لماذا يفضل التونسيون رئيسهم بعيداً عن النظام الحالي والمنظومة الحزبية؟
أين سيدفن رئيس تونس السابق زين العابدين بن علي؟ هذا هو السؤال الذي أشغل الشبكات الاجتماعية بتونس في نهاية الأسبوع الماضي بعد إعلان الحكومة بأنها ستسمح بدفنه في وطنه. أثناء موته كان بن علي في مدينة جدة في السعودية التي هرب إليها في أعقاب ثورة الربيع العربي. وحسب رأي عدد كبير من الجمهور، فإن الأمر يتعلق بقرار سيئ يمكن أن يفسر كعفو عن جرائمه، وفقاً لصحيفة “هآرتس” العبرةي.
ابن علي (83 سنة عند موته)، كان يرمز إلى الانتصار الكبير لحركات الاحتجاج. تونس، مقارنة مع مصر وليبيا والدول الأخرى التي أصابتها الهزة في 2011، نجحت في تأسيس نظام ديمقراطي ليبرالي، يعتبر نموذجاً لقدرة الجمهور على تقرير صورة نظامه، ويختار بنفسه الرئيس والبرلمان، ويقوض المقاربة التي تقول إن الديمقراطية والعالم العربي – الإسلامي لا يمكنهما العيش تحت سقف واحد. ولكن تونس التي نجحت في أن تصيب شعوب دول عربية أخرى بالعدوى بمرض التطلع إلى التحرر من الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، بقيت تقريباً وحيدة في نجاحها.
عند الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية في الأسبوع الماضي، التي أجريت في أعقاب وفاة الرئيس العجوز الباجي قايد السبسي، تبين أن الثورة في تونس، خلافاً لجاراتها، ضربت جذورها بالفعل. من بين الـ 26 مرشحاً الذين تنافسوا في الجولة الأولى، صعد اثنان إلى الجولة الثانية: قيس سعيد الذي حصل على 18.4 في المئة من الأصوات، ونبيل القروي الذي حصل على 15.5 في المئة. يتوقع أن تجري الجولة الثانية في بداية شهر تشرين الأول. قصة سعيد هي القصة الأهم من بين قصص المرشحين الآخرين. بدون مقر لحملة الانتخابات، وبدون رئيس للحملة، وبدون عشرات المتحدثين والمستشارين المأجورين، ومن خلال التنازل عن التمويل الحكومي، نجح أستاذ الحقوق ابن الـ 61 سنة في جر شباب الدولة إليه: المثقفين، والطلاب، وأبناء الطبقة الدنيا الذين بحثوا عن شخصية جديدة غير متماهية مع الأحزاب التقليدية. المعطى المفاجئ هو أن الـ 45 في المئة من إجمالي مؤيديه صوتوا للمرة الأولى في حياتهم، سواء بسبب عمرهم أو لأنهم يئسوا في الماضي من نتائج الانتخابات.
المواقف مختلفة فيما يتعلق بسر سحر سعيد. من جهة، يعتبر شخصاً طاهر اليدين، متواضعاً ويسوق سيارة قديمة. سعيد عرفه الجمهور أثناء الثورة. فقد ظهر مرات عدة كمحلل سياسي في قنوات التلفاز، وترسخ في وعي الجمهور كمؤيد متحمس لتغيير النظام. في المقابل، له مواقف محافظة:يعارضإلغاء عقوبة الإعدام، ويتفق مع عدم المساواة في توزيع الإرث بين الرجال والنساء، ويؤيد معاقبة المثليين. بسبب هذه المواقف هناك من يعتبرونه مؤيداًللإخوان المسلمين، وهي التهمة التي ينفيها. إذا حكمنا حسب المقالات التي نشرت في وسائل الإعلام التونسية، فإن طهارة يديه الشخصية والسياسية وحقيقة أنه غير مرتبط بأي حزب، هي التي رسخت نجاحه في الانتخابات. نجاحه كان كبيراً، حتى إن المرشح من قبل حزب النهضة الإسلامية، المنظم من بين الأحزاب، لم ينجح في الصعود إلى الجولة الثانية.
في الذاكرة الجماعية التونسية، الرشوة هي أم كل المشكلات في الدولة. الاستبداد المرعب الذي مارسه الرئيس المعزول مرتبط جداً بالفساد العميق الذي ميز حكمه. القصص عن سيطرة زوجته ليلى طرابلسي وشقيقها على أراض ومبان وبنوك ومشاريع بناء، يستمر نشرها في وسائل الإعلامالتونسي. تصرفت طرابلسي مثل ملكة، وعمل شقيقها كعضو في مجلس إدارة البنك المركزي في تونس مع زوجة وزير الخارجية، وكلاهما صادق على القروض الضخمة للمقربين. السيدة الأولى ووالدتها باعتا معلومات عن مشاريع يتم التخطيط لها للحكومة للمقاولين ورجال الأعمال، وفي عدد من الحالات كانوا شركاء في المشاريع نفسها. إن إبعاد “العائلة” عن الحكم لم يطهر تماماً مكرهة الفساد في الدولة.أما المرشح الثاني في الانتخابات الأخيرة للرئاسة فهو نبيل القروي، المعتقل بتهمة تبييض الأموال. وإذا تمت إدانته فلن يستطيع أن يشغل منصب الرئيس، إذا انتخب في الجولة الثانية.
رئيس الدولة يعتبر في القانون قائداً أعلى للجيش، وهو مؤسسة أخرى عرفت كجسم فاسد، إلى جانب المخابرات والشرطة. وإذا تم انتخاب سعيد فسيضطر إلى الملاءمة بين وعوده لتطهير وتجديد الأجهزة الحكومية وإحداث تغيير في الهيكل البيروقراطي وبين سور حصين من الموظفين والمديرين وضباط الجيش الذين اعتادوا على زيادة مداخيلهم بوسائل تحايل. صحيح أن للرئيس صلاحيات تنفيذية كبيرة، لكنه ملزم بالتشاور مع الحكومة ورئيسها، وهؤلاء يعتمدون على دعم أحزاب وأجهزة حزبيةتتغذى على ميزانيات الدولة. سعيد سيحتاج إلى دعم هذه الأحزاب في الجولة الثانية للانتخابات التي ستجري قريباً من موعد الانتخابات للبرلمان في 6 تشرين الأول. هذا الدعم السياسي سيكون له ثمن، الأمر الذي يمكن أن يجبر سعيد على التخفيف من حماسته في محاربة الفساد. السؤال في هذه الحالة هو ما هي نسبة الثمن السياسي والمالي الذي سيدفعه من كي يتمكن من تنفيذ إصلاحاته بدعم من الحكومة والبرلمان. فهو، خلافاً لنظيره المصري الذي يسيطر أيضاً على البرلمان وعلى الحكومة ويستطيع أن يشرع وينفذ كل ما يخطر بباله، فإن الرئيس التونسي يطرح نفسه كمندوب للدستور ينفذ ما فيه. قيم الثورة غالية في نظره.