مؤشرات متناقضة للدور الأمريكي في سوريا بعد قمة هلسنكي
تشير تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الروسي فيلاديمير بوتين بعد انتهاء قمة هلسنكي في 16 يوليو 2018، بشأن التعاون العسكري مع روسيا، إلى أن واشنطن ستبقى في الساحة السورية عسكريًا، على عكس رغبة ترامب الذي قال، في إبريل 2018، أنه يريد سحب قواته من سوريا، وهو ما قوبل بمعارضة وانتقادات شديدة من جانب الأوساط العسكرية والسياسية في واشنطن، على اعتبار أن سحب القوات الأمريكية سيهيئ المجال أمام إيران للتوسع في سوريا. ومن هنا، يمكن القول إن ترمب استجاب لـ”نصائح” مستشار الأمن القومي جون بولتون والمسئولين العسكريين في هذا الصدد، والتي تستند إلى تقديرات عديدة ترى أن القوة الأمريكية في سوريا، وقوامها الحالي 2200 عسكري، محدودة لكن بقاءها مهم.
وتتعارض هذه المؤشرات مع التسريبات التي راجت في مايو 2018، فيما عرف بـ”صفقة” السفير الأمريكي ديفيد سترفيلد، والتي كانت تقضي بمقايضة إنهاء الوجود الإيراني في سوريا مقابل تفكيك قاعدة “التنف” في جنوبها، وفقًا لمطالب روسية مكررة، في إطار محاولات موسكو إعادة صياغة ترتيبات أمن الحدود السورية مع دول الجوار، حيث تهيمن القاعدة على مثلث الحدود العراقية- الأردنية- الإسرائيلية.
ويبدو أن التعاون العسكري الذي أشارات إليه تفصيلاً تقارير وتقديرات بعض مراكز التفكير الأمريكية، بالتوازي مع انعقاد قمة هلسنكي، يرتكز بشكل رئيسي على الأهمية الاستراتيجية لقاعدة “التنف” التي أنشئت في إطار التحالف الدولي للحرب على “داعش”، وذلك على عكس تصريحات بعض المسئولين الروس التي أدلوا بها خلال الفترة الماضية، وأشارت إلى تراجع ثقلها الاستراتيجي بعد هزيمة “داعش” عسكريًا ووقف الدعم العسكري الأمريكي للمعارضة السورية، بشكل جعلها مكشوفة بلا إسناد لوجيستي أمام النظام وحلفائه الروس، وهو ما سمح باستغلال هذا الوضع ميدانيًا لتصفية المعقل المركزي للمعارضة في الجنوب.
آليات عديدة:
تتمثل أهم الآليات التي يمكن أن تستند إليها واشنطن في مواصلة دورها العسكري داخل سوريا خلال المرحلة القادمة في:
1- توسيع دور البنتاجون: وذلك عبر مواصلة شن ضربات عسكرية دورية ضد مجموعات تابعة لتنظيم “داعش” على الحدود الجنوبية، إلى جانب إجراء مزيد من المباحثات مع المسئولين العسكريين الروس، على غرار المباحثات التي عقدت بين رئيس الأركان الروسي الجنرال فاليري غراسيموف ونظيرة الأمريكي الجنرال جوزيف دانفورد قبيل قمة هلسنكى بأسابيع، وتحديدًا في 8 يونيو 2018، والتي صدر عنها بيان كشف أن الجانبين ناقشا الملف السوري ضمن الملفات الأمنية والعلاقات العسكرية المشتركة، وكان ذلك اللقاء هو الثالث خلال العامين الماضيين. وقد كان لافتًا في هذا السياق أن الرئيس ترامب ركز خلال المؤتمر الصحفي في هلسنكي على الإشادة بـ”دور العسكريين من الجانبين في إدارة الصراع السوري”.
2- الإبقاء على قاعدة “التنف”: بعد رفض فكرة تفكيكها مقابل إنهاء الوجود الإيراني في سوريا. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن جون بولتون والمسئولين العسكريين قادوا جبهة الرفض، مستندين في هذا السياق إلى أنه لا توجد أية ضمانات يمكن الاعتماد عليها في تقييم مدى قدرة روسيا على العمل من أجل إنهاء الوجود الإيراني في سوريا. ومن هنا، يرجح أن تتركز مهمة قاعدة “التنف” على دورها الأساسي في مواجهة تزايد الوجود الإيراني في سوريا وقطع الطريق على الجسر البري من إيران إلى البحر المتوسط.
3- تعزيز الدور الإسرائيلي: سعت إسرائيل إلى استغلال انعقاد قمة هلسنكي من أجل تعزيز قدرتها على المشاركة في صياغة الترتيبات الأمنية خلال المرحلة القادمة، لا سيما فيما يتعلق بالعمل على إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، حيث حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على زيارة روسيا مجددًا قبيل انعقاد القمة، كما أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في هلسنكي على أولوية ضمان الأمن القومي الإسرائيلي.وتوازى ذلك مع حرص إسرائيل على مواصلة شن هجمات جوية ضد أهداف داخل سوريا، كان آخرها غارة نفذتها قبل شهر واستهدفت مجموعة من “كتائب حزب الله العراق” كانت تقوم بنقل أسلحة بين العراق وسوريا عند بلدة الهرى التابعة للبوكمال الحدودية، في رسالة مفادها أن إسرائيل سوف توسع جبهة المواجهة مع إيران بما يمتد إلى ما هو أبعد من الحدود مع سوريا.
وتعنى هذه العملية تحديدًا أن هناك تنسيقًا بين قاعدة ” التنف” والجيش الإسرائيلي لا يمكن فصله عن ترتيبات أمن الحدود السورية- الإسرائيلية، التي اقتضت تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن مواصلة دعم المعارضة السورية في درعا لصالح إفساح الطريق أمام العودة لترتيبات فك الاشتباك الإسرائيلية – السورية وفقًا لاتفاق عام 1974.
تسوية مؤجلة:
لا يبدو من تصريحات الرئيس ترامب أن واشنطن طرحت رؤيتها الخاصة بالتسوية في سوريا، وهو ما تعكسه هيمنة الجانب العسكري على مباحثات هلسنكي. وهنا، فإن اتجاهات عديدة تركز على أن واشنطن ليس أمامها متسعًا من الوقت أو خيارات متعددة في هذا السياق، خاصة في ظل المعطيات التي يفرضها الدور الذي تقوم به روسيا على الأرض، على المستويين السياسي والعسكري، بشكل سوف يضطرها من جديد إلى العمل على استعادة التنسيق مع تركيا. لكن ذلك يصطدم بعقبة استمرار التنسيق بين الأخيرة وروسيا، بالتوازي مع التوتر المتصاعد بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية حول صفقة “إس 400” التي تسعى إلى إبرامها مع موسكو.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إنه وفقًا لنتائج قمة هلسنكي، يبدو أن ثمة اتجاهًا داخل الإدارة الأمريكية يقاوم رغبة الرئيس ترمب في الانسحاب من سوريا، لمنع تكرار إشكالية قيام إيران بسد الفراغ الناتج عن ذلك، بما ينعكس بالتبعية على مصالح واشنطن وحلفائها في المنطقة وفي مقدمتهم إسرائيل. لكن هذا المسار العسكري لا يتوازى مع مسار سياسي يعزز هذه الرؤية، على نحو سوف يفرض نوعًا من الارتباك في تعامل واشنطن مع التطورات السياسية والميدانية التي تشهدها سوريا خلال المرحلة القادمة.