لماذا يغض نتنياهو الطرف عن هجمات المستوطنين المتطرفين على الفلسطينيين؟
قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن الهجمات التي يشنها المستوطنون الإسرائيليون على الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة زادت وتيرتها بنسبة 50% خلال العام الماضي (2018)، وقد باتت تشكّل تهديداً كبيراً بإشعال الضفة الغربية، في الوقت الذي تغض فيه حكومة تل أبيب الطرف عنها.
آخر هذه الهجمات هي تلك التي شنتها عصابةٌ قوامها 12 رجلاً أو يزيد، من المستوطنين اليهود المسلحين، والتي هبطت من بؤرة استيطانية، على قرية فلسطينية وفتحت النار على من فيها. وبحسب شهود عيان، فإنّ الجنود الإسرائيليين عند وصولهم، اكتفوا بالوقوف متفرجين أو الاشتباك مع سكان القرية، بدلاً من أن يوقفوا جريمة المستوطنين.
وفي وسط المعمعة، أصابت رصاصةٌ الفلسطينيَّ حمدي نعسان، البالغ من العمر 38 عاماً والأب لـ4 أطفال، وأردته قتيلاً. كانت جريمة قتل نعسان، السبت 26 يناير 2019، هي الحلقة الأحدث في موجة من العنف الذي اقترفه المستوطنون.
وقبل ذلك بأيامٍ قلائل، أدانت السلطات الإسرائيلية فتى يبلغ من العمر 16 عاماً، من مدرسة يشيفا بمستوطنة إسرائيلية أخرى، بالقتل والإرهاب، ووجهت إليه تهمة إلقاء صخرة وزنها نحو 2 كيلوغرام على عائشة الرابي، الأم لـ8 أطفال، لترديها قتيلة في ليلة من ليالي أكتوبر 2018، في أثناء اجتيازها طريقاً سريعة بالقرب من المدرسة في سيارة العائلة.
وفي الوقت الذي أدان فيه مسؤولون فلسطينيون وآخرون من الأمم المتحدة عنف المستوطنين، التزمت حكومة اليمين الإسرائيلي الصمت بشكل ملحوظ؛ خوفاً من أن تفقد أصوات المستوطنين وغيرهم من الداعمين المحتملين لها. وقد وصفنيكولاي ملادينوف، مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط، حادث مقتل حمدي النعسان في قرية المغير بأنّه «صادم وغير مقبول».
«لوبي المستوطنين أقوى من أي معيار أخلاقي»
ويتنافس رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يسعى للفوز بولاية خامسة، مع منافسين يمينيين آخرين على الفوز بدعم المستوطنين. ويخضع نتنياهو حالياً لتحقيقات في اتهامات بتلقي الرشوة، فيما يعد أصعب تحدٍّ سياسي يواجهه منذ سنوات.
وكتبت تمار زاندبرغ، القيادية بحزب ميرتس اليساري، في منشور على حسابها بموقع فيسبوك: «لا تقتل!»، وهي إحدى الوصايا العشر في الديانة اليهودية، مشيرة إلى امتناع مسؤولي الحكومة، بشكل واضح، عن إدانة عملية القتل. وأضافت: «الصمت، أعين الجميع منصبَّة على الانتخابات التي تلوح في الأفق، ولوبي المستوطنين أقوى من أي معيار أخلاقي».
في المقابل، حين قُصف منزل فلسطيني في قرية دوما بالقرب من نابلس عام 2015 وأسفر القصف عن مقتل رضيع ووالديه، أصدر نتنياهو وزعماء اليمين إدانات «قوية»، وقالوا إنَّ «الإرهاب اليهودي لن يمر دون عقاب».
أما الآن، فلا صوت يعلو فوق صوت الدفاع عن الفاعلين اليهود. ووجد جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت) نفسَه في موقف دفاع؛ إذ تتهمه المنظمات اليهودية بسحق حقوق المشتبه بهم في عملية إلقاء الحجارة.
كل الوسائل متاحة لتبرئة المهاجمين اليهود
وأدانت منظمة هونينو، اليمينية المعنيَّة بتقديم المساعدة القانونية لليهود المتهمين بالعنف ضد العرب، حقيقة أنَّ القصّر الخمسة الذين جرى اعتقالهم مبدئياً بتهمة الهجوم على المرأة قد حُرموا من حقهم بالتواصل مع مستشار قانوني مدة أيام بموجب قوانين مكافحة الإرهاب التي تقرها المحكمة. ووقَّع نحو 100 حاخام، من بينهم أصوات في الصهيونية الدينية ومؤسسة المستوطنين، على خطاب مفتوح دعماً للمتهمين.
