لماذا تصر فرنسا على مواصلة استعمارها لإفريقيا؟
مازال الاستعمار الفرنسي قائماً بإفريقيا، ومازالت باريس تستخدم القوة في القارة حتى لو نالت دولها استقلالها، فلماذا تحرص فرنسا على استمرار هيمنتها في إفريقيا، وكيف تفعل ذلك.
فرغم مرور عقود على انتهاء الاستعمار الفرنسي الصريح للعديد من دول القارة، تُواصل باريس استخدام قدر كبير من القوة على المستعمرات التي كانت تحتلها سابقاً، حتى وإن كانت قد نالت استقلالها نظرياً.
وتأسَّست الأنشطة الاستعمارية الجديدة لفرنسا في نطاق منطقة بلدان الجماعة المالية الإفريقية «CFA»، على نموذج سائد منذ 60 عاماً تقريباً، يخدم مصالح باريس الاقتصاديةـ السياسية، والاجتماعية- الثقافية.
الكاتب كاان دوه جي أوغلو، الخبير في الاقتصاد السياسي، والشؤون الإفريقية، لاسيما السودان، الذي يجري أبحاثه عبر جمعية الدراسات الإفريقية «AFAM»، عرض في مقال له أهمية إفريقيا بالنسبة لفرنسا، وأسباب حرصها على استمرار نفوذها الاقتصادي والسياسي في القارة، والأساليب التي تستخدمها لتحقيق ذلك.
لماذا تحرص فرنسا على استمرار هيمنتها في إفريقيا؟
السبب الأساسي لهذا الوضع هو اعتماد فرنسا المفرط على المصادر الإفريقية الفرنكوفونية (الناطقة بالفرنسية) لتوريد المواد الخام الرخيصة.
فالهدف الرئيس لفرنسا في سياستها الإفريقية هو توفير الوصول الحر والمستمر للمواد الخام «الاستراتيجية» التي تعد ذات أهمية حيوية لتطوير الطاقة النووية، وتأمين تلك المواد بشكل منتظم.
الذهب المشع.. ما هي المادة التي تدفع فرنسا للاحتفاظ بكل هذا النفوذ في إفريقيا؟
ومنذ سنوات عديدة، تستورد فرنسا معظم احتياجاتها من اليورانيوم من النيجر والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وتوصف هذه المنطقة بأنها نواة إفريقيا، حيث تتمتع باريس بعلاقات مميزة مع تلك الدول.
وهناك علاقة وثيقة بين أهمية الدول المذكورة المزودة لفرنسا باليورانيوم، وبين وجود فرنسا السياسي- الاقتصادي البارز والمستمر في تلك المناطق.
باريس مظلمة من دون إفريقيا.. لماذا تحتاج ليورانيوم إفريقيا؟
حافظت فرنسا على روابطها العميقة بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية مع مستعمراتها السابقة بإفريقيا، حتى بعد نَيْل الأخيرة استقلالها، لاسيما أن هذه المستعمرات السابقة تُعرف حالياً باسم «إفريقيا الفرنسية».
وفي هذا السياق، وضمن إطار مصالحها، استخدمت فرنسا أسلوباً فعّالاً من أجل الوصول إلى الأسواق والمصادر الطبيعية في المستعمرات السابقة.
تلعب إفريقيا دوراً حيوياً في توفير موارد استراتيجية لفرنسا، تمثل مصدراً حيوياً لتقدُّم باريس ورخائها الاقتصادي.
فعلى سبيل المثال، تؤمن الطاقة النووية في فرنسا 80% من إنتاج الكهرباء، وبالتالي تكون البلاد بحاجة مستمرة لليورانيوم من أجل إنتاج الطاقة النووية.
ويتم توفير جزء كبير من احتياجاتها من اليورانيوم من بلدان «إفريقيا الفرنسية»، مثل النيجر ومالي والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى.
وحتى الأسلحة الفرنسية تعتمد على القارة السمراء.
فبالإضافة إلى اليورانيوم، فإنّ المواد الخام مثل المغنيسيوم والفوسفات والكروم، الموجودة في البلدان الإفريقية المعنية، هي أيضاً مهمة في صناعة الأسلحة الفرنسية وغيرها من الصناعات الأخرى.
استراتيجيات استعمار الأجيال الجديدة.. الجماعة المالية الإفريقية
الفرنك الإفريقي أو فرنك الجماعة المالية الإفريقية له أهمية حيوية بالنسبة إلى الشركات الفرنسية الدولية (وبالتالي مصالح فرنسا) التي تمارس أنشطة تجارية في إفريقيا.
والفرنك الإفريقي عملة متداولة في عدة دول بالقارة السمراء، كانت سابقاً مستعمرات فرنسية، إضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة)، وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة).
وعلى الرغم من أن الأَبَوية السياسيةـ الاقتصادية التي نشأت في إفريقيا قد منحت فرنسا مساحة، إلا أنها مع مرور الوقت دفعت بها إلى طريق مسدود بسبب المنافسة العالمية المتزايدة في إفريقيا.
