مؤتمر البحرين.. ابتزاز أمريكي – إسرائيلي للفلسطينيين
قالت إدارة الرئيس ترامب إنَّها ستطرح العنصر الاقتصادي من «صفقة القرن» في أواخر يونيو. ومثَّل هذا التصريح تراجعاً عن تعهُّدٍ سابق بطرح الخطة كاملةً بعد شهر رمضان المبارك وما يُعرف بعيد الأسابيع اليهودي، اللذين سينتهيان يومي 5 و10 يونيو المقبل على التوالي. الأكثر من ذلك أنَّ طرح العنصر السياسي من الصفقة –في حال كان هناك عنصر سياسي بالأساس- تأجَّل مجدداً حتى تاريخٍ غير محدد في وقتٍ لاحق من هذا العام.
يقول ميتشيل بليتنيك، نائب رئيس مؤسسة السلام في الشرق الأوسط والمدير السابق لمكتب منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية في الولايات المتحدة، بمقالة نشرها بموقع Lobe Log الأمريكي: يشير الكشف عن خطةٍ اقتصادية إلى إمكانية وجود خطةٍ سياسية ما، في حين يؤدي هذا التأجيل وعدم اليقين المستمرين إلى تعزيز فكرة أنَّه لا توجد خطة سياسية.
وفي أي الحالتين، يبدو أنَّ الجزء الاقتصادي من الصفقة حقيقيٌّ بما فيه الكفاية؛ إذ دعا الرجل الذي اختاره دونالد ترامب للإشراف على «صفقة القرن»، وهو صهره الأول جاريد كوشنر، إلى مؤتمرٍ في البحرين في أواخر يونيو المقبل، للكشف عن هذا الجزء الاقتصادي وإقناع الدول الخليجية الثرية بالمساهمة فيه.
هذه ليست المرة الأولى التي يجري الحديث فيها عن «سلامٍ اقتصادي» للفلسطينيين. إذ لم تُخفِ إدارة ترامب قناعتها أنَّ بإمكانها «شراء القبول الفلسطيني»، وهي وجهة نظر يشجعها بقوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يدعو منذ سنواتٍ عديدة إلى «سلامٍ اقتصادي» دون وضوح السياسي.
يضيف بليتنيك: وهذا على الأرجح عرضٌ حقيقي. إذ عمل كلٌّ من نتنياهو وكوشنر بجدٍ لصياغة خيارٍ ابتزازي للفلسطينيين: «إما مواجهة الخنق الاقتصادي المستمر الذي سرعان ما سيصل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في غزة، وستلحق بها قريباً معظم الضفة الغربية، أو القبول بوضعكم باعتباركم خاضعين للإسرائيليين وفقط وفق تلك الحقوق التي تمنحها إسرائيل لكم، إن منحتكم أي حقوق. لكنَّ وضعكم الاقتصادي سيتحسن».
من الواضح أنَّ هذا ليس عرضاً مغرياً للفلسطينيين. فعلى الصعيدين الجماعي والفردي، وفي وسائل الإعلام والمحادثات، يُعَد الرد الفلسطيني على هذا الخيار هو الرد الذي قد يُقدِّمه أي أحدٍ آخر غيرهم: وهو أنَّ حريتهم وحقوقهم ليست للبيع. بثَّ الشعب الفلسطيني بمختلف مستوياته، وليس فقط القيادة السياسية في الضفة الغربية وغزة، هذه الرسالة بصوتٍ عالٍ للغاية. إذاً لماذا تعتقد إدارة ترامب أنَّ هذا الوضع سيتغير الآن؟
أشرف الجعبري والأصدقاء الإسرائيليون
ربما يكمن جزءٌ من الإجابة على الأقل في شخص يدعى أشرف الجعبري، وهو رجل أعمال من الخليل. يعتقد الجعبري، الذي عَمِل في السابق بأجهزة الأمن الفلسطينية، أنَّ حل الدولتين فاشل، وشكَّل حزباً سياسياً جديداً يهدف إلى الفصل بين القضايا السياسية والاقتصادية، ويُعالِج القضايا الاقتصادية أولاً، تماماً مثل نتنياهو وكوشنر.