وخاطبت وزيرة العدل، أيليت شكد، أم أحد المعتقلين وطالبتها بأن «تتحلى بالقوّة»، وقالت إنّها ناقشت القضية مع المدعي العام. وقارن أحد المشرّعين عن حزب الليكود جهاز «الشين بيت» بجهاز الاستخبارات الروسي (KGB). وأُطلق سراح 4 من المعتقلين في نهاية المطاف. وهنا، رفض نتنياهو الهجوم على «الشين بيت»، وأثنى على جهوده لكبح جماح «الإرهاب الفلسطيني»، غير أنّه لم يتناول قضية عنف المستوطنين وهجماتهم.
محاولة لتبرير هجمات المستوطنين بأنها عمليات «للثأر»
لأكثر من عقد من الزمن، مارس شباب المستوطنين المتطرفين المعروفين باسم «شبيبة التلال» عقيدة ما يُعرف بـ «دفع الثمن«، والتي تدعو إلى استخدام العنف أو النهب ضد الفلسطينيين، لجعلهم يدفعون ثمن أي هجمات يشنونها على اليهود، أو جعل الشرطة أو الجيش يدفعان ثمن التصدي لأي نشاط استيطاني مارقٍ.
إلى ذلك، تشهد المناطق المحيطة بالمستوطنات في عمق الضفة الغربية تفشياً للعنف، وعلى حد قول شلومو فيشر، الخبير في حركة الصهيونية الدينية المتطرفة بمعهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي في القدس، فإن «هناك ميلاً لدى اليمين للنظر إلى الأمر باعتباره نوعاً من الثأر»، إذ يرى أنه «كثيراً ما تقع الهجمات اليهودية بعد الهجمات الفلسطينية»، على حد تعبيره.
إلى ذلك، يُرجع المسؤولون الأمنيون في إسرائيل الارتفاع المفاجئ في عنف المستوطنين إلى رفع القيود الذي جرى حديثاً، عن النشطاء الأساسيين في اليمين المتطرف.
وكانت السلطات قد فرضت إجراءات لمكافحة الإرهاب، بعد هجوم قرية دوما عام 2015، وما تلاه من الكشف عن شبكة مسلحين سرية تُعرف بشبكة «الثورة». وتسعى المجموعة إلى هدم دولة إسرائيل واستبدالها بمملكة يهودية تقوم على القانون الديني بها.
وتضمنت الإجراءات الاستثنائية الاعتقالات الإدارية وأوامر إبقاء العناصر الراديكالية الأساسية خارج الضفة الغربية. غير أنَّ تلك الأوامر المؤقتة قد انتهت حالياً تماماً.
منظمات ومدارس صهيونية هي الأكثر تطرفاً
وأشار «الشين بيت» إلى الصلات بين اليشيفا، أو المدرسة الدينية، التي يحضرها المشتبه به في قضية إلقاء الحجارة، والأيديولوجية المسيحانية المعادية للصهيونية، التي تتبناها شبكة «الثورة». وقد عُثر في إحدى المدن الجامعية التابعة لمدرسة اليشيفا على صليب معقوف وعَلم إسرائيلي مكتوب عليه «الموت للصهيونية».
كما أنّ بعض الحاخامات الذين يدرسّون في اليشيفا مرتبطون بهوامش متطرفة لحركة الاستيطان. ومن بين مؤسسي مدرسة اليشيفا ضابط كبير بقوات الاحتياط الإسرائيلي، يُشتبه في قتله رجلاً فلسطينياً أواخر عام 2017، في ظروف مثيرة للجدل.
وأصبحت هذه الصلات جلية في اليوم التالي لمقتل السيدة رابي، حين انطلقت سيارة من مستوطنة يتسهار لتدريب الطلاب على كيفية التعامل مع استجوابات «الشين بيت». ومن بين من كانوا في السيارة مئير إيتنغر، القائد المزعوم لحركة «الثورة» وحفيد مئير كاهاني، الحاخام الإسرائيلي من أصول أمريكية القاتل، والذي يعد الأب المؤسس للحركة اليهودية اليمينية المسلحة؛ وأكيفا هاكوهين، الذي يُعد أحد مهندسي سياسة «دفع الثمن».
تقع المدرسة المعروفة أيضاً بـ «Pri Haaretz» في مجمع سكني رث الحال عند مدخل مستوطنة رحاليم، وهي تجمُّع صغير يحتوي على صفوف منمقة من المنازل وخمّارة «أنيقة».
