لماذا تفشل التنمية بالدول العربية؟
رغم امتلاك الدول العربية لموارد مالية وبشرية ضخمة إلا أن التنمية أخفقت بالمنطقة بشكل لا يليق بإمكاناتها ولا تاريخها الطويل التي كانت تشكل فيه قلب العالم لقرون طويلة، الأمر الذي يثير تساؤل لماذا أخفقت التنمية بالمنطقة العربية؟
وبحسب تقرير لمعهد “بروكينجز ” الأمريكي يشخص أسباب إخفاق التنمية بالمنطقة العربية ويضع خارطة طريق لتحقيق التنمية في المنطقة العربية باستغلال الموارد المتاحة في المنطقة.
لماذا أخفقت التنمية بالمنطقة العربية؟
تُحدّد مصائر الأشخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بناءً على صدفة موقع ميلادهم الجغرافي بدرجة أكبر من الأشخاص في أي جزء آخر من العالم. نظرت الحكومات إلى هذا الأمر باعتباره إحدى المشكلات في المنطقة، وهي بالفعل كذلك.
لذا، جرّبت حكومات المنطقة العديد من الطرق للاستجابة لاحتياجات المواطنين في المناطق الجغرافية الفقيرة المتأخرة، حيث يُنفق الكثير من المال على الاستثمار في هذه الأماكن. كذلك، حاول صانعو السياسة إصدار أوامر بتشييد مرافق إنتاج جديدة في هذه المناطق بهدف توفير وظائف في المناطق الأكثر فقراً. وضُخّت الأموال في مشاريع إسكان ضخمة لتلبية الحاجة إلى المنازل اللائقة وسبل الراحة والرفاهية في الأحياء الحضرية الفقيرة.
ومع ذلك، تزداد حدة الفوارق المكانية أو تقل على نحوٍ أبطأ مما كان متوقعاً في ضوء حجم الاستثمارات الموجهة إلى تلك المناطق. يرجع ذلك إلى أنَّ الأسباب الكامنة وراء الإقصاء المكاني ليست مادية ولا تتعلق بالمكان، بل هي اقتصادية ومؤسسية.
لماذا تبدو المنطقة مجزأة للغاية؟ مظلومية المدن الصغيرة
لماذا يُعد تحقيق التقارب المكاني أمراً صعباً للغاية؟ جرى تحديد أربعة أسباب في تقرير تابع للبنك الدولى أُنجز للتو.
1- لم تتمكن معظم المناطق الجغرافية المتأخرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الاستفادة من كامل مواردها وثرواتها لأن بيئة الأعمال التجارية والبنية التحتية في مدنها وبلداتها تجعل الأمر عسيراً على الشركات الجديدة أن تبدأ نشاطاً تجارياً وتنمو.
يتمثَّل أحد الأسباب في أنَّه بخلاف عواصم دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لا تملك المدن الأصغر السلطة لتعزيز إيراداتها الخاصة بها وإدارة آلية تقديم الخدمات المحلية وضبط معاييرها.
2- معظم السكان في المناطق المتأخرة «عالقون في نفس أماكنهم»، غير قادرين على الاستفادة الكاملة من الوظائف، التي توفرها الاقتصادات الحضرية الأكثر حيوية. قد تكون أنظمة التعليم المعتمدة هي السبب الأكبر في جعل المواطنين ساكنين غير راغبين في الانتقال من أماكنهم.
3- في المناطق الرئيسية الرائدة، تشوه اللوائح التنظيمية المُتصلّبة البالية أسواق الأراضي وتثبط التنمية. على سبيل المثال، تحظر اللوائح في تونس أن يزيد ارتفاع المباني السكنية عن ثلاثة طوابق، وتفرض اللوائح في الأردن مساحة بناء لا تقل عن 100 متر مربع، مما يقيّد إمكانية توفير وحدات إسكان رسمي بتكلفة ميسورة.