صرَّح الجعبري لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية قائلاً: «البعض يدرك أنَّ الوضع الاقتصادي بات أفضل بكثير بعد اتفاق أوسلو. دعونا نُركِّز الآن على المسار الاقتصادي. ويمكننا التعامل مع المسار السياسي لاحقاً. الشعب رهينة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية وحماس. الوضع سيئ للغاية، والشعب يريد الاستقرار الاقتصادي».
حُجَّةٌ كهذه يُتصوَّر أن تخرج من مقر الليكود. فهي تتجاهل الضرر العمد الذي أُلحِق بالاقتصاد الفلسطيني منذ أوسلو، والذي جاء معظمه رداً على الانتفاضة الأولى، التي اعتمدت بصورةٍ كبيرة على التظاهرات ووقف العمل في وقتٍ كانت تعتمد فيه إسرائيل على العمالة الفلسطينية غير المكلفة. وعملت إسرائيل على ضمان عدم استخدام هذه الأداة مجدداً من خلال جلب عمال أجانب من تايلاند والفلبين ومناطق أخرى، والحد من قدرة الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة على دخول إسرائيل، وهو الأمر الذي كان روتينياً في الأعوام العشرين الأولى من الاحتلال.
وجد الجعبري مُحاوِرين متحمسين. فوصفه سفير ترامب لدى إسرائيل ديفيد فريدمان بأنَّه «رجل يتحلى بالشجاعة وذو رؤية، وهو عمليّ لكنَّه ملتزم بالسلام والتعايش.. أنا فخور بأن أصفك بكونك صديقي». وغرَّد عضوٌ آخر في إدارة ترامب، وهو جيسون جرينبلات، بموافقته على حيلةٍ دعائية، شارك فيها مستوطنون في الخليل وجبة «إفطار كوشر» الأسبوع الماضي في خيمةٍ كبيرة أُقِيمَت أمام منزل الجعبري في تلك المدينة المنقسمة بشدة.
وفي رد فعلٍ رمزي على هذا، غرَّد عمر شاكر، مدير منظمة هيومن رايتس ووتش في إسرائيل وفلسطين، والذي تحاول إسرائيل في الوقت الراهن ترحيله، قائلاً: «ها هو جيسون جرينبلات يتباهى بالخليل وطرقها المُجدبَة التي لا يستطيع الفلسطينيون السير فيها، وأكثر من 100 نقطة تفتيش، وعنف المستوطنين الذي يُرهِب السكان المحليين، وقلب المدينة الخاص بـ200 ألف فلسطيني خاضعين للاحتلال وتحولت إلى مدينة أشباح يعيش فيها 800 مستوطن يتمتعون بكامل حقوقهم، باعتبارها نموذجاً للسلام. يا لها من مزحة!».
وأقام الجعبري كذلك شراكةً مع القيادي المستوطن آفي زيمرمان، وهو رائد أعمال ومتحدث باسم الحركة الاستيطانية في مختلف أنحاء العالم. وزيمرمان هو المدير التنفيذي لمؤسسة «الأصدقاء الأمريكيين لأرئيل» (أرئيل هي مستوطنة بالضفة الغربية). وقاد هو والجعبري تشكيل «مبادرة تمويل التنمية الإقليمية للضفة الغربية. والمهمة المعلنة للمبادرة هي تحقيق تكامل «التخطيط الاقتصادي وكذلك تعزيز روح ريادة الأعمال المشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون في المنطقة».
