لماذا خسرت البرازيل من سُمعتها ما بنته في ربع قرن؟
انتقد عدد من السياسيين البرازيليين السابقين بينهم رئيس البلاد الأسبق فرناندو إنريكي كاردوسو السياسة الخارجية للبرازيل في الفترة الأخيرة، معتبرين أن ريو دي جانيرو انحرفت عن سياستها السابقة حيال الدول، والتي كانت بعيدة عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان المجاورة في إشارة إلى فنزويلا.
وقال كل من فرناندو إنريكي كاردوسو الرئيس الأسبق، وألونسو نونيس فيريرا، وسيلسو أموريم، وفرانسيسكو ريزيك، وخوسيه سيرا وزراء الخارجية السابقين في مقال بمجلة The National Interest الأمريكية، إنه رغم اتجاهاتنا وآرائنا السياسية المتمايزة، نعرب نحن، الذين شغلنا جميعاً مناصب عليا في مجال العلاقات الدولية في حكوماتٍ مُتنوِّعة في الجمهورية الجديدة، عن قلقنا إزاء الطريقة التي انتهكت بها السياسة الخارجية لهذا البلد المبادئ التوجيهية لعلاقات البرازيل الدولية على النحو المُحدَّد في المادة الرابعة لدستور عام 1988.
محددات الدستور البرازيلي
وينص الدستور البرازيلي على أن البرازيل “محكومةٌ في علاقاتها الدولية بالمبادئ التالية: 1) الاستقلال الوطني. 2) احترام حقوق الإنسان. 3) تقرير المصير للشعوب. 4) عدم التدخُّل. 5) المساواة بين الدول. 6) الدفاع عن السلام. 7) التسوية السلمية للنزاعات. 8) نبذ الإرهاب والعنصرية. 9) التعاون من أجل تقدُّم الإنسانية. 10) منح اللجوء السياسي”.
وبالإضافة إلى ذلك، يذكر أيضاً أن “جمهورية البرازيل الاتحادية ستسعى إلى تحقيق التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بين شعوب أمريكا اللاتينية برؤيةٍ لتشكيل مجتمعٍ للأمم الأمريكية اللاتينية”.
هل تخالف الحكومة الدستور؟
وبحسب المجلة الأمريكية تكشف مقارنة مبادئ الدستور البرازيلي بأفعال الحكومة في حقل السياسة الخارجية أن الأخيرة تتناقض مع الأولى من حيث النصِّ والروح على حدٍّ سواء. لا يمكن التوفيق بين الاستقلال الوطني الحقيقي والخضوع لحكومةٍ أجنبية تتمثَّل استراتيجيتها السياسية الصريحة في تعزيز مصلحتها الذاتية فوق أيِّ اعتبارٍ آخر. أما أن تعلن حكومةٌ أنها حليفةٌ مخلصةٌ لذلك البلد، فهي بذلك تتخلَّى عن استقلالها. وهكذا تتبنَّى الإدارة الحالية أجندةً تُهدِّد بجرِّ البرازيل إلى صراعاتٍ مع أممٍ نحافظ على علاقاتِ صداقةٍ ومصالح مشتركة معها. وعلاوةً على ذلك، فإنها تبتعد عن المبدأ الكوني للسياسة الخارجية البرازيلية وقدرتها على فتح الحوار وبناء الجسور مع بلدانٍ مختلفة، مُتقدِّمة ومتأخِّرة على حدٍّ سواء، من أجلنا نحن.
هناك أمثلةٌ أخرى للتناقضات الأخيرة مع أحكام الدستور، تتضمَّن التالي: دعم التدابير القسرية في البلدان المجاورة، وانتهاك مبادئ تقرير المصير وعدم التدخُّل، والتصويت في الأمم المتحدة لفرض حصارٍ أحادي الجانب في انتهاكٍ لقواعد القانون الدولي والمساواة بين الدول والتسوية السلمية للنزاعات، واعتماد استخدام القوة ضد الدول ذات السيادة دون إذنٍ من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والموافقة الرسمية على الاغتيال السياسي والتصويت ضد القرارات التي اتَّخَذها مجلس حقوق الإنسان في جنيف لإدانة انتهاك مثل هذه الحقوق، والدفاع عن سياسة حرمان السكان الأصليين من الحقوق المكفولة لهم في الدستور، وتجاهل قضايا مثل التمييز على أساس العرق والجنس.
وبالإضافة إلى مخالفة الدستور الاتحادي، فإن الاتجاه الجديد للسياسة الخارجية فَرَضَ تكاليف جسيمة على البلاد، مثل انهيار المصداقية الخارجية، وخسارة الأسواق، وهروب رأس المال. وسيكون إصلاح هذا الضرر بلا شك أمراً صعباً.
البرازيل من قائدة التنمية المستدامة إلى التدخل في شؤون الدول!
