأ في التوقيت الصحيح، فقد عُيّن ضمن كبار المدعين العامين التابعين لوزارة العدل خلال إدارة جورج بوش. لكن مكتب سان فرانسيسكو كان في حاجة إلى الانضباط، ورشح المدعون العامون المتدرجون في مناصبهم بوزارة العدل في واشنطن مولر لشغل هذه الوظيفة. بالرغم من أن بوكسر كانت تضع عيناً على مرشحين ليبراليين ينوِّعون أطياف وانتماءات قوة العمل، كانت رئيسة لجنتها، كريستينا أرغيداس، تعرف مولر وتحترمه عندما كان مدعياً عاماً صغيراً وكانت هي محامية دفاع عام.
تتذكر أرغيداس: «لقد كانت مفارقة إلى حد ما أن أذهب إلى باربارا بوكسر وأقول: يجب عليك أن تعطي هذه الوظيفة الممتازة إلى هذا الشخص الأبيض المستقيم، الذي هو أيضاً جمهوري صميم».
وقالت القاضية بتيل إنها أوصت بكل هدوء بتعيين مولر لأعلى المناصب بوزارة العدل. وأوضحت: «إنني ديمقراطية، وهو جمهوري. لكنه نوع مختلف من الجمهوريين، من النوع الذي نتذكره».
وحتى إذا فكر مولر في الطموح السياسي، فلم يكن للجمهوريين أن يحلموا بِنَسَبٍ أفضل من هذا: روبرت سوان مولر، ابن أحد مديري شركة دو بونت، وحفيد قطب من أقطاب صناعة السكك الحديدية، وهو من نُشر خبراً عن ميلاده في صفحات المجتمع الخاصة بصحيفة The New York Times. تخرج مولر من مدرسة نيو إنغلاند الإعدادية ومن جامعة برينستون، حيث كان نجماً في رياضتي الهوكي واللاكروس وتطوع في قوات البحرية الأميركية وحصل على ميدالية النجمة البرونزية ووسام القلب الأقحواني في فيتنام. تزوج مولر قبل التجنيد بقليل، ولديه ابنتان من زوجته آن، التي تعمل معلمة.
لكن مولر لم يغازل أبداً أي منصب انتخابي. بعد حصوله على درجة علمية في كلية القانون بجامعة فيرجينيا -وهي واحدة من كليات مرموقة قليلة لم تنظر إلى خدمته العسكرية في حرب فيتنام، حسبما سيقول لاحقاً- بدأ في محاولاته للحصول على وظيفة مدعي عام.
وقد أخبر مجلة الخريجين من كلية القانون التي درس فيها خلال مقابلة نادرة: «أريد أن أعمل عملاً حكومياً. فكل يوم تذهب إلى العمل لأنك تريد ذلك؛ فهناك دائماً شيء ممتع ومثير. وإنك تفعله من أجل شخص آخر، وليس فقط من أجل الراتب».
انتقل بسرعة
عندما كان أعلى مدعي عام جنائي في البلاد خلال إدارة بوش، أشرف مولر على التحقيقات رفيعة المستوى التي تتعلق بتفجير لوكربي، ومقاضاة زعيم العصابة جون جوتي، وفضيحة الفساد المالي مترامية الأطراف التي تورَّط فيها بنك الاعتماد والتجارة الدولي.
وبعد ذلك، اتخذ خطوة كبيرة من التنحي عن منصبه كي يعود إلى الخطوط الأمامية لسلطات إنفاذ القانون. فقد أصبح مدعياً عاماً في جرائم القتل بواشنطن، وهي مدينة كانت تترنح بسبب العنف الذي يسببه انتشار تعاطي الكراك كوكايين بين الثمانينيات وبدايات التسعينيات.
قال ذات مرة معلقاً على تلك الفترة: «إنني أحب كل شيء حول التحقيقات. أحب الأدلة الجنائية، وبصمات الأصابع، والطلقات الفارغة، وكل الأشياء الأخرى».
ويطلب مولر بنفس الأمر من مرؤوسيه، الذين يتوقع منهم أن يكونوا غارقين في التفاصيل. قال جون بيستول، نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية سابقاً: «الشيء الذي كان يثير غضبه عندما يأتي شخص ما ليقدم إحاطة وهو غير مستعد لذلك. والأسوأ، عندما يأتي غير مستعد ويتظاهر بأنه مستعد لذلك».
تعتبر المطالبة بالوصول إلى التفاصيل مرهقة على نحو خاص؛ لأن مولر مشهور بأنه غير صبور. فالاجتماعات لا تكون شؤوناً عرضية تتخللها القهوة والأحاديث الجانبية. بل إنها تسير وفقاً لخطط ثم تنتهي. يؤمن مولر بالاجتماعات التي تستغرق 15 دقيقة.