روابط مستهجنة
يقول الكاتب، تُذكِّرنا جهود الجعبري بـ «روابط القرى» التي أسستها إسرائيل في الأراضي المحتلة أواخر السبعينيات والثمانينيات. كانت الروابط محاولةً للسيطرة على السكان الفلسطينيين من خلال الارتقاء بالفلسطينيين –بصفة عامة الأشخاص ممَّن ليس لديهم اتباع سياسيين وبالتالي سيظلون معتمدين على إسرائيل للحفاظ على سلطتهم- إلى مواقع السيطرة على البلدات الفلسطينية. ووفقاً لهيكل الحوافز الخاص بهذا البرنامج، تمتع الفلسطينيون بحريةٍ أكبر، ليس لممارسة أي حقوق سياسية، بل لتنمية اقتصاداتهم المحلية.
فشلت الروابط فشلاً ذريعاً لأنَّ السكان المحليين الفلسطينيين كانوا غير راغبين في قبول سلطتهم. ويواجه حزب «الإصلاح والتنمية» الذي يتزعمه الجعبري مقاومةً مماثلة. إذ صرَّح مصدرٌ فلسطيني لموقع Al-Monitor الأمريكي قائلاً: «إنَّ تجربة الحزب الجديد محاكاةٌ لمشروع «روابط القرى» الإسرائيلي؛ فقادته يتعاونون مع المستوطنين، ويحظون بغطاءٍ من العائلات الفلسطينية الكبيرة، ويتركّز خطابهم على تحسين الظروف المعيشية. ورغم أنَّ قادة الحزب من متوسِّطي الحال اقتصادياً، لكنَّهم قد يحصلون على دعمٍ أمريكي – إسرائيلي، الأمر الذي يؤهِّل بعضهم لتولِّي مواقع وزارية وحكومية لاحقا».
وبالفعل، يتمتع الجعبري بدعمٍ أمريكي وإسرائيلي، ويمكن أن يحصل على المزيد. إذ سهَّلت منظمة تُدعى «رابطة التعليم الأمريكية الإسرائيلية» مشروع الجعبري مع زيمرمان. وتُعَد رابطة التعليم منظمةً مسيحية تُقدِّم إحاطات لأعضاء الكونغرس، وترعى جولاتٍ للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. ومع أنَّها صغيرة، نمت الرابطة كثيراً في السنوات القليلة الماضية، فزادت ميزانيتها بأكثر من 500% في الفترة بين تأسيسها عام 2014 حتى 2017، وهو آخر عام تتوفَّر فيه التسجيلات المالية للرابطة.
ويُعَد زيمرمان عضواً بمجلس إدارة الرابطة، وتذكر الرابطة أنَّ هدفها هو خدمة وتعليم «القيادات الحكومية المشاركة مباشرةً في دفع الحوار المهم بين الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصاً ذلك المتعلق بالتعقيدات الإقليمية المرتبطة بإسرائيل الحديثة والتوراتية». وتذكر أنَّها «تُقدِّر الإرث اليهودي – المسيحي، والأهمية التاريخية والروحية لإسرائيل»، وترغب في أن تُري أعضاء الكونغرس «يهودا والسامرة، ومدينة القدس المُوحَّدة، العاصمة الأبدية للشعب اليهودي».
تواطؤ مفضوح
يقول الكاتب، ليس من المستغرب أنَّ السلطة الفلسطينية وصفت الجعبري بأنَّه متواطئ. فقال عبدالله عبدالله، عضو المجلس الثوري لحركة فتح، عن الجعبري: «إنّ هذا الحزب لن ينجح، لأنّه يفتقر إلى قواعد تنظيميّة وشعبيّة، وتعتبر تجربته السياسيّة ميتة قبل أن تنشأ، والقيادة الفلسطينيّة لن تسمح له بتجاوز الرئيس عبّاس. كل محاولات إسرائيل لإيجاد بدائل عن القيادة الفلسطينيّة لم تنجح. واليوم، سيكون مصير هذا الحزب الفشل الذريع».
