لماذا تتجنب روسيا التورط «ولو من بعيد» في احتجاجات لبنان والعراق؟
في الوقت الذي تسعى فيه روسيا بزعامة فلاديمير بوتين توسيع رقعة نفوذها في الشرق الأوسط، فإنها تلتزم الصمت تقريباً تجاه الانتفاضة الشعبية في لبنان والعراق، فكيف يمكن تفسير الموقف الروسي من الأزمتين وهل الأمر مرتبط بأسباب إقليمية ودولية أم داخلية؟
موقع المونيتور الأمريكي تناول الموقف الروسي في تقرير بعنوان: «كيف ترى روسيا احتجاجات لبنان والعراق؟»، ألقى فيه الضوء على رد الفعل الروسي من الانتفاضتين وأسبابه.
صمت حذر ثم بيان بشأن لبنان
جذبت الاحتجاجات في لبنان انتباه المسؤولين الروس ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وأسقط كلا الفريقين هذه التطورات في الشرق الأوسط على واقع روسيا الداخلي بطرق عدة.
وربما كان هذا هو السبب في أن موسكو استغرقت بعض الوقت للإعلان عن رأيها بشأن تطورات الحراك في لبنان. ففي 5 نوفمبر/تشرين الثاني، التقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، وهو أيضاً المبعوث الخاص بالكرملين للشرق الأوسط وإفريقيا، بأمل أبو زيد، مستشار الرئيس اللبناني ميشال عون. وبعد لقائهما، أصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً قالت فيه إنها تعتبر أي محاولات خارجية للتدخل في الشؤون اللبنانية غير مقبولة.
وجاء في البيان: «شددت روسيا على دعمها لسيادة لبنان واستقلاله ووحدته واستقراره، وأكدت من جديد موقفها الصارم والثابت بأن جميع القضايا الرئيسية في الأجندة الوطنية يجب أن يعالجها الشعب اللبناني في إطارها القانوني، عبر حوار شامل في صالح السلام المدني والوفاق».
وتابع البيان: «تعتبر روسيا أي محاولات خارجية للتدخل في الشؤون اللبنانية أو تنفيذ سيناريوهات جيوسياسية باستغلال الصعوبات الحالية التي يواجهها لبنان الصديق وتصعيدها بصورة مصطنعة أمراً غير مقبول».
ويُذكر أن زيارة أبو زيد لروسيا جاءت في توقيت الاحتجاجات الشعبية في لبنان بالصدفة، ففي موسكو، مُنحت جائزة الدولة الروسية -وسام الصداقة الروسي- إلى المستشار اللبناني و15 من الرعايا الأجانب الآخرين. وتزامن الاحتفال مع يوم الوحدة الوطنية في روسيا، وهو يوم عطلة رسمية يُحتفل به في 4 نوفمبر.
وخلال حديثه في الحفل، سلط أبو زيد الضوء على الوضع في بلاده.
وقال أبو زيد مخاطباً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «نعتبرك مدافعاً ومخلِّصاً من السياسات قصيرة النظر للدول الغربية التي تسعى للقضاء على المجتمع المتنوع ومتعدد الأعراق في المنطقة عبر رعاية المتطرفين ودعم الجماعات الإرهابية فضلاً عن تثبيط الجهود الروسية لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم»، وختم حديثه بالقول: «إننا نقدر جهودك بشدة ونثق في أنها ستحقق السلام والاستقرار».
الحوار الشامل واحترام السيادة
وبخلاف بيان وزارة الخارجية، كان الرد الروسي الرسمي على الاحتجاجات في لبنان شديد الإيجاز. إذ أعادت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في تعليقها على استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، التأكيد على رسائل روسيا حول الحاجة إلى «التغلب على هذه الأزمة.. على أساس حوار شامل» وطالبت «القوى الخارجية» بـ»احترام سيادة واستقلال لبنان» احتراماً واضحاً وقاطعاً.
أما الرد الأكبر فجاء من قسطنين كوساتشيف، رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الاتحاد الفيدرالي الروسي. إذ قال السيناتور في منشوره على فيسبوك، إن استقالة الحريري «يمكن أن تشكل خطوة نحو تسوية سلمية للوضع». وأقر كوساتشيف بأن «مطالب المتظاهرين سياسية اجتماعية في جوهرها وتدور حول مجموعة من القضايا، وهو أمر ليس بالغريب في المنطقة»، وقال رجل السياسة: «وكما يقولون، وصل غضبهم إلى الذروة وفاض بهم ودفعهم للخروج فجأة».
رسائل مبطنة إلى واشنطن
وفي الوقت نفسه، تساءل كوساتشيف عما سيحدث إذا «تطورت الاحتجاجات السلمية إلى شيء على نطاق أوسع». وحذر في إشارة إلى بيان وزارة الخارجية الأمريكية، الذي، وفقاً لكوساتشيف، يدعم مطالب المحتجين اللبنانيين، من وجود «أولئك الذين يسعون إلى خلط الأوراق اللبنانية».
