لأن كل حكاية فلسطينية تُكلَّل نهايتها بالموت أو السجن.. رواية “وارث الشواهد” تتذكر كنفاني وناجي العلي والأبطال المجهولين
كان اسمها “عين حوض”، وأصبحت “عين هود”.
أسسها أبو الهيجاء، أحد قادة صلاح الدين الأيوبي، قبيل عام 1187، وهي إحدى القرى الفلسطينية التي تعرَّض أهلها للتهجير بضغط المنظمات اليهودية عام 1948، وأقيم على أرضها فيما بعدُ مستوطنتا “عين هود”، و”نيرعتسيون” عام 1949.
لم تُهدم القرية ولم تتغير ملامحها المعمارية.
بل أُطلق عليها عام 1954 قرية الفنانين، وأصبحت موقعاً سياحياً هاماً فيما بعد. أصبحت أيضاً أول شواهد الكاتب “وليد الشرفا” في أحدث أعماله الروائية “وارث الشواهد” الصادرة عن الدار الأهلية للنشر عام 2017، والمرشحة ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية عام 2018.
صالح يحفظ حكايات جده في البيت وتاريخ فلسطين بالمدرسة
تبدأ أحداث الرواية من سجن “الدامون”، أحد السجون الإسرائيلية ببلدة “دالية الكرمل”. “صالح” أو “الوحيد” -مثلما يلقَّب- هو بطل أحداث الرواية. يروي لنا حكايته التي أدت به إلى السجن. بدأت حكايته مع بداية الاحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين ومقتل والده على يد المسلحين، ثم تهجير الأُسرة إلى مدينة نابلس.
يعيش “صالح” بين والدته وجده “سليمان الصالح”، الذي لم يكفَّ يوماً واحداً عن رواية تاريخ فلسطين على مسامع حفيده وتذكيره بأنهم هُجِّروا من قريتهم قسراً. يصف له ملامح البيت الذي خلّفوه وراءهم دون إرادة منهم، فيعيش “صالح” محاصَراً بالحكايات في المنزل، وبالمدرسة يذكّره أساتذته بحكاية والده الشهيد مدرِّس التاريخ الذي لقي حتفه وبين يديه أحد كتب التاريخ. يصبح “صالح” وارث الحكايات التي تحولت بمرور الزمن إلى شواهد على حق الفلسطينيين في الأرض وأحقيتهم بالعودة. ورث حكايات الجد عن الماضي، والحكايات التى عايشها بنفسه على أرض الواقع فيما بعد.
يتفهم وجهة نظر عرب 48 وموقفهم التاريخي
يسافر البطل إلى إحدى