لماذا الاقتصادات الكبرى تنكمش بينما الصين تعود لوضع أفضل مما قبل الجائحة؟
يمثل نمو الاقتصاد الصيني في ظل جائحة كورونا حدثاً جديراً بالدراسة، لأن البلد قلب الوضع إلى أداء أفضل من فترة قبل الجائحة في بعض القطاعات.
ففي الوقت الذي تواجه فيه أغلب دول العالم قيود إغلاق جديدة وتسريح الموظفين نتيجة الوباء، تمكن اقتصاد ضخم واحد من استعادة توازنه بعد اقترابه من السيطرة بالكامل على فيروس كورونا المستجد، وهو الصين.
وأعلن المكتب الوطني للإحصاء في الصين، يوم الإثنين 18 يناير/كانون الثاني، في بكين أنَّ الاقتصاد الصيني ارتفع بنسبة 2.3% العام الماضي. وعلى النقيض من ذلك، من المتوقع أن تعاني الولايات المتحدة واليابان والعديد من الدول في أوروبا من انخفاضات حادة في الناتج الاقتصادي.
ما زال معدل النمو الصيني أبطأ معدل نمو سنوي للصين منذ عقود، ولكن الأداء جيد في ظل الجائحة، كما أن نمو الصادرات لافت.
والأهم أن الاقتصاد الصيني يتقدم للأمام بينما كان معظم العالم يكافح للحفاظ على التوازن في ظل الجائحة، وفقاً لما نقله موقع CNN عن فريدريك نيومان، الرئيس المشارك لأبحاث الاقتصاد الآسيوي في HSBC، في تقرير بحثي صدر يوم الإثنين:
وبفحص اقتصادات دول مجموعة العشرين في الربع الثالث من العام الماضي، نجد أن معدل النمو الاقتصادي في الصين 4.9% تليها تركيا 4.8% ثم 1.3% لكوريا الجنوبية، حسب تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية، بينما باقي اقتصادات مجموعة العشرين جاء النمو بالسالب (أي حدث انكماش حجم الاقتصاد)، حيث بلغ في إندونيسيا 3.5- %،
روسيا 3.6-%، ومنطقة اليورو 4.4 -%، والهند 7.5-%، والمكسيك 8.8 -%.
مقابل النمو الاقتصادي الصيني تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الاقتصاد الأمريكي انكمش بنسبة 3.6% خلال 2020 وتقلص اقتصاد منطقة اليورو بنسبة 7.4%، مما يساهم في تراجع الاقتصاد العالمي بنسبة 4.3% في عام 2020.
صورة معاكسة تماماً لما كان عليه الأمر قبل عام
وتبدو قوة الصين الاقتصادية هذه معاكسة تماماً لما كانت عليه قبل عام، عندما ظهر فيروس كورونا في مدينة ووهان بوسط الصين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
فمع توقف حركة السفر والأعمال تقريباً، انكمش الاقتصاد بنسبة 6.8% في الفترة من ينايرإلى مارس مقارنة بعام 2019، وهو أول انكماش يشهده منذ نصف قرن.
ومنذ ذلك الحين، تحسن الاقتصاد الصيني باطراد، وحقق نمواً بنسبة 6.5% في آخر 3 أشهر من العام الماضي مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. وفي حين أنَّ معدل الانتعاش لا يزال متفاوتاً، فإنَّ المصانع في جميع أنحاء الصين تعمل على قدمٍ وساق لتلبية الطلبات الخارجية، إلى جانب أنَّ الرافعات تعمل باستمرار في مواقع البناء، بعد طفرة في الصادرات والبنية التحتية التي من المتوقع أن تدفع عجلة الاقتصاد في العام المقبل.
وفي هذا السياق قال شو لينلين، ممول من شنغهاي في مجلس إدارة Huahong: “هذا هو الاقتصاد الرئيسي الوحيد الذي تعافى بسرعة من الوباء، ويمكنه إدارة أعماله كالمعتاد. لذا تتدفق طلبات من كل مكان إلى الصين”.