وبحسب المجلة الأمريكية فبعدما حظت البرازيل بإعجابٍ واسع في حقل حماية البيئة منذ قمة الأرض في ريو دي جانيرو 1992، وبعد أن كان يُنظَر إليها باعتباره قائدةً للتنمية المُستدامة، أصبحت البرازيل الآن تُشكِّل تهديداً على نفسها والآخرين، بسبب التدمير المستمر لغابات الأمازون والاحتباس الحراري العالمي الآخذ في التدهور. أصبحت الدبلوماسية البرازيلية، التي عُرِفَت تقليدياً باعتبارها قوةً للاعتدال والتوازن في خدمة التوصُّل إلى الإجماع، طرفاً تابعاً في اتجاهٍ أحادي الجانب عدوانيٍّ وخطير.
تحوَّلت الدولة في أمريكا اللاتينية من مدافعةً عن التكامل الدولي إلى داعمةٍ للمغامرات التدخُّلية، ما يفسح المجال أمام قوى من خارج المنطقة. لقد تخلَّينا عن القدرة على الدفاع عن مصالحنا من خلال التعاون من أجل ترحيل العمال البرازيليين من الولايات المتحدة في ظروفٍ غير آدمية. وتخلَّينا عن ذلك مرةً أخرى حين قرَّرنا سحب كافة الموظَّفين الدبلوماسيين والقنصليين البرازيليين من دولة فنزويلا المجاورة لأسبابٍ أيديولوجية محضة، تاركين وراءنا مواطنين برازيليين عاجزين مقيمين هناك.
في أوروبا الغربية، نثير الآن عداء شركاء مهمين، مثل فرنسا وألمانيا، في جميع المجالات تقريباً. والمسار الحالي للعمل المُناهِض للدبلوماسية يُبعِد البرازيل عن أهدافها الاستراتيجية من خلال تنفير الدول التي تُعتَبَر أساسيةً في تطبيق الأجندة الاقتصادية للحكومة، بحسب المجلة الأمريكية.
“فضيحة” كورونا!
وقد كشفت الأزمة الصحية الخطيرة التي يفرضها فيروس كورونا المُستجَد المزيد من ضعف فاعلية وزارة الخارجية الحالية ودورها العكسي في مساعدة البلاد على الحصول على المُنتَجات والمُعِدَّات الطبية. أما العصبوية التي تغذي الهجمات التي يتعذَّر تفسيرها تجاه الصين ومنظمة الصحة العالمية، بالتوازي مع عدم احترام العلم وغياب الحساسية تجاه حياة البشر التي أظهرها الرئيس، فقد جعلت الحكومة هدفاً للاشمئزاز والسخرية الدولية. وفي الوقت نفسه، جازفت بجهود حُكَّام الولايات الساعين لاستيراد المُنتَجات التي هم في أمسِّ الحاجة إليها لحماية أرواح آلاف البرازيليين.
سوف يتطلَّب إنقاذ السياسة الخارجية للبرازيل عودةً إلى المبادئ الدستورية، وإلى العقلانية، والتوازن، والاعتدال، والواقعية البنَّاءة. وفي هذه العملية من إعادة البناء، سيتعيَّن على القضاء -حامي حمى الدستور والكونغرس الوطني، وممثِّل إرادة الشعب- أن يؤدِّي دوره من خلال ضمان التزام الإجراءات الدبلوماسية حقاً بالمبادئ التي يرسيها الدستور.
العودة إلى الصواب
ومن أجل الاستجابة لتطلُّعات شعبنا والاحتياجات الحقيقية للبرازيل، فإن السياسة الخارجية بحاجةٍ إلى الحصول على دعمٍ واسعٍ من ناحية الرأي العام. لابد أن تكون متعاونةً، مع احترام ومراعاة كافة قطاعات المجتمع. ويتطلَّب ذلك أيضاً انخراط موظفينا الدبلوماسيين العاملين حالياً في سياسة الدولة بدلاً من الأفعال الحاثَّة على الانقسام والتي تهدف إلى الإثارة وإعطاء الأولوية لانحيازات أقليةٍ رجعية.
وختم مقال المسؤولين البرازليين بالقول: “إن إعادة تشكيل السياسة الخارجية البرازيلية لهي أمرٌ مُلِحٌّ ولا غنى عنه. لنترك هذه الصفحة المخزية من الخنوع واللاعقلانية، ودعونا نبدأ مرةً أخرى الدفاع عن استقلالنا وسيادتنا وكرامتنا ومصالحنا الوطنية في القلب من العمل الدبلوماسي. دعونا نُجسِّد مرةً أخرى جميع القيم التي ساعدت على بناء تراث وفخر الشعب البرازيلي، بما في ذلك التضامن والسعي من أجل الحوار”.