في الأسابيع الأخيرة، علق التلاميذ رؤوس الماعز المذبوح على سورٍ مسلسَل، في جوائز مفزعة مما يبدو أنّه إحدى جلسات الممارسات التي اتبع فيها الذبح وفقاً لشعائر «شبيبة التلال» المتطرفة.
يرغب بعض سكان مستوطنة رحاليم حالياً في طرد المدرسة من المستوطنة. وقال أحدهم إن أيديولوجية المدرسة مفرطة في التطرف وقائمة بالأساس على إثارة المشاكل. أما قادة المدرسة، فرفضوا التعليق.
ونفى الفتى المشتبه فيه والذي عُثر على حمضه النووي على الصخرة أي مشاركة من جانبه، وفقاً لمحاميه. ولم يجر الإفصاح عن هويته علناً، لأنه قاصر. وقدم أحد الحاخامات لشرطة إنفاذ القانون دليلاً على أنه شاهد الفتى وقت وقوع الجريمة، وقال إنه كان يأكل ويغني حتى منتصف الليل مع التلاميذ في يشيفا، ومن بين هؤلاء التلاميذ، على حد ما أسعفته ذاكرته، التلميذ الذي وُجِّهت إليه التهم فيما بعد.
ووصف زوج الرابي وهو يذكر أحداث تلك الليلة، في مقابلة أُجريت معه، كيف حطمت الصخرة زجاج السيارة الأمامي لتصطدم برأس زوجته وتُخرج مخها من رأسها وتنهمر الدماء منه كـ «الشلال»، وماتت من فورها.
وقال إنه من غير المفهوم أن يوجَّه الاتهام إلى شخص واحد بقتلها؛ إذ إن كثيراً من الأحجار الثقيلة قد أُلقيت على السيارة، و»من المستحيل أن شخصاً واحداً فقط هو الذي ألقاها جميعاً». ويُجري الجيش والشرطة الإسرائيليين حالياً تحقيقات في مقتل النعسان، بحسب ما نشرته السلطات الإسرائيلية.
تنسيق التطرف
ويقول سكان قرية المغير الفلسطينية إن المستوطنين المسلحين هبطوا من التل أولاً، وخرّبوا جرَاراً، وحطموا نوافذه، وأعطبوا دواليبه. فركض المزارعون ليطلبوا من الجنود المتمركزين بالقرب من المكان تقديم المساعدة، غير أن الجنود أخبروهم بأن يتصلوا بالشرطة.
وقال ياسر النعسان، ابن عم القتيل حمدي، إنه ذهب ليلقي نظرة على الجرّار غير أن مزيداً من المستوطنين وصلوا، وأطلقوا النار عليه وطاردوه حتى عاد إلى القرية.
دعت مكبرات الصوت الموجودة في المساجد المقيمين إلى الخروج والدفاع عن منازلهم. فألقى الفلسطينيون الحجارة. وقال شهود عيان إن الجنود وصلوا وأطلقوا قنابل الغاز والقنابل الصوتية والرصاص المطاطي، وربما الرصاص الحي بالهواء، في حين أطلق المستوطنون الذخيرة الحية. ويضيف النعسان: «أراني أحد المقيمين صوراً على هاتفه الخلوي للمستوطنين المسلحين وهم يقفون كتفاً بكتف إلى جانب الجنود، وكان بعضهم يرتدي أقنعة».
وقال فراج النعسان (53 عاماً)، عم حمدي النعسان: «لقد شهدت معركة. كان هناك إطلاق نار جماعي بأصوات عالية. ورأيت 3 جنود إسرائيليين يطلقون النار في الهواء و3 مستوطنين يطلقون النار مباشرة على الناس».
عمل حمدي النعسان في مجال الإنشاءات، وقضى 7 سنوات في سجن إسرائيلي بتهم تتعلق بالأمن. أُطلق سراحه عام 2008. وقال عمه إنّه كان يساعد يوم السبت 26 يناير/كانون الثاني 2019، في إجلاء الجرحى.
وقال: «حمل الجريح الأول ثم الثاني، وحين صعد لحمل مزيد من الجرحى، أطلق النار عليه ليُردى قتيلاً».
سقط النعسان على بُعد نحو 50 ذراعاً من آخر منزل على حافة القرية. وقال سمير أبو عالية، شاهدٌ آخر يبلغ من العمر 53 عاماً، إنه اضطر إلى الانتظار 20 دقيقة حتى خفَّ إطلاق النار، ليستعيد الجثمان.