4- خلقت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عقبات ضخمة أمام التجارة والهجرة. تبرز العوائق الرئيسية في القيود المفروضة على حرية تداول الأخبار والمعلومات، فضلاً عن القيود العملية على السفر والتجارة (الصعوبات المُتعلّقة بإصدار التأشيرات، والبنية التحتية الضعيفة والعقبات اللوجستية).
ويتّضح أنَّه في حين تؤدي تلك الأسباب السالفة الذكر إلى عدم تكافؤ الفرص بين فئات السكان بناءً على المنطقة الجغرافية، لكن أسباب التجزؤ والتشتت ليست مُتعلقة بالمكان في حد ذاتها.
خارطة طريق لتحقيق التنمية في المنطقة العربية
إعداد آلية لتحقيق التقارب المكاني
سيتطلب تسريع وتيرة التكامل وتحقيق التقارب المكاني معالجة هذه المشكلات. تستطيع الحكومات في المنطقة تقليل الفوارق بين المناطق بسرعة وفعالية من خلال فعل خمسة أشياء:
1- تعزيز التنسيق وأوجه التكامل بين المبادرات
من المرجح أن تنجح استراتيجيات التنمية إذا كانت ذات أبعاد متعددة، تشمل إمكانية الوصول إلى موارد الطاقة والنقل والأراضي والأسواق في مكانٍ واحد، سواء بشكل متتابع أو متزامن. وأفضل مكان للبدء في هذا الصدد هو تعزيز الاستثمارات في المدن وما حولها. يمكن لعدد من الإصلاحات التكاملية، التي تساعد في تحديد الأسعار بصورة صحيحة فيما يخص موارد الطاقة والأراضي- أنَّ تساهم بدرجة كبيرة في تهيئة الظروف لخلق فرص عمل في المناطق المتأخرة. الخبر السار هو أنَّه لا يتعين على الحكومات دفع مزيد من الأموال لرؤية نتائج أفضل لأنَّ التنسيق المكاني سيولّد توفيراً في التكاليف على الأجلين المتوسط والطويل.
2- إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات عبر جميع المستويات الحكومية
تتباين احتياجات المواطنين في أجزاء البلاد المختلفة، وتتطلب الظروف المحلية نماذج مرنة لتقديم الخدمات. لذا، إعادة توزيع المسؤوليات لتوليد الإيرادات وتحديد معايير تقديم الخدمات على الصعيد المحلي يمكن أن يُحسّن أداء الحكومات المحلية ويجعلها أكثر قابلية للمساءلة.
3- إتاحة حرية انتقال المواطنين بين المناطق المُهمشة المتأخرة والمناطق الرائدة
في المتوسط، عدد الأشخاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذين يتّخذون قرار الانتقال والبحث عن فرص في أماكن أخرى داخلياً، هو نصف عدد الأشخاص في أنحاء أخرى من العالم. ويظهر البحث أنَّ مستويات المعيشة للذين ينتقلون داخلياً إلى مدن كبرى قد يرتفع بمعدل 37% في المنطقة. وتعد احتمالات الانتقال والعثور على وظائف في المناطق الحضرية أكبر لدى النساء، لكنهن بحاجة إلى الدعم لفعل ذلك. كذلك، تحتاج أنظمة التعليم في جميع أنحاء المنطقة إلى أن يعاد توجيهها نحو المهارات القابلة للتسويق.
4- بناء مدن متراصّة ومتصلة
تُقدّم المدن ذات الأداء الجيد مجموعة مختلفة من الوظائف -للنساء والرجال. ومن ثمًّ، فإنَّ تحسين فعالية أسواق الأراضي في المدن هو أمر حاسم لتحقيق الكثافة السكانية والتخصُّص- وهما قوتان محركتان تعززان خلق فرص العمل والازدهار الاقتصادي. سواء في المدن الأكبر (الرئيسية) أو المدن الأصغر (الثانوية)، تتطلب الكثافة السكانية والتخصّص الاستفادة من فوائد الكثافة الاقتصادية العالية، التي تحشد النشاط الاقتصادي جغرافياً.
