ماذا تعرف عن سجن ألكاتراز أو «الصخرة»؟
تتجه العبّارة إلى جزيرة صغيرة تبعد ما يقرب من كيلومترين عن شاطئ مدينة سان فرانسيسكو في كاليفورنيا. على متنها سياح فضوليون لاكتشاف وجهة تختلف عن وجهات السياح العاديين، إلى سجن ألكاتراز ، أحد أشهر السجون السابقة في العالم.
فارغاً وساكناً يبدو السجن الذي يبث الرعب مجرد النطق باسمه، غرفه قديمة وضيقة، ومراحيضه مكشوفة، وتحلق فوقه طيور البجع، لكن خلف أسواره القديمة كان يعيش أخطر المجرمين في أميركا.
حولهم محيط وحراس معهم أوامر بإطلاق النار عند أي محاولات عصيان أو هروب.
اكتسب شهرته الفائقة من تاريخ طويل مليء بأسماء أخطر المجرمين ورجال العصابات، وأساطير محاولات الهروب.
وحتى في عالم الترفيه، ارتبط نجوم سينما وتلفزيون بأدوار في أفلام ومسلسلات مثيرة وشهيرة تمحورت جميعها حول السجن الأسطوري، الذي مّر بمراحل عديدة بداية من منتصف القرن التاسع عشر، وحتى نهاية تاريخه الحافل في مطلع ستينيات القرن العشرين.
من جزيرة بجع اكتشفها إسباني إلى سجن مبني بأيدي نزلائه
عندما وصل المستكشف الإسباني «خوان مانويل دي أيالا» عام 1775 إلى الخليج الغربي الأميركي، الذي يُعرف اليوم بخليج «سان فرانسيسكو»، كان أول ما صادفه جزيرة صغيرة لا تتعدى مساحتها 19 هكتاراً (47 فداناً تقريباً)، لا يسكنها سوى طيور البجع، سماها Isla de los Alcatraces، الذي يعني حرفياً «جزيرة البجع». ومنذ ذلك اليوم، اشتقت الجزيرة اسمها من كلمة البجعة بالإسبانية «ألكاتراز».
سيطر الجيش الأميركي على الجزيرة بعد انتهاء حرب استقلال الولايات المتحدة عن الجذور الأوروبية، وبنى حصناً حربياً لحماية مدينة سان فرانسيسكو، لكن لم يكن ذا أهمية كبرى ولم يُستخدم تقريباً.
وفي عام 1868، تحوَّل الحصن إلى سجن حربي ظل قابعاً قيد الاستخدام العسكري حتى عام 1909. ثم هُدم وأقيم مكانه سجن أكثر حصانة وأشد متانة سُمي «الصخرة» أو The Rock، وبُني بالكامل بواسطة النزلاء من السجناء الحربيين.
بعد الأزمة الأميركية وصعود الجريمة احتاج الأميركيون إلى «صخرة»
في مطلع الثلاثينيات، كانت أميركا تعاني الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الكساد العظيم من ناحية، ومن ارتفاع معدلات الجريمة من ناحية أخرى.
وقتها احتاجت الأجهزة الأمنية، وعلى رأسها مكتب التحقيقات الفيدرالي، قبضة أشد إحكاماً في تعاملاتها مع معدلات الجريمة الصاعدة.
وهنا كان دور رجل الأمن الأول في الولايات المتحدة، وواحد من أكثر الشخصيات المفضلة لدى صناع القرار في تاريخ أميركا الحديث: «جي إدغار هوفر» رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي وأحد مؤسِّسيه.
طلب منحة من حكومة الولايات المتحدة لضم سجن «الصخرة» أو سجن «ألكاتراز» كما اشتُهر، إلى السجون المدنية عام 1933؛ لاستخدامه في ردع أقطاب الجريمة الذين تصدّروا قوائم أكثر المطلوبين؛ نظراً إلى استحالة الهروب منه.
فبنوا سجناً مدعماً، حتى الحراس سكنوا بجانبه
بالإضافة إلى تصميمه الحصين المدعم بالأسمنت السميك وقضبان الصُلب، شكَّل موقع سجن ألكاتراز على سطح جزيرة تحيط بها مياه الخليج العميقة من كل جانب، إحدى كبرى العوائق؛ ما يعني أن الهروب منه قد يحتاج إلى وسيلة من ثلاث: إما طائرة وإما قارب وإما سباحة شاقة، وهو ما يسهل رصده ومراقبته من جانب الحراس على الأبراج التي تنتشر على الأسوار، والجزيرة نفسها بكل سهولة.
قضبان الزنازين صممها في الأصل مهندسون عسكريون بطريقة تختلف عن قضبان السجون العادية الأسطوانية. استخدموا بدلاً منها قضباناً مسطحة عريضة وسميكة ذات شكل مستطيل، الأمر الذي يأخذ وقتاً أطول من سجين لنشر القضيب أو قَصّه، وبعدما تسلَّمت إدارة السجون المدنية السجن دعموا القضبان بنوع من الحديد الصلب المقاوم للبَرْد أو النشر، وهو ما زاد صعوبة التفكير في محاولات الهروب باستخدام الأدوات المصنوعة داخل السجون، أو حتى لو حصل المساجين على أدوات معدنية لائقة، فسوف تظل القضبان منيعة.