يُتوقع أيضاً من القضايا أن تتحرك بسرعة. إذ إن مولر لا يتسامح مع المدعين المتسكعين الذين يضلون الطريق.
تشير جميع المقاييس تقريباً إلى أن مولر قاد أسرع وأنجح تحقيقات مستقلة في واشنطن خلال العصر الحديث. ففي مدة تجاوزت العام بقليل، وجّه المستشار الخاص اتهامات إلى 25 روسياً لمحاولة التأثير على انتخابات أميركية. وتمكن كذلك من إدانة رئيس الحملة الرئاسية لترمب وحصل على إقرارين بالذنب من اثنين من معاوني ترمب في الحملة ومستشار أمن قومي سابق.
عمل المدعون العامون لدى المستشار الخاص حتى ساعات متأخرة وفي العطلات الأسبوعية، وهي سمة أخرى مميزة لأسلوب مولر. عندما كان المدعي العام للولايات المتحدة، كان يسير في القاعات في الصباح ومرة أخرى في المساء، ليرى من كان يؤدي عمله حتى نهاية اليوم. وخلال السنوات الطويلة التي قضاها مديراً لمكتب التحقيقات الفيدرالية، اعتاد استقبال موجزين يومياً حول المنجز من الأعمال، ليجبر العملاء والمحللين حول البلاد على العمل لساعات طويلة وفي أوقات غير اعتيادية لمجاراة مطالباته للحصول على المعلومات.
يقول عديد من العملاء الذين عملوا تحت قيادته إن شخصيته جعلته الشخص الأمثل لتجديد المكتب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فيما عبر آخرون عن غضبهم من أسلوبه الصارم. ثمة انتقاد شائع يقول إنه بعد 12 عاماً في المنصب، شغل المناصب العليا في مكتب التحقيقات الفيدرالية بنوعين من الأشخاص: الشخصيات القوية من ذوي الطبائع ذات الأساليب الصارمة التي تتناسب مع أسلوبه، والآخرون الذين يخضعون في نهاية المطاف إلى إرادته.
لا يتعلق الأمر بأنه لا يكترث بشؤون الآخرين، إذ يتذكر زملاؤه تعاطفه خلال الأوقات الصعبة في حياتهم. بل يتعلق بأنه يركز -على حساب جميع الأمور الأخرى تقريباً- على وظيفته.
قالت أرغيداس: «لم يكترث بالسياسات الداخلية. ولا يكترث بردود أفعال الأشخاص على الأشياء».
إذ تذكرت الاجتماعات الدورية مع مولر، حيث عرض محامو الدفاع مظالمهم من مكتبه. وتقول إنه استمع باهتمام وكان يجيب تقريباً دائماً بـ»كلا». فلا انتقاص من قدر المظالم ولا ابتذال. وأضافت: «تلك الطريقة التي كانت عليها (الردود)».
قال أغيداس: «إنه لا يحاول أن يكون محبوباً. ولا يكترث بأدنى قدرٍ من ذلك».
اعرف دورك
عندما علم مولر أن ضباط وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) كانوا يُخضعون السجناء للإيهام بالغرق، ويحبسونهم داخل توابيت، ويسلسلونهم إلى الجدران، ويُبقونهم مستيقظين لأيام، اشتهر بتوجيه أوامر إلى عملاء الإف بي آي تحت إدارته بألا يشاركوا.
ارتأى الديمقراطيون والمدافعون عن حقوق الإنسان أنها كانت استجابة تمجيدية لهذه الأفعال، ولكنهم في النهاية اعتبروا أنها استجابة ممتنعة عن ذكر الحقيقة. فعلى كل حال، لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية سلطة للتحقيق في التعذيب والانتهاكات التي تحدث في السجون.
سأله عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية فلوريدا، الديمقراطي روبرت ويكسلر، في عام 2008: «لماذا لم تتخذ مزيداً من الخطوات الهامة لوقف تقنيات الاستجواب التي أخبرك عملاء الإف بي إي لديك بأنها غير قانونية؟»
كانت الإجابة واضحة من مولر. أعلنت وزارة العدل أن تكتيكات وكالة الاستخبارات المركزية قانونية، وليس من وظيفته الطعن على ذلك الاستنتاج.
أخبر مولر ويكسلر: «يجب أن يكون هناك أساس قانوني لدينا لنجري التحقيقات. وفي العموم تمنحنا وزارة العدل ذلك الأساس القانوني».
ذكَّر مولر زملاءه في الـ»إف بي آي» بأن القضايا الصعبة والمسائل الدستورية كان من الأفضل تركها لـ»العدالة».
وقال بيستول، نائبه السابق: «إن خبرته (حول اختصاصات) المدعي العام متأصلة للغاية. (فالسؤال الذي) كان يمثّل محركاً أساسياً له: ما هي السابقة القضائية؟».