إن قدرة الصين على التوسع في الوقت الذي يكافح فيه العالم للسيطرة على فيروس قاتل أودى بحياة أكثر من مليوني شخص، يؤكد نجاح البلاد في ترويض فيروس كورونا إلى حد كبير داخل حدودها ويعزز مكانتها باعتبارها الاقتصاد المهيمن في آسيا، وفقاً لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
مواطن ضعف
بيد أنَّ المرونة الكلية لاقتصاد الصين تخفي مواطن ضعف.
وتتكاثر الوظائف المتوفرة لعمال الياقات الزرقاء (العمالة اليدوية)، لكنها تندر لخريجي الجامعات الجدد ذوي الخبرة القليلة. وحققت شركات الخدمات، مثل الفنادق والمطاعم، أداءً جيداً في أواخر العام الماضي في المدن الساحلية الكبرى مثل بكين وشنغهاي، لكنها لم تتعافَ تماماً في المقاطعات الداخلية في البر الرئيسي للصين.
وقد استفاد صانعو الإلكترونيات الاستهلاكية أو معدات الحماية الشخصية من الوباء، لكن المُصدَّرين إلى البلدان الفقيرة التي دمرها المرض لم يستفيدوا منه.
فعلى سبيل المثال تضررت أعمال شانغ شاوبو، صاحب مصنع أقنعة الهالووين في مدينة ييوو، في مارس/آذار الماضي بعد وفاة أحد كبار عملائه في الهند الذين يصدر لهم بفيروس كورونا المستجد، إلى جانب توقف العملاء الجدد من الأسواق الرئيسية في الهند وأمريكا الجنوبية عن القدوم إلى الصين للاطلاع على أحدث منتجاته.
واضطر شاوبو لتسريح جميع عمال المصنع العشرين باستثناء أربعة، وبدأ في الاستعداد لإغلاق متجره في سوق الجملة في ييوو.
واعترف الرئيس الصيني شي جين بينغ بالتحديات الاقتصادية في خطاب نشرته صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم Qiushi، يوم الجمعة 15 يناير/كانون الثاني.
وقال بينغ، في الخطاب الذي كان قد ألقاه في أغسطس/آب: “هناك تعديلات عميقة تطرأ على الاقتصاد الدولي والتكنولوجيا والثقافة والأمن والسياسة، وقد دخل العالم فترة من التغيير المضطرب. وخلال الفترة المقبلة، نواجه بيئة خارجية تزداد فيها الرياح المعاكسة والتيارات المضادة، ويجب أن نستعد للاستجابة لسلسلة من المخاطر والتحديات الجديدة”.
وقد تتفاقم هذه التحديات في الأسابيع المقبلة. فبالرغم من نجاح كبير في ترويض الفيروس، عانت الصين من سلسلة من الفاشيات الصغيرة في الآونة الأخيرة. وحشدت الحكومة جهودها بسرعة لمواجهتها، من خلال بناء المستشفيات، وفرض الاختبارات الجماعية ووضع ما لا يقل عن 28 مليون شخص تحت الإغلاق.
وبدأت السلطات في إعادة فرض مجموعة واسعة من الفحوصات الصحية التي تثني المستهلكين عن إنفاق الأموال. وحتى قبل الفاشيات الأخيرة، لم يشهد الجميع الانتعاش ذاته، ولم تتعافَ ثقة المستهلك بالكامل في العام الماضي. وتبيَّن أنَّ العائلات الصينية تلتزم الحذر الشديد في الإنفاق على الأشياء الباهظة، مثل مشاريع إعادة تصميم المنازل أو شراء أثاث جديد.
ومع تحقيق السيطرة بدرجة كبيرة على الفيروس، عادت الصين لأساليبها القديمة لتحفيز الاقتصاد.
ففي الوقت الذي كانت لا تزال فيه ووهان تحت الإغلاق، تحركت السلطات لإحياء التصنيع والتشغيل في مناطق أخرى. ووفرت حافلات المسافات الطويلة لإعادة العمال من قراهم إلى المصانع بعد رأس السنة الصينية الجديدة. وقدمت البنوك المملوكة للدولة قروضاً خاصة للمصانع، بينما أعادت العديد من الوكالات الحكومية أجزاء من الضرائب التي دفعتها الشركات قبل الوباء.