أما الحراسة البشرية، فكان يقوم عليها ما يقرب من 150 حارساً وشرطياً لا يفارقون الجزيرة أبداً؛ بل بَنَت السلطات الأميركية منازل للعاملين في السجن على الجزيرة نفسها.
كانت السلطات تختار الأفراد الأكثر حزماً من بين قوات الشرطة، ومنعت أي وسائل تواصل بين السجناء والعالم الخارجي، ومن ضمنها الصحف وأجهزة الراديو، أي إن الدخول إلى ألكاتراز كان يُشكّل مدة عقابية مشددة أكثر منها إصلاحية، كما هو الحال في السجون العادية.
أخطر المجرمين قبعوا خلف أسوار «الصخرة»
شهدت أسوار سجن ألكاتراز نزول العديد من المساجين الخطرين ومشاهير عالم الجريمة الذين قضوا فترات عقوباتهم داخل السجن، من بينهم «آل كابون» زعيم المافيا الشهير الذي اتُّهم في عدة جرائم كبرى وخطيرة، ووصلت ثروته عند القبض عليه عام 1932 إلى 26 مليون دولار أميركي.
نُقل «كابون» إلى سجن ألكاتراز عام 1934 بمثابة إجراء عقابي له؛ نظراً إلى براعته الشديدة في التلاعب بقوانين السجون؛ بهدف تيسير الحياة بالداخل بداية من إغواء الحراس ومحاولات رشوتهم، إلى الثغرات القانونية التي اعتاد محاميه أن يستغلها لصالحه. بقي هناك 4 سنوات، ثم نُقل إلى أحد السجون في ولاية كاليفورنيا عام 1938، حيث قضى عاماً واحداً ثم أُطلق سراحه.
ومن بين عتاة الإجرام الذين نزلوا سجناء في ألكاتراز أيضاً، «جورج كيلي» الملقب بـ«المدفع الرشاش»؛ نظراً إلى كونه سلاحه المفضل في أثناء ارتكاب جرائمه.
وفي مواجهته مع رجال الأمن، اتُّهم بقائمة طويلة من الجرائم بدأها في نهاية العشرينيات، لكن أكثر جرائمه شهرة اختطاف رجل الأعمال وصاحب إمبراطورية البترول الأميركي الشهير «تشارلز أورشير» وطلب مبلغ 200 ألف دولار فدية لقاء حياته.
انتهت مغامرته بوقوعه في قبضة مكتب التحقيقات الفيدرالي. وبعد القبض عليه عام 1933 وسجنه في أحد سجون ولاية «كانساس»، نُقل إلى ألكاتراز برفقة مجموعة من أفراد عصابته عام 1934، وقضى ما يقرب من 17 عاماً بين أسوار السجن المنيع، حتى عام 1951 عندما نُقل إلى سجنه الأصلي في ولاية «كانساس» وتوفي بعدها بعام واحد فقط.
ورجل الطيور طاعن حراس السجن حلَّ ضيفاً 17 عاماً
ومن أشهر المجرمين الذين مروا في تاريخ أميركا، القاتل المختل نفسياً «روبرت ستراود»، الذي اشتُهر بـ»رجل الطيور-Birdman».
أُدين بجريمة قتل بعدما ذبح أحد أعدائه وسُجن في ولاية «كانساس» عام 1911، وهناك طعن حارس السجن حتى الموت.
وكان «ستراود» مهووساً بالطيور وطبائعها وتربيتها، وحتى علاجها؛ وألَّف كتابين داخل السجن عنها، وسُمح له بأن يربيها في أثناء سجنه بولاية «كانساس» مدة 30 عاماً.
لكن عندما فتشت سلطات السجن الزنزانة عثرت على أدوات مصنَّعة داخل السجن بهدف تصنيع الخمور أو استخدامها كأسلحة، ومن ثم نُقل إلى ألكاتراز عام 1942 كنوع من تغليظ العقوبة عليه، حيث قضى 17 عاماً فيه.
ولكن محاولات الهروب لم تتوقف
برغم شدة حصانة سجن ألكاتراز وكونه كابوساً عقابياً لأغلب المساجين، فإنه لم يخلُ تماماً من محاولات الهروب منه. فعلى مدار تاريخ عمله ثلاث عقود تقريباً منذ 1934 إلى 1963، حدثت 14 محاولة للهروب.
36 سجيناً حاولوا الهروب من ألكاتراز، من بينهم سجينان حاولا الهروب مرتين، و23 سجيناً قُبض عليهم، و9 سجناء أُطلِق عليهم الرصاص وقُتلوا، واثنان غرقا في مياه الخليج.