والأبوية، شكلٌ من أشكال السلطة السياسية التي يكون فيها الحاكم أو ممثلو الدولة الآخرون بمثابة الأب، ويكون المواطنون بمثابة الأبناء والعيال، وهنا تعني أمرين أحدهما سياسي والثاني اقتصادي.
لكن مع ذلك، أنشأت فرنسا منطقة مهمة لنفسها في القارة السمراء، وبالتالي فإن لديها فرصة للحفاظ على قوتها التي تمكنها من النضال في خضمّ هذه المنافسة العالمية.
ومع أن الدول في إفريقيا الفرانكوفونية مستقلة من الناحية النظرية (لأنها لا تزال في قبضة القوى العالمية، وخاصة في فرنسا)، إلا أن نطاق استقلالها محدود ومقيد، ولا بد أن يقدم هذا الوضع إطاراً تحليلياً جيداً لفهم الأبعاد الاقتصاديةـ السياسية للاستعمار الجديد في إفريقيا الفرنسية.
إرث المستعمر.. جذور الجماعة الإفريقية المالية وتطورها
طوال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حددت باريس الفرنك الفرنسي عملةً مستخدمة في المناطق التي كانت تخضع لسيطرتها الاستعمارية في إفريقيا.
وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، فعّلت باريس تداول هذه العملة من خلال طبع أوراقها النقدية بواسطة الصندوق المركزي لفرنسا الحرة، الذي كان موجوداً بالجزائر عام 1943.
وفي فترة ما بعد الحرب، صدّقت فرنسا على اتفاقية «بريتون وودز» التي تم توقيعها عام 1945، وبموجبها تم تثبيت العديد من العملات الأجنبية وتداولها مقابل الدولار، ومن بينها الفرنك الفرنسي.
وهكذا، حافظت فرنسا على هيمنتها على الموارد الطبيعية لإفريقيا، وسهلت أنشطتها التجارية أيضاً.
ممنوع الخروج.. معايير الاحتلال ما زالت قائمة
والفرنك الفرنسي الذي استخدم في 21 دولة خلال سنوات اعتماده، ما زال متداولاً حالياً في 14 دولة، ومع رغبة بعض الدول الإفريقية في الخروج من الجماعة المالية الإفريقية، فإنها تصطدم بالعائق الفرنسي.
فعلى سبيل المثال، عند محاولة الانقلاب العسكري بمالي عام 2012، أعلن الانقلابيون اعتزامهم التخلي عن استخدام الفرنك الفرنسي، لكن في المقابل باتوا وجهاً لوجه مع التدخل الفرنسي في البلاد.
وتعمل منطقة الفرنك الإفريقي، اليوم وفقاً لخمسة معايير أساسية، الأول: تحديد التعادل الثابت للعملة مقابل اليورو إذا لزم الأمر، يتم من خلال التشاور مع باريس، وفي ضوء قرار يتم التصديق عليه بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي.
والمعيار الثاني: قابلية تحويل الفرنك الإفريقي إلى اليورو، والثالث: حماية الفرنك الإفريقي من قبل فرنسا، من خلال كل بنك مركزي إقليمي يعمل لدى الخزانة الفرنسية.
أما الرابع فحرية تنقل رأس المال بين منطقتي الفرنك الإفريقي (البنك المركزي للكاميرون والدول الإفريقية الاستوائية والبنك المركزي لدول غرب إفريقيا) من جهة، وفرنسا من جهة أخرى، فيما المعيار لأخير تقاسم احتياطات النقد الأجنبي في كل اتحاد إقليمي.
وهكذا فإن الهيكل أو الكيان الذي تم إنشاؤه في إطار هذه المعايير، مكّن فرنسا من مواصلة نظامها الذي تم تأسيسه في الفترة الاستعمارية، وحافظ على مواقف التبعية للبلدان، وسهل وصول باريس إلى موارد المواد الخام المنخفضة السعر.
هذه الدول لا تستطيع بيع مواردها إلا عبر باريس
وبالتالي، كانت نقطة الانطلاق للمواد الخام في البلدان الإفريقية هي السوق الفرنسية، وفي هذا السياق، كانت النتيجة الواضحة لذلك، هو أن التخلف المستمر والتبعية كانا مصير البلدان الإفريقية.
لذلك، فإن أهم خطوة بالنسبة إلى بلدان المنطقة المعروفة باسم «إفريقيا الفرنسية»، هي تطبيق نظامها النقدي الوطني من خلال التخلص من العملات الاستعمارية.
لماذا تفضل استيراد اليورانيوم من إفريقيا الفرنسية بدلاً من استخراجه من مناجمها؟
تؤمن فرنسا 80% من إنتاجها للكهرباء من مفاعلات الطاقة النووية، ومواردها المحلية لا تكفي لتلبية احتياجاتها من اليورانيوم، كما أن استخراج الموجود منه يكلفها كثيراً.