لا يوجد سوى قليل من السوابق القضائية للقضية التي ينظرها مولر، غير أن السياسة القضائية لدى وزارة العدل تقول إن الرؤساء الحاليين لا يمكن اتهامهم. يمكن للكونغرس، من خلال سلطة العزل التي لديه، محاكمة رئيس، ولكن لا يمكن لوزارة العدل أن تفعل ذلك.
لذا عندما أعلن رودولف جولياني، محامي ترمب، أنه حصل على تطمينات بأن مولر كان سيلتزم بتلك السياسة، فقد شكّل ذلك أمراً حقيقياً لهؤلاء الذين عرفوا مولر أعواماً.
تقول أغيداس: «إذا كان لدى وزارة العدل رأي قانوني يقول لا يجب عليك اتهام الرئيس، فسيشعر بأن عليه الامتثال؛ لأن تلك هي وظيفته. إنه ليس الشخص الذي سيقول: لا أكترث بذلك الرأي القانوني».
أضاف بيستول: «إنه لا يبحث عن الدفع بنظرية قانونية جديدة».
ولعل ذلك هو السبب في أن مولر سمح باستمرار المفاوضات أكثر من 8 أشهر حول ما إذا كان ترمب سيجلس لإجراء مقابلة معه؛ إذ إن إخضاع المسألة عبر استدعاء من المحكمة يمكن أن يختبر حدود السلطة التنفيذية، ومولر ليس من النوع الذي يتخذ هذه الخطوات بلا مبالاة.
قال كيشنر، الذي عمل من قبلُ مع مولر مدّعياً عاماً في جرائم القتل: «إن بوب عنيف بحق، ولكنه لن يدفع بالأشياء التي ستلوي ذراع القانون، أو يختبر الإجراءات بطرق جديدة. إنه يريد للجمهور أن يعتقد أنه أعطى الرئيس كل فرصة كي يسمع ما لديه».
وتذكرت القاضية بتيل خلافاً مع مولر خلال عهده في سان فرانسيسكو. انتقدت القاضية سياسة لوزارة العدل تحمي المدعين الفيدراليين من مراقبة الموظفين المعنيّين بتطبيق القواعد الأخلاقية، وظنت أنه شعر بالشيء نفسه. لكنه رفض تغيير موقفه، ولو حتى بصورة خاصة؛ إذ تضيف: «إنها مؤسسة، وأنت تتبعين القواعد».
اخرُج
لم يُجر مولر أي مقابلات أو مؤتمرات صحافية خلال الوقت الذي قضاه مستشاراً خاصاً. وحتى عندما كشف المدعون العامون، بأدق التفاصيل، الجهود الروسية للتأثير على انتخابات 2016، ترك مولر مهمة الحديث إلى نائب المدعي العام، رود روزنشتاين.
يندر سماع صوته، لدرجة أن روبرت دي نيرو وكيت مكينون عندما قلدا شخصيته في برنامج Saturday Night Live، لم يحاول أي منهما أن يقلد صوته. ولشخص قضى أكثر من عقد في بعض أهم وظائف واشنطن، يُرى مولر بالغالب في فيديوهات أرشيفية قصيرة أو صور قديمة.
ويملك مولر العديد من الخيارات لإنهاء تحقيقاته، غير أن جولياني، محامي الرئيس، قال إن مولر يعتزم إصدار تقرير عن النتائج التي توصل إليها، على الرغم من أن مكتب المستشار الخاص لم يؤكد إطلاقاً هذا المسار؛ إذ إن تقريراً كهذا -ولا سيما كونه تقريراً مطولاً وضاراً مثل التقرير الذي أصدره المستشار الخاص كين ستار حول الرئيس كلينتون- يمكن أن يثير احتمالية تنظيم مشهدٍ دراميٍ في الكونغرس يكون الرئيس طرفاً فيه.
بيد أنه بموجب قانون المستشار المستقل الذي سمح بمثل هذا التقرير المفصل في قضية كلينتون المنتهية، وبموجب استبدال لوائح وزارة العدل، يُطلب من مولر فقط إرسال ملخص قصير وسري حول تحقيقاته إلى روزنشتاين.
تُناسب مولر خاتمةٌ أقل إثارة. إنه يفضل أن يترك الوثائق تتحدث؛ إذ يقول زملاؤه إنه نظراً إلى أنه مدّعٍ عام ومدير سابق لمكتب التحقيقات الفيدرالية، فاعتاد أن يستأصل الغلو والتباهي من تعليقاته العامة المُعدّة مسبقاً.
ويشير التاريخ إلى أن مولر سوف يفعل كل ما بوسعه لتجنب الإعصار السياسي الذي سيعقب التحقيقات حتماً.
