لماذا لا يُفضِّل الأمريكيون الدخول في مواجهةٍ عسكرية ضد إيران؟
ناقشت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية الأسبابَ الرئيسية التي تجعل الشعب الأمريكي يرفض أي عملية عسكرية ضد إيران، الأمر الذي قد يتسبب في أزمة كبيرة بالنسبة لهم، فما هي الأسباب؟
ففي وقتٍ سابق من الصيف الجاري، بعدما أسقطت إيران طائرة عسكرية أمريكية بدون طيار، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنَّه وافق على توجيه ضربة لإيران، ثم ألغاها.
وقد أظهر استطلاع رأي أنَّ معظم الأميركيين يؤيدون إلغاء هذه المهمة. ووجد الاستطلاع الذي أجراه مركز الدراسات السياسية الأمريكية بجامعة هارفارد بالتعاون مع شركة Harris Poll أنَّ 57% من المشاركين يعارضون «دخول مواجهة العسكرية مع إيران»، ما دامت إيران لم تهاجم الولايات المتحدة. فيما أراد 5% فقط من المشاركين أن تعلن الولايات المتحدة «الحرب على إيران» .
نتيجة تتسق مع الرأي العام الأمريكي
يقول جيسون براونلي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة تكساس، في مقالة نشرها بصحيفة The Washington Post الأمريكية، إنَّ هذه النتيجة تتسق مع اتجاهات الرأي العام ككل. ففي مقالةٍ ستُنشرَ قريباً في مجلة Journal of Conflict Resolution، حلَّلت نتائج أكثر من 1000 سؤال وَرَد في استطلاعاتٍ تمثيلية أجريت في مختلف أنحاء البلاد. وتكشف هذه البيانات، التي جُمعت في الفترة من عام 1981 إلى عام 2016، عن أنماط ثابتة في مواقف الشعب الأمريكي ما زالت مستمرة حتى اليوم، وتُظهر هذه الأنماط أنَّ الأمريكيين يتردَّدون في الموافقة على دخول حربٍ ضد الدول التي لا يعرفون أنَّها ألحقت ضرراً بالولايات المتحدة أو حلفائها، وإليكم ما وجدته:
الموافقة بأغلبية كاسحة على التدخل العسكري لم تظهر بصورةٍ كبيرة منذ أحداث 11 سبتمبر
يميل الأمريكيون، الذين شملتهم هذه الاستطلاعات السابقة حول التدخل العسكري، إلى المفاضلة بين مخاطر هذا التدخُّل والتهديد المتصوَّر في حال عدم التدخُّل، وفقاً للبيانات التي جُمِعت. فإذا بدا أنَّ التدخل المقترح يُفاقم المخاطر -مثل إرسال بعض الجنود في مهمة خطيرة وغير ضرورية- يميل المشاركون في الاستطلاع إلى الرفض.
وعلى النقيض من ذلك، فإذا بدا التدخل قادراً على الحدِّ من الخطر الذي يُهدِّد الأمريكيين -أو بدا غير محفوف بمخاطرٍ كبيرة على الجنود الذين سيشاركون في المهمة- تؤيده حينئذ نسبة أكبر من المشاركين. فعلى سبيل المثال، حين يُذكَر أنَّ المهمة ستشهد مشاركة دولٌ أخرى تدعم أمريكا بتفويضٍ من الولايات المتحدة، تزداد الموافقة عليه بمقدار 10 درجات. وكذلك فالاستطلاعات التي لا تذكر الخسائر الأمريكية المحتملة، تزداد فيها نسبة الموافقة على التدخُّل بحوالي 15% عن تلك التي تذكر الخسائر الأمريكية المحتملة.
وتمتد هذه الأنماط عبر بياناتٍ مأخوذة على مرِّ 26 عاماً، بما في ذلك فترة ما بعد 11 سبتمبر، حين كان العديد من الأمريكيين مهتمين بالأمن القومي. ومن عام 2002 إلى عام 2015، بلغ متوسط نسبة الموافقة على التدخل العسكري في إيران حوالي 50%. وتكشف البيانات كذلك أنَّ الأمريكيين كانوا رافضين لدخول حربٍ ضد كوريا الشمالية، في الفترة من عام 2003 إلى عام 2014، بينما أيَّد 37% منهم فقط التدخل العسكري آنذاك، وأظهرت أيضاً أنَّهم كانوا رافضين التدخل العسكري ضد النظام السوري بين عامي 2012 و2014، إذ أيَّد 33% فقط منهم استخدام القوة آنذاك، ورفضوا كذلك التدخُّل العسكري حين غزت قواتٌ موالية لروسيا شرق أوكرانيا في عام 2014، إذ أيَّد 18% منهم فقط التدخل آنذاك.
لكنَّ الرأي العام ليس مؤشراً للسياسة التي تتّبعها الرئاسة بالطبع. فمع أنَّ 30% فقط من الأمريكيين أيَّدوا التدخل في ليبيا في عام 2011، رضخ الرئيس السابق باراك أوباما لشركاء الولايات المتحدة الأوروبيين، وأمر بإطلاق العملية رغم ذلك. وكذلك فمن المرجح ألَّا تمنع المعارضة الشعبية للتدخل ترامب من إصدار أمر بالهجوم، لكنها تشير إلى أنَّه سيواجه ردة فعل سياسية حادة.