لذلك فإن اعتماد فرنسا على اليورانيوم، والبلدان الإفريقية الغنية باحتياطات هذا العنصر، وصل مستويات خطيرة، ومن ثم فإن حاجة باريس إلى اليورانيوم، جعلت من ذلك النظام المذكور (الاستعمار الجديد) أمراً ملحاً وضرورياً.
وهكذا حولت باريس (خاصة بعد الحرب العالمية الثانية) استيراد اليورانيوم من المستعمرات الفرنسية إلى شكل مفيد بالنسبة إليها.
وأدت أزمة النفط عام 1973، إلى ظهور مشاريع محطات توليد الكهرباء، وبالتالي زاد الطلب على اليورانيوم، ومن ثم أنشأت الحكومة الفرنسية عام 1976، الشركة العامة للمواد النووية «COGEMA» في قسم الإنتاج بهيئة الطاقة الذرية «CEA»، وفي التسعينيات، وصل إنتاج اليورانيوم المحلي في فرنسا إلى 3 آلاف 720 طناً، وهو ما يلبي نصف الطلب المحلي.
لكن نظراً لتكلفة الإنتاج المحلي المرتفعة مقارنة بالأجنبي، أنشأت الشركة العامة للمواد النووية، شركة «أريفا» للطاقة النووية، في عملية تمت على مرحلتين امتدتا بين عامي 1983 ـ 2001، ودمجتها بالمؤسسات العامة الأخرى.
واليوم، لدى محطات الطاقة النووية الفرنسية طلب على اليورانيوم في حدود 1000 ـ 1200 طن، وهي كمية تتغير من عام إلى عام، وتقوم شركتا «أريفا» و «ويستنغهاوس» بتوفير حوالي 8000 طن من اليورانيوم الطبيعي كل عام.
أبرمت شركة كهرباء فرنسا «EDF» (أكبر مزود بالعالم) التي تدير مفاعلات الطاقة النووية بالبلاد، اتفاقات لتوريد اليورانيوم الطبيعي من أستراليا وكندا والنيجر وكازاخستان، تغطي حوالي 90% من احتياجات 58 محطة كهرباء فرنسية.
وفي السنوات الأخيرة، باتت كميات اليورانيوم التي تؤمنها «أريفا» تلبي حوالي 60% من احتياجات شركة الكهرباء المذكورة، 50% منها يتم الحصول عليها من مرافق شركة «أريفا» في النيجر.
لماذا تقول فرنسا إنها لم تعد تحتاج لإفريقيا بينما تفتح هذا المنجم الضخم؟
ويقول خبراء إنه حتى لو تم وقف الاحتياطي القادم من النيجر، فإن مخزونات «أريفا» كبيرة لدرجة تمكنها من تلبية الطلب على اليورانيوم، أي أن النيجر (مثل ناميبيا وجنوب إفريقيا) لم تعد مهمة بالنسبة إلى فرنسا كما كانت عليه من قبل.
إضافة إلى ذلك، أوقفت «أريفا» أنشطتها للتنقيب عن اليورانيوم في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 2012.
ورغم ما أشيع خلال السنوات الأخيرة بخصوص عدم أهمية النيجر لفرنسا، فإن «أريفا» بدأت تدشين منجم «إيمورارين» العملاق، ثالث مناجمها في هذا البلد على الساحل الإفريقي، ما يعني أن الأقاويل المذكورة يمكن قراءتها على أنها مجرد وسيلة ضغط تقوم بها باريس للظفر بحظوظ وفرص أفضل لدى حكومة نيامي.
لكن نظراً إلى السعر السوقي المنخفض لليورانيوم في النيجر، والظروف السياسية الدولية الصعبة، فإنه من الوارد أن تعيد شركة «أريفا» النظر في سياستها العامة بإفريقيا.
وختاماً، يتضح لنا بشكل جليّ أن الجماعة المالية الإفريقية «CFA»، قد سهلت لدولة ما (في إشارة إلى فرنسا) تطوير وتوسيع اقتصادها باستخدام مجموعة من البلدان الأخرى، كما شجعت هذه الجماعة على الفساد.
ويتضح كذلك مما سبق أن الفرنك الإفريقي ليس أداة تنمية، وأنه سبّب «ميزة نسبية» لمصلحة فرنسا، وبالتالي عند النظر إلى لمسألة بشكل كلي، يتضح لنا أن باريس التي تؤمن مدخلات عالية لاقتصادها، لا سيما فيما يخص اليورانيوم، تقوم عبر هذه السياسات باستنزاف اقتصادات البلدان التي تعرف باسم «إفريقيا الفرنسية»، وتحولها أشبه ما يكون بـ «الليمون بعد عصره».
وها هي المادة الخام لليورانيوم التي لها أهمية حيوية بالنسبة إلى فرنسا، تبرز قبالتنا كخير مثال على هذا الكلام.
(الكاتب كاان دوه جي أوغلو، خبير في الاقتصاد السياسي، والشؤون الإفريقية، لاسيما السودان، وهو يواصل أبحاثه في جمعية الدراسات الإفريقية «AFAM»)