الصادرات تتقدم بشكل لافت رغم الحرب التجارية
كانت التجارة القوية عاملاً مهماً في النمو الصيني، إذ بلغ الفائض الإجمالي للصين لهذا العام مستوى قياسياً قدره 535 مليار دولار، بزيادة 27% عن عام 2019.
ومع أنها أكبر مُصنِّع في العالم بالفعل، وسَّعت الصين ريادتها الصناعية هذا العام. وعلى الرغم من الحرب التجارية والتعريفات الجمركية، لجأت الشركات الأمريكية والأوروبية إلى قطع الغيار والسلع الصينية، نظراً لأنَّ المصانع في دول أخرى كانت تعاني لتلبية الطلب. ولجأت المصانع داخل الصين إلى الموردين القريبين لاستبدال الواردات حيث أصبحت خطوط الإمداد العابرة للمحيطات أقل موثوقية.
وأشار محللون إلى أن البلاد استفادت من الكثير من الطلب على معدات الحماية والإلكترونيات حيث يعمل الناس في جميع أنحاء العالم من المنزل.
إذ حظيت علامة “صنع في الصين” بشعبية خاصة بين الأشخاص العالقين في منازلهم الذين انشغلوا بإعادة تصميم بيوتهم وتجديدها.
نمو الاقتصاد الصيني في ظل جائحة كورونا وصل إلى أن”الشركات توظف أي شخص تجده”
وفي مصنع Xingxing Refrigeration في مدينة تايتشو، لا يمكن للمديرين تعيين عمال بالسرعة الكافية لمواكبة الطلب القوي على صناديق التجميد للأشخاص الذين يرغبون في تخزين المزيد من الطعام أثناء عمليات الإغلاق المرتبطة بالوباء.
إلى جانب ذلك، ازداد قطاع الإلكترونيات الاستهلاكية في الصين قوة في الوقت الحالي، مع توفير فرص عمل كثيرة للعاملين من ذوي الياقات البيضاء والياقات الزرقاء، على حد سواء. فعندما لم يعد المديرون الأمريكيون قادرين على السفر إلى الصين في الربيع الماضي للإشراف على مشاريع التكنولوجيا، ارتفع الطلب على مديري مشاريع الإلكترونيات الموجودين بالفعل في الصين.
وفي هذا الصدد، قالت آنا كاترينا شيدليتسكي، الرئيسة التنفيذية لشركة Instrumental، وهي نظام مراقبة الجودة عن بُعد تستخدمه العلامات التجارية العالمية لتتبع وإدارة تصنيع الإلكترونيات: “كانت الشركات توظف أي شخص تجده”.
وعززت بكين أيضاً إنفاقها على البنية التحتية. وأضيفت خطوط قطارات فائقة السرعة جديدة بسرعة في العام الماضي إلى المدن الأصغر. وأُنشِئت طرق سريعة جديدة في المقاطعات الغربية النائية. ولجأت شركات المقاولات إلى تشغيل الأضواء الكاشفة في العديد من المواقع حتى يستمر العمل على مدار الساعة.
ويُعزى الكثير من النمو خلال العام الماضي إلى قطاعي الصادرات والبنية التحتية. فقد نمت صادرات الصين بنسبة 18.1% في ديسمبر/كانون الأول مقارنة بالشهر نفسه من العام السابق، وزادت بنسبة 21.1% في نوفمبر.
وارتفع الاستثمار في الأصول الثابتة في كل شيء، من خطوط القطارات فائقة السرعة إلى المباني السكنية الجديدة، بنسبة 2.9% العام الماضي.
ومن المتوقع أن يسهم كلا المجالين في تعزيز الاقتصاد في عام 2021.
خلق نمو الاقتصاد الصيني أجواء إيجابية لبعض الدول المجاورة، إذ إن زيادة الاستثمار الصيني في البنية التحتية والعقارات، على سبيل المثال، كانت بمثابة نعمة لدول مثل أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان التي صدَّرت الإمدادات إلى الصين.
وتوقعت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية الأسبوع الماضي أن ينمو اقتصاد البلاد بنسبة 7.8% هذا العام. وإذا حدث ذلك، فسيكون هذا أقوى أداءً للصين منذ تسع سنوات.