لهذا، يجب أن يكون نسيج المدن متصلاً من الناحية المكانية، وذا كثافة سكانية، وموجهاً نحو جعل الخدمات والمساكن وفرص العمل على مقربة من وسائل النقل العام –وليست مترامية الأطراف تساهم في استدامة بعثرة الأشخاص والوظائف.
يستطيع المخططون والمنظمون جذب الشركات للاستثمار في المدن من خلال الحد من أوجه الاحتكاك مثل لوائح التقسيم إلى مناطق والعوائق، التي تحول دون حيازة العقارات، والقيود المفروضة على عمليات البناء الجديدة (التكاليف، وتقييد الكثافة والارتفاع المسموح به)، بالإضافة إلى التحدّيات، التي تواجه تسجيل الأنشطة التجارية المحلية، والتراخيص، والقيود المفروضة على تداول الأخبار وإمكانية الحصول على المعلومات، بالإضافة إلى عقبات تعترض تطوير شبكات الأعمال التجارية المحلية.
5- تعزيز الوصول إلى الأسواق على الصعيدين الوطني والإقليمي
تاريخياً، كانت مدن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جزءاً من شبكات التجارة العالمية المهمة اقتصادياً. استمرّت مكانة العديد من هذه المدن في العصر الحديث باعتبارها مناطق حضرية كبيرة. لكن الحكومات في المنطقة تمكّنت من تقليص تلك الشبكات التجارية من عالمية إلى محلية.
لذا، يجب توسيع نطاق هذه الشبكات، كحد أدنى، لتشمل الأبعاد الوطنية والإقليمية. ويعتبر تحسين روابط الاتصال عبر الحدود الوطنية بداية جيدة نحو تحقيق ذلك- فضلاً عن إجراءات أخرى تشمل تخفيض الرسوم الجمركية، وتحسين الخدمات اللوجستية، وتسهيل التجارة، وصياغة بروتوكولات تخص الهجرة. ستؤدي مثل هذه الجهود إلى نمو الاقتصادات، وتوفير الموارد التي تشتد الحاجة إليها لإعادة توزيعها في المناطق المتخلفة عن الركب.
بعبارة أخرى، يتعيَّن على حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا البدء في إعداد آلية تقارب حديثة تعتمد بالأساس على المؤسسات، التي تدمج، وعلى البنية التحتية، التي تربط.
لم تعد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مكاناً فقيراً. إذ بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تلك المنطقة حوالي 7000 دولار في العام الماضي، مما يجعل سكانها ينتمون إلى مستويات الدخل فوق المتوسط. ينبغي أن يحظى سكان تلك المنطقة بنوعية جيدة من الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة وأنظمة الصرف الصحي والأمن العام.
ومن شأن مبادرات مختارة جيداً في مجال البنية التحتية -الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومرافق الاتصالات- أن توفر لأصحابها إمكانية الوصول إلى الأسواق الكبيرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (حيث يبلغ الناتج المحلي الإجمالي 3 تريليون دولار) وحتى إلى الأسواق الأكبر القريبة من المنطقة في الشمال والشرق.
قد تكون هناك حاجة أيضاً إلى تدخلات تستهدف أماكن معينة، لكنها ليست ضمن المكوّنات الرئيسية للآلية.
وربما أكبر خطأ ارتكبته الحكومات هو التعامل مع هذه التدخلات –من برامج لدفع النشاط الاقتصادي في المناطق المتأخرة وفي الوقت نفسه تفضيل العواصم- باعتبارها الركن الأساسي للآلية. لقد حان الوقت لوقف هذه التدابير ذات النتائج العكسية، والتي تؤدي إلى تفاقم التجزؤ والتفتت في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والعمل على تسريع الجهود الرامية إلى تحقيق التكامل.