لكن من بين تلك المحاولات، كانت الحادثة المسماة «معركة ألكاتراز»، في مايو/أيار عام 1946، هي الأبرز والأكثر عنفاً.
عندها تمكن 6 مساجين من مباغتة مجموعة الحراس المشرفين على الزنازين، في أثناء خروجهم لفترة التريض اليومية، وسيطروا على خزانات الأسلحة التي يستخدمها الحراس وممرات الزنازين، لكنهم لم يتمكنوا من فتح البوابة التي تفضي إلى فناء السجن، فقرروا أخذ مجموعة من الضباط والحرس كرهائن للمساومة على أرواحهم مقابل إطلاق سراحهم.
وعندما انتبهت قوة السجن، اندلع تبادل إطلاق نار عنيف بين الطرفين استمر يومين، أفضى إلى مصرع 4 منهم، في مقابل مقتل ضابطين وإصابة 18 ضابطاً آخرين. أما السجينان الباقيان فقبض عليهما ُأًعدما بعد محاكمة قصيرة.
والهروب الكبير.. المحاولة التي شهرتها هوليوود
لم تلقَ المعركة السابقة حظها من الشهرة مثلما حظيت محاولة أخرى، عُرفت إعلامياً -وفي أوساط هوليوود فيما بعد- بهروب ألكاتراز الكبير.
حدثت في صباح الحادي عشر من يونيو/حزيران عام 1962، عندما أجرى ضباط السجن التفتيش الروتيني اليومي ليفاجأوا باختفاء 3 مساجين أشقاء من زنازينهم، دون العثور لهم على أي أثر كما لو كانوا تبخروا من داخل الزنازين بعدما عُثر على دُمي هيكلية في أسرَّتهم للتمويه.
وفُتح تحقيق موسع بإشراف أكثر من جهة حكومية، تبين من خلاله أن الأشقاء الثلاثة، قاموا بعملية معقدة استمرت فترة طويلة صنعوا خلالها الدمى الهيكلية لتمويه الحراس، وحفروا أنفاقاً في جدران زنازينهم بطول المبنى باستخدام آلات حادة مُصنَّعة داخل السجن، الذي من المفترض أن ينتهي بدعامات حديدية ضخمة، لكنهم تسلقوا إلى أعلى مواسير المياه، وتسللوا عبر ممرات التهوية الضيقة حتى هربوا إلى خارج أسوار السجن، وهنا استخدموا سترات نجاة وطوقاً صغيراً صنعوه من أقمشة معاطف السجن، ومن ثم فروا إلى المياه.
عُثر بعد أسبوعين على جثة تشوهت ملامحها ترتدي ملابس السجن الزرقاء كانت لأحد الأشقاء، لكن لم تتمكن السلطات من تشريحها بعدما تشوهت بشدة. وبعد انتهاء التحقيقات حُفظت القضية دون العثور على الشقيقين الباقيَين أو حتى جثتيهما، وهو الأمر الذي دفع الجميع وقتها إلى تسمية تلك الحادثة بالهروب الوحيد «الناجح» في تاريخ ألكاتراز؛ إذ لم تؤكَد إلى اليوم هوية الجثة المعثور عليها، أو القبض على الشقيقين الآخرين، وهو ما ظل بمثابة لغز غامض حتى يومنا هذا.
ألهم صناع السينما والدراما بغموضه وأسراره
الحادثة الشهيرة هي ما بُنيت عليه قصة فيلم «Escape from Alcatraz»، الذي قام ببطولته نجم هوليوود الشهير والمخرج حالياً «كلينت إيستوود» عام 1979. ولقي الفيلم شهرة كبيرة، لكنه لم يكن الفيلم الأول الذي ألهم خيال صناع السينما في هوليوود، فقد سبقه فيلم هام هو Birdman of Alcatraz، الذي تمحورت أحداثه حول نزيل ألكاتراز الشهير «روبرت ستراود».
اتخذت هوليوود من سيرة السجن الشهيرة مادة خصبة لأكثر من عمل فني حول فكرة «السجون الحصينة»، بخلاف مسلسل تلفزيوني سُمي على اسم السجن نفسهAlcatraz وفيلم The Rock لشون كونري.
ثم أغلقته الدولة بسبب تكاليفه العالية وحوَّلته إلى مزار تاريخي
أُغلق سجن «ألكاتراز» رسمياً عام 1963 بقرار رسمي من المحامي العام، وبموافقة الرئيس «جون ف كينيدي»؛ نظراً إلى ارتفاع ميزانية السجن وارتفاع تكاليف نقل التزويدات إليه من الطعام والشراب.
وفي عام 1969، اتخذت مجموعة من سكان أميركا الأصليين الجزيرة مسكناً بوضع اليد وادعوا ملكيتهم إياها، ولكن تم إجلاؤهم عنها عام 1971، وانتقلت الجزيرة إلى سلطة الحدائق والمحميات وفُتحت للجماهير كمزار سياحي في أكتوبر عام 1973.