ومن الغريب أن كوساتشيف استشهد بقول زعيم حزب الله حسن نصر الله إن «ثمة بعض الأشخاص بين الناشطين في حراك الاحتجاج تربطهم علاقات بسفارات أجنبية وأجهزة مخابرات».
وختم كوساتشيف كلامه بالقول: «أنا مقتنع بأن جميع القوى اللبنانية المنضبطة وجيرانها وروسيا، التي تجمعها ببيروت علاقات ودية بحكم العادة، تسعى إلى تسوية سلمية للأزمة. وقد تكون استقالة سعد الحريري خطوة في هذا الاتجاه. دعونا ننتظر ونرى رد المتظاهرين.. ويعلم الجميع كيف تطور السيناريو البديل -أي العنيف- في البلدان المجاورة. وحتى الآن، لم يستفد أحد من ذلك باستثناء بعض الجهات الخارجية».
رفض التدخل الخارجي.. تحسباً
ويمكننا القول إن ردود المسؤولين الروس تشترك في أمر واحد: أن موسكو تعتبر مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية أمراً أساسياً في حل هذه الأزمة. إذ إن النظام الروسي يسقط أي حراك احتجاجي في الخارج على نفسه، مدفوعاً بالخوف من اندلاع احتجاجات مماثلة في الداخل.
وأصبحت الأوساط الليبرالية في موسكو تشعر بغيرة شديدة من اللبنانيين، في ظل انزعاج الكرملين الواضح من احتمال نشوب ثورات ملونة. إذ تناول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي الروسية بحماس التنازلات التي قدمتها الحكومة اللبنانية للمتظاهرين، ولا سيما خفض رواتب الوزراء الحاليين ونواب البرلمان بنسبة 50%.
بل وشارك موقع فيسبوك ومواقع الفكاهة مزحة حول صديقين روسيين يتحدثان عن الوضع في لبنان: وفيها يسأل أحدهما الآخر: «خرج مليونا لبناني إلى الشوارع في احتجاجات ضد الفساد. هل تعتقد أن الشيء نفسه يمكن أن يحدث في روسيا؟ فيجيب الآخر وهو يضحك: «بِربِّك، من أين تحصل روسيا على مليوني لبناني؟»».
لماذا لبنان وهونغ كونغ وليس العراق؟
وتجدر الإشارة إلى أن التظاهرات في هونغ كونغ ولبنان هي وحدها ما جذبت انتباه الروس في الأشهر الأخيرة من بين العديد من الاحتجاجات الأخرى التي تجتاح العالم. فحتى تحليل الوضع في العراق، الذي قاسى اضطرابات عنيفة لفترة أطول بكثير، اقتصر على الدوائر الأكاديمية. ولعل أحد أسباب ذلك هو أن الاحتجاجات في لبنان وهونغ كونغ ذات طابع ساخر وليست بعنف الموجودة في العراق التي قتل فيها حوالي 250 شخصاً.
بيان لا يحمل شيئاً بشأن العراق
أما الكرملين، فلا يكلف نفسه عناء التعليق على الوضع العراقي كذلك. فحتى أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لبغداد وسط الموجة الأولى من الاحتجاجات، تجنب الحديث عن الموضوع. وأصدرت وزارة الخارجية الروسية ردها الوحيد على مظاهرات الشوارع العراقية في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد شهر من الاحتجاجات التي اجتاحت البلاد. إذ جاء في البيان الذي صدر في أعقاب اجتماع موسكو بين بوغدانوف والسفير العراقي في روسيا حيدر منصور هادي: «يحث الجانب الروسي الأطراف السياسية العراقية الداخلية على ضبط النفس على خلفية المظاهرات الشعبية. ونحن أعربنا عن دعمنا الثابت لدعوات ضبط النفس والجهود التي تبذلها القيادة العراقية لحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد في أقرب وقت ممكن». ويرتبط هذا التحفظ بالرغبة القديمة نفسها في اتباع مبدأ عدم التدخل والامتناع عن الإدلاء بأي تصريحات قد يفسرها المسؤولون العراقيون على أنها أفعال.
وفيما يتعلق بلبنان، تجدر الإشارة إلى أن تصريحات روسيا لم تصدر إلا بعد استقالة الحريري، حين قررت الحكومة اللبنانية ما يجب القيام به من تلقاء نفسها. أما قبل ذلك فقد اكتفت روسيا بالتنبيه على مواطنيها الذين سافروا إلى بيروت باتخاذ الاحتياطات اللازمة أثناء إقامتهم في البلاد. وعلى أي حال، لا تزال شركة الطيران الروسية توفر رحلتين في الأسبوع إلى بيروت. وفضلاً عن ذلك، يوجد الآلاف من الروس المتزوجين من مواطنين لبنانيين يقيمون في البلاد، وتواصل الشركات الروسية عملها الميداني، ويواصل مئات الطلاب متابعة دوراتهم التدريبية الداخلية ودورات اللغة. أما عن نطاق التعاون الروسي العراقي، فهو أقل بكثير، وأولئك الذين يعملون هناك أصبحوا معتادين بالفعل على جميع الأخطار.