لماذا يطارد الفشل ماكرون في محاولاته لاستعادة نفوذ فرنسا؟
يحاول الرئيس إيمانويل ماكرون استعادة نفوذ فرنسا في مستعمراتها السابقة من لبنان للجزائر لمالي وجيبوتي وغيرها من مستعمراتها في إفريقيا، لكن الفشل هو العنوان الأبرز لتلك المحاولات، فتراث الدم أقوى لا يمكن نسيانه.
وكالة Bloomberg الأمريكية تناولت القصة في تقرير بعنوان: “ماكرون يدفع ثمن تاريخ فرنسا الدموي في إفريقيا”، ألقى الضوء على النقطة الأهم التي يبدو أن ماكرون نفسه يتجاهلها إما عن عمد أو عن جهل بها.
ماكرون يحاول إبعاد نفسه عن فرنسا الاستعمارية
عُرِضَت رؤوس المقاتلين المقطوعة في ساحة السوق أولاً، ثم نُقِلَت إلى مجموعاتٍ خاصة في باريس. لعقودٍ من الزمن ظلَّت مُخزَّنةً في صناديق في قبو متحفٍ وأخيراً، في يوليو/تموز من العام الجاري، أعادهم إيمانويل ماكرون إلى موطنهم.
ومع توقُّف النقل العسكري الجزائري، أحنى قائد البلاد وقائد الجيش ورجل دين مسلم رؤوسهم إلى أسفل، وحُمِلَ 24 نعشاً مُغطى بالعلم الوطني الأخضر والأبيض والأحمر عبر المدرج.
بالنسبة للرئيس عبدالمجيد تبون، مثَّلَت تلك اللحظة اعترافاً بالمجزرة التي ارتكبها الفرنسيون منذ أكثر من 170 عاماً، أما بالنسبة لماكرون، فقد كان ذلك جزءاً من جهوده لاستعراض صورةٍ حديثة للدولة الفرنسية في وقتٍ تنكشف فيه الانقسامات العرقية في الداخل عبر احتجاجات حركة “حياة السود مهمة” ضد عنف الشرطة.
ومع مناقشة المسؤولين الماليين لمجموعة العشرين، الأربعاء 14 أكتوبر، خطة مدعومة بشدة من فرنسا لتخفيف عبء الديون عن إفريقيا، ربما كان ماكرون يتوقَّع أن يُمنَح وضعاً خاصاً، لكنه في المقابل يكافح من أجل الحفاظ على دور فرنسا التاريخي في جزءٍ من القارة التي هيمَنَت عليها الدولة الأوروبية لأكثر من قرن.
قال ماكرون إنه يريد أن يشهد عودة العديد من الآثار والتحف الإفريقية التي سُرِقَت خلال الحقبة الاستعمارية، وهو يدعم الجهود المبذولة في غرب إفريقيا للانفصال عن مجموعة العمل الموحَّدة المدعومة من فرنسا، وقد وَعَدَ بفتح أرشيفات الإبادة الجماعية التي ارتُكِبَت في ظلِّ حكومةٍ تدعمها فرنسا في رواندا.
لماذا هذا ليس كافياً؟
مع تحوُّل أكثر من مليار شخص إلى مناطق حضرية بشكلٍ متزايد وقيادتهم النمو الاقتصادي السريع، تجذب إفريقيا اهتمام القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا ودول الخليج وتركيا، وهذا يعني أن قادة القارة لم يعودوا معتمدين على فرنسا، في حين تتراجع جهود ماكرون لبناء الجسور بسبب التهديد السياسي في الداخل من جانب ماري لوبان، اليمينية الشعبوية التي فازت بثلث الأصوات حين ترشَّحَت للرئاسة في 2017.
ويمكن إرجاع التوتُّرات الاجتماعية في المدن الفرنسية وفقدان النفوذ في الخارج إلى القضية نفسها، حيث فشل فرنسا في مواجهة ماضيها الدموي، وفقاً لسنوسي إبراهيم، أستاذ الفيزياء في جامعة سيرجي بونتواز، الذي خاض حملةً لمدة 10 سنوات لإرجاع جماجم المقاتلين إلى الجزائر، وقال إبراهيم في مقابلةٍ معه: “ماكرون في الخطوط الأمامية لهذه المعركة، وهو يلعب الآن من أجل الإبقاء على مكان فرنسا في العالم”.
إرث استمر بعد الاستقلال
بعد استقلال مساحات شاسعة من البلدان عبر الجزء الشمالي من إفريقيا قبل حوالي 60 عاماً، أنشأ شارل ديغول شبكةً من العلاقات للحفاظ على النفوذ الفرنسي.
وأمدَّت فرنسا الأنظمة الصديقة بالدعم العسكري مقابل الدعم الدبلوماسي والصفقات المُربِحة لشركاتها، وأحياناً كانت تغض الطرف عن الانتهاكات المحلية، وحتى بعد الاستقلال في العام 1962، عرَّضَت الاختبارات النووية الفرنسية الآلاف من الجزائريين للإشعاعات السامة.
وأدان رؤساءٌ سابقون هذا التراث، لكن أحداً منهم لم يحاول أن يفعل شيئاً حيال ذلك، ويُعَدُّ ماكرون، 42 عاماً، أول زعيمٍ فرنسي يولَد بعد الحقبة الاستعمارية ويُظهِر اختلافاً في خطابه، ففي تناوله للجزائر في حملته عام 2017، وصف الإجراءات الفرنسية في البلاد بأنها “جريمة ضد الإنسانية”، وكانت هذه كلماتٍ غير مسبوقة لمُرشَّح رئاسي.
ومن بين جميع المناطق الإفريقية تحت السيطرة الفرنسية سابقاً، تثير الجزائر أقوى ردود الفعل، فقد كانت الجزائر تُدار كجزءٍ آخر من الدولة الفرنسية، ولم تحصل على الاستقلال إلا بعد حربٍ وحشية خلَّفَت انقساماتٍ ضخمة في المجتمع الفرنسي.
قال مسؤولٌ مُقرَّب من الرئاسة الفرنسية إن ماكرون يعتقد أن فرنسا ظلَّت على مدار سنوات تعتبر علاقتها بمستعمراتها السابقة أمراً مفروغاً منه، وقال المسؤول إن الإدارة تيقَّظَت الآن إلى حقيقة أن لديها عملاً لتقوم به.
خطاب تصالحي.. ولكن!
جادل ماركون نفسه في خطابٍ ألقاه في 2 أكتوبر/تشرين الأول بأن فرنسا بحاجةٍ أيضاً إلى الوصول إلى فهمٍ جديد لماضيها حتى يشعر أولئك الذين عانى أجدادهم من الاستعمار بأنهم ينتمون إلى نفس أولئك الذين استفادت عائلاتهم قديماً منه، وقال إن فرنسا “تعاني من صدمةٍ لم تُحَل، حيث الحقائق التي أرست الأساس لنفسيتنا الجماعية ومشروعنا والطريقة التي نرى بها أنفسنا”.
وكان حجم التحدي في إفريقيا نفسها واضحاً بشكلٍ مؤلِم للرئيس أثناء زيارته لأكبر قاعدة عسكرية فرنسية في الخارج، في جيبوتي، في العام الماضي، فحين تولَّى منصبه قبل ثلاث سنوات، كانت المنطقة المجاورة للقاعدة الفرنسية خالية، وبحلول الوقت الذي زار فيه القاعدة في مارس/آذار 2019، كانت المنطقة المجاورة قد احتلَّها معسكرٌ صيني لتقزيم الوجود الفرنسي.
يعيش رئيس جيبوتي، إسماعيل عمر جيلي، في قصرٍ بناه الصينيون أيضاً، وهو على اتصالٍ بإثيوبيا المجاورة بواسطة خط سكك حديدية صيني جديد، ويصلي شعبه في مسجدٍ عملاق على الطراز العثماني، ومعروف باسم “هدية تركيا لجيبوتي”.
وبينما خاطَبَ ماكرون جمهوراً مختاراً في العاصمة، قال أحد كبار مساعدي جيلي إن التركيز سيعود إلى الصين بمجرد مغادرة ماكرون -فهم يأتون بأموالٍ حقيقية، بحسب ما قال المسؤول، وليست التجارة والاستثمار فقط هما ما يمنحان الصين وتركيا ميزةً في إفريقيا، إذ ليس عليهم كذلك التعاطي مع التاريخ الاستعماري الذي يخيِّم على فرنسا والقوى الأوروبية الأخرى.
ويسعى أردوغان على وجه الخصوص إلى تقديم تركيا بصفتها بديلاً آخر، وداعماً صادقاً للإسلام، بينما يتحدَّى النفوذ الأوروبي في شرق البحر المتوسط وليبيا، وقال أردوغان في خطابٍ مُتلفَز في سبتمبر/أيلول الماضي: “تاريخ إفريقيا هو حرفياً تاريخ فرنسا”، وأضاف: “أنتم الذين قتلوا مليون شخص في الجزائر. أنتم الذين قتلوا 800 ألف في رواندا. لا يمكنك إلقاء محاضرة هنا، ومثل هذه الكلمات وجدت صدى لها.
وبمجرد دفن رفات المقاتلين الجزائريين هذا الصيف، طالَبَ الرئيس تبون، ماكرون بتقديم اعتذارٍ رسمي وفتح ملفاتٍ سرية حول حرب الاستقلال، وفي مالي، أحرق المتظاهرون العلم الفرنسي العام الماضي، وألقوا باللائمة على القوات الفرنسية في إخفاقها في القضاء على تمرُّدٍ إسلامي كانت فرنسا تساعد في قتاله منذ العام 2013، وحين لا يكون هناك غضب، غالباً ما تُقابَل فرنسا بلا مبالاةٍ من جيلٍ جديدٍ من الأفارقة.