لماذا تخشى إسرائيل السلام؟
مرت 71 سنة منذ أعلنت إسرائيل استقلالها، ولكنها لم تحقق بعد كامل سيادتها. فحدودها وإن كانت اعترفت بها الأسرة الدولية ولكن شعبها، مثل الدول العربية قبل حرب الاستقلال، لا يزال يرفض قبول مشروع التقسيم. فهي تحتل نحو 5 مليون نسمة، في الضفة وفي غزة، وضمت لنفسها مناطق لم تكن لها في هضبة الجولان وشرقي القدس، وسيطرتها في غزة مطلقة، مئات الآلاف من مواطنيها اليهود استوطنوا في أرض العدو وأقاموا فيها جريرة دولة، هويتها الوطنية تستمدها من صراع عنيف لا تبدو نهايته في الأفق، وقوانينها تعتمد على أيديولوجيا الجوع الإقليمي الذي لا يعرف الشبع.
أجيال من التلاميذ لا يعرفون كيف يرسمون خريطة الدولة. فهم لا يميزون بين كريات أربع وكريات جات. بين عوفرا والجديرة. بين شفاعمرو ونابلس. أجيال من التلاميذ لم يتعلموا ولن يتعلموا عن الكفاح الفلسطيني وعن النكبة. فقد اعتادوا على أن يشخصوا كل من ليس يهودياً كعدو. وعندما سيكبرون سيشيرون حتى إلى نحو نصف السكان اليهود كأعداء القومية والدولة. وهم لن يعرفوا ما هي «محبة الوطن» لأنهم ولدوا وتربوا في إطار ليس مكتملاً للدولة. وهم سيكونون مطالبين بأن يكونوا شهداء دين المناطق، الذي أصبح المعتقد الوحيد المسموح به، وباسمه يُقتل أطفال فلسطينيون ليس لأنهم يهددون أمن الدولة بل لأنهم يزعجون حلم الوعد الإلهي.
مع بداية العقد الثامن من حياتها كدولة مستقلة، لا تعرف إسرائيل ما هي الحرية. فهي حبيسة في حصار مزدوج، ذاك الذي يفرضه عليها سكان غزة والضفة وذاك الذي يسحق قيمها من الداخل. فتواجد الفلسطينيين على خريطة الخيال اليهودي يستوجب من الدولة أن تتمترس وتتسلح وأن تطور الرعب وتبرر القتل، وبالأساس ـ أن تمنع كل محاولة للوصول إلى تسوية سياسية، إلى السلام، لأن السلام عبوة ناسفة تهدد الحلم القومي.
السلام معناه ترسيم الحدود النهائية، التي تكتفي بمشروع تقسيم ما، وتقليص مجال السيادة غير القانونية والتنازل عن معظم المستنبتات القومية التي نمت بانفلات خلف الخط الأخضر. السلام هو فقدان العدو وتحطيم إحساس الحصار الخارجي الذي غذى وعي الشعب الملاحق وبلوره إلى أمة سبارتانية ـ أمة «ليس بعد» و «هكذا فقط»، «مستعدة لكل السيناريوهات»، أمة مستعدة دوماً «لأن تعيد إلى العصر الحجري» أعداءه.
ولكن الحصار الداخلي أخطر بكثير، فهو خادع مثل الأشباح، يزحف ويتسلل بلا وجه وشكل، ويكمن في كتب التعليم، ومشاريع قوانين عنصرية، في مواعظ شيطانية للحاخامين، في التصريحات المنفلتة للسياسيين، في بوستات الجهلة الذين تأكلهم الكراهية. هذا منتج يتخفى في شكل ثقافة، هوية يهودية ووعي قومي. وهو يجند إلى صفوفه متطوعين مخلصين وحماة أسوار يعثرون ويستهدفون من يتجرأ على اقتحامها. وهم يمشطون غرف المعلمين وقاعات المحاضرات، منظمات حقوق الإنسان، المسارح والمحاكم، كي يطهروها وينقونها من الخونة. أولئك هم حراس الثورة المسؤولين عن خلق وتطوير الهوية الإسرائيلية الجديدة. مهامتهم هي ضمان وحدة الرأي وطهارة القومية. لا تتشوشوا رجاء. فمواطنو إسرائيل ملزمون بأن يفرحوا في يوم الاستقلال، أن يرفعوا الأعلام، ويصطفوا في ميادين الترفيه، أن يضربوا بمطارق البلاستيك ويلوحوا وينشوا من فوق المناقل. هكذا يفعل الناس في دول مستقلة. يمكنهم حقاً أن يكونوا راضين عن أن دولتهم تجاوزت سن عدم اليقين. جيشها قوي، اقتصادها نامٍ، مواطنوها أكثر ثقافة من آبائها المؤسسين. قطاراتها رد مناسب على قطارات الكارثة، ورئيس الولايات المتحدة يغدق عليها من المذاقات أكثر مما يمكنها أن تهضمه. صحيح أن إسرائيل تعيش في إغلاق، يحرسها شرطة وعي، تتوق لهواء نقي ولكنها دولة مستقلة. مستقلة ـ وليست حرة.