جاءت واحدة من اللحظات التي تُعرّف عهده بمكتب التحقيقات الفيدرالية في عام 2004، عندما أسرع مولر ونائب المدعي العام آنذاك، جيمس كومي، إلى غرفة المستشفى الذي يمكث فيه المدعي العام المريض، جون أشكروفت. فقد كانا هناك ليعترضا طريق مسؤولي البيت الأبيض، الذين أرادوا من أشكروفت الموافقة على برنامج مراقبة من دون إذن قضائي، قالت عنه وزارة العدل إنه ليس دستورياً.
هدد مولر وكومي بالاستقالة بسبب هذه المسألة، وأقر البيت الأبيض بالهزيمة. قال مستشاروه السابقون إن ذلك كان أقصى ما يقلق مولر. دُفنت هذه المسألة حتى بحث الصحافيون عنها بعد سنوات، وقدّم كومي شهادة درامية أمام الكونغرس.
عندما جاء دور مولر لتقديم شهادته أمام الكونغرس، كان الأمر شاقاً على الديمقراطيين حتى للحصول على أقل التأكيدات من مولر. فقد قال بكل صراحة: «أنا لا أختلف مع ما قاله كومي». كان لدى مولر قصة سياسية قوية، لكنه بذل أقصى مجهوده لتجنب إشعال المواجهة.
قال عضو مجلس النواب الأميركي عن ولاية تينيسي، الديمقراطي ستيف كوهين: «أخبِرنا فقط بملخص ما تذكره من المحادثة».
أجاب مولر: «أجل، كان هناك محادثة».
فضغط كوهين عليه من أجل الحديث: «فما كان ملخصها أيها السيد؟».
فقال مولر دون أن يغير موقفه: «أظن أنها تناولت بشكل عام، ما حدث في اللحظات السابقة».
«وما الذي حدث في اللحظات السابقة؟».
«حسناً، مرة أخرى، إنني أعارض الدخول في محادثات».
مولر متناقض مع كومي
لم تكشف تلك اللحظات عن رفض مولر الانجذاب إلى المواجهات السياسية وحسب؛ بل كشفت أيضاً عن التناقض مع كومي، الذي خَلَفَه في منصبه بمكتب التحقيقات الفيدرالي. على الرغم من أن الرجلين يتبادلان الاحترام المشترك، يقول الأصدقاء إنهما لم يكونا قَط قريبين على الصعيد الشخصي، على الرغم من جهود ترمب ليجعلهما يبدوان كذلك. فمن بين الاختلافات الكبيرة بينهما، كان كومي متساهلاً مع دائرة الأضواء واتخذ قرارات مثيرة للجدل باسم الشفافية خلال التحقيقات مع هيلاري كلينتون.
فضَّل مولر دائماً أن يترك الحديث للآخرين. يقول زملاؤه السابقون إنه إذا كشف عن دليل، ضمن مهمته في منصب المستشار الخاص، على أن ترمب ارتكب جريمة، فسوف يُخضِع ترمب للمساءلة. ولكن إذا لم يكن الدليل واضحاً، حسبما يقول زملاؤه، فلن يشعر بأنه مضطر إلى سرد قصة لأن الرئيس طرفٌ فيها.
قالت هاج، المدّعية العامة السابقة: «كان لدينا قضايا رفيعة المستوى رفضنا ملاحقتها قضائياً؛ لأن الدليل لم يدعمها». لم تعطِ هاج أمثلة على قولها، وأضافت: «كان هناك فوائد للمكتب من وراء إبراز القضية. لكنه لم يكترث لذلك بذرّة».
قال بيستول وآخرون إنهم ليس لديهم أدنى شك في أن مولر منزعج من تغريدات ترمب التي تتهم مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل -وهما الهيئتان اللتان كرّس حياته لهما- بأنهما جزء من «دولة عميقة» تعمل ضد رئاسته.
قالت هاج فيما يتعلق بتصريحات الرئيس عن مولر وفريقه شخصياً: «لن أُفاجأ إذا لم يكن على دراية بطريقةٍ ما، بكل هذا. ولن أُفاجأ إذا كانت دخلت من أُذُنٍ وخرجت من الأخرى».
حسبما هو متوقع، أظهر مولر أنه مهتم بالتحقيق في تغريدات ترمب عندما يمكن أن تشكل دليلاً على ارتكاب جريمة ما. وأما أي شيء آخر، فهو مجرد جلبة في خلفية الأحداث.
قالت أغيداس: «سوف يكتشف ما يمكن اكتشافه، وسوف يقوله بكل استقامة وحيادية ممكنة. ثم سيمضي بعيداً؛ لأنه أتم عمله. فلن يذهب إلى أي برامج حوارية، ولن يكتب كتاباً».