يردف الكاتب: عبدالله مُحِقٌ حين يقول إنَّ الجعبري يتمتع بدعمٍ ضعيف بين الفلسطينيين، وعلى الأرجح يُنظَر إليه باعتباره متواطئاً أو عميلاً من أسوأ نوع مع الاحتلال. ويُسيء كوشنر وجرينبلات وفريدمان بشدة تقدير احتمالية تمكُّن الجعبري من حشد الدعم.
أصرَّ الجعبري حتى الآن على أنَّه فقط يحاول إحراز تقدُّمٍ اقتصادي، ولا يحاول تجهيز نفسه لمعارضة القيادة الحالية. ويدَّعي أنَّه يعترف بفشل حل الدولتين، ولو أنَّه يقول إنَّ هذا الحل سيكون هو الأفضل، ويأمل بدلاً من ذلك في «تعزيز الحقوق الفلسطينية تحت السيادة الإسرائيلية».
فقال: «للأسف، هُوجِمنا من فتح مع أنَّهم لم يقرأوا برنامجنا. لسنا نُقدِّم أنفسنا كبديل عن منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية. ولسنا نُقدِّم أنفسنا حتى كمتفاوضين مع إسرائيل. إنَّنا أسسنا حزبنا لتحقيق أهداف الأغلبية الصامتة من الفلسطينيين، الذين يريدون الاستقرار الاقتصادي. ونحن مستمرون في النظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للفلسطينيين. كل ما نقوله هو أنَّ الاقتصاد هو الأولوية الأولى لنا».
سيُمثِّل المؤتمر القادم في البحرين اختباراً لحقيقة ادعاء الجعبري، ومقياساً لمدى تكامله مع فكرة «السلام الاقتصادي» لفريق ترامب. ويُرجَّح أن تقاطع السلطة الفلسطينية المؤتمر. وإذا رتَّبت الولايات المتحدة حضور الجعبري أو أي أحدٍ من حزبه الوليد، سيكون ذلك تحدياً مباشراً لحكم محمود عباس ومنظمة التحرير الفلسطينية بأكملها. وسيعني أيضاً أنَّ إدارة ترامب تعتقد أنَّ الجعبري بإمكانه الترويج لأفكاره، وهو ما سيُمثِّل رهاناً سيئاً من جانبها، ولو أنَّه من الواضح أنَّ ذلك لن يكون أول رهان سيئ تقوم به الإدارة.
ومن المرجح إعلان رفضٍ فلسطيني رسمي للخطة الاقتصادية، وهو سيناريو استعد له بالفعل اليمين الموالي لحزب الليكود. إذ نشر معهد جيتستون الأسبوع الماضي «تحليلاً» عن سبب «معارضة الفلسطينيين للرخاء الاقتصادي»، على حد وصف التحليل. ونَظَرَ التحليل إلى رفض القيادة الفلسطينية التفكير في خطط الجعبري على أنَّه حملة تشويه، و «دليل» على أنَّ «الفلسطينيين مهتمون بكراهية إسرائيل أكثر من تحقيق الرخاء الاقتصادي».
وكتب بسام الطويل، باحث معهد جيتستون المزعوم الذي أعدَّ هذا التقرير، والذي تخلو سيرته الذاتية من أي مؤهلاتٍ أخرى بخلاف كونه عربياً يعيش في الشرق الأوسط، أنَّه «بعيداً عن أي (صفقة قرن)، أبرم القادة الفلسطينيون قبل وقتٍ طويل صفقةً قذرة خاصة بهم: الاستثمار في كراهية إسرائيل بدلاً من شعبهم».
بالنسبة لليمين الموالي لحزب الليكود، يُعَد البديل الوحيد للفلسطينيين هو قبول مسار الجعبري، الذي يحيد عن أي أمل في تحديد المصير، ويُسلِّم بمستقبل دائم من الفصل العنصري في مقابل ظروف اقتصادية أفضل إلى حدٍّ ما. وهذه الحيلة المبتذلة محكوم عليها بالفشل.