لماذا كان الأمريكيون مؤيِّدين، على غير العادة، للتدخل العسكري الأمريكي في أفغانستان والعراق؟
كان الأمريكيون أكثر تأييداً للتدخل العسكري في أفغانستان والعراق. ففي بعض استطلاعات الرأي التي سبقت كلا الحربين، والتي لم تذكر الخسائر المحتملة، وافق حوالي 75% من المشاركين على مهاجمة طالبان في أفغانستان، وأيَّد 62% اتخاذ إجراءٍ عسكري ضد العراق. وفي جميع الاستطلاعات من عام 1981 إلى عام 2016، كان الأمريكيون أكثر ميلاً إلى الموافقة على التدخل ضد صدام حسين والعراق من أي هدف آخر بنسبة 28%، فيما كانوا أكثر ميلاً إلى الموافقة على مهاجمة تنظيم القاعدة أو أسامة بن لادن في أفغانستان بنسبة 37%. ويرجع ذلك بالطبع إلى أنَّ الأمريكيين شعروا بالغضب من هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية، التي شنَّها تنظيم القاعدة على مدينة نيويورك والعاصمة الأمريكية واشنطن.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ نسبة الموافقة في استطلاعات الرأي يُمكن زيادتها بصورةٍ كبيرة، عن طريق الرسائل التي تبعث بها الرئاسة الأمريكية، كما حدث حين عملت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن طوال عدة أشهر على إقناع المواطنين والكونغرس ومجلس الأمن الدولي، بتأييد غزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة. إذ تمكَّنت إدارة بوش من استغلال حالة العداء واسعة النطاق تجاه صدام، التي خلَّفتها حرب الخليج التي اندلعت بين عامي 1990 و1991 في عهد جورج بوش الأب، جيداً.
ولكن في بعض الأحيان، يتعارض عداء الشعب الأمريكي تجاه خصوم معيَّنين مع رغبة الرئيس الذي يُفضِّل ضبط النفس. فبعدما نفَّذ أفراد تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هجوماً أسفر عن مقتل 130 شخصاً في باريس، في نوفمبر/تشرين الأول من عام 2015، رأى 68% من الأمريكيين الذين شملهم أحد استطلاعات الرأي أنَّ أوباما -الذي كانت إدارته تضرب أهداف داعش في العراق وسوريا على مرِّ أكثر من عام- يجب أن يكون أكثر عدوانية ضد التنظيم. وفضَّل 53% منهم «إرسال قواتٍ برية (أمريكية) للمشاركة في العمليات القتالية ضد داعش»، وهي فكرة وصفها أوباما بأنها متهوّرة وغير فعالة. وبوجهٍ عام، كان الأمريكيون في كل استطلاعات الرأي أكثر ميلاً بنسبة 9% إلى تأييد استخدام القوة العسكرية ضد داعش، مقارنةً بالأهداف المحتملة الأخرى.
الشعب يؤيد التدخل ضد التهديدات الحادة
قد يُصبح الشعب الأمريكي الحَذِر أكثر استعداداً لتأييد التدخل العسكري ضد إيران في حالتين: الأولى هي أن تعتمد إدارة ترامب على الاستراتيجية التي اتَّبعتها إدارة جورج بوش من أجل بناء تأييدٍ لغزو العراق، وتحاول تخويف الأمريكيين لإقناعهم بضرورة شنِّ «حربٍ ضد إيران» . ولكن حتى الآن لم نرَ أيَّ دليل على وجود حملة مُنسَّقة كهذه من جانب البيت الأبيض. فضلاً عن أنَّ تحقيق ذلك لن يكون سهلاً؛ فالأمريكيون ليست لديهم عداوة حادة تجاه إيران كالتي كانت لديهم تجاه صدام حسين، وكذلك فالحربان غير الحاسمتين في أفغانستان والعراق جعلتهم حذرين بشأن تغيير الأنظمة الحاكمة، وفي الوقت نفسه لم يقع أي هجوم على الأمريكيين قد يُثير لديهم الرغبة في الهجوم على إيران.
والثانية هي أن تصعد إيران هجماتها. فهي حتى الآن أسقطت طائرات أمريكية بدون طيار، وصادَرت ناقلات نفط أجنبية؛ لذا قد يتغير الرأي العام الأمريكي إذا بدأت إيران في تعريض الطيارين والبحَّارة الأمريكيين للخطر، وتخلَّت عن استراتيجيتها «العين بالعين» التي تتبعها حالياً.
وحتى الآن، لم تقترب المناوشات مع إيران من إثارة قلقٍ هائل كالذي شعر به الأمريكيون، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والذي جعلهم يؤيدون التدخل ضدّ تنظيم القاعدة والعراق وتنظيم داعش. إذ يُبدي معظم الأمريكيين تحفظَهم حيال التدخل المسلح. وقد يساعد هذا الموقف في استمرار الولايات المتحدة في التفاوض، بدلاً من شنِّ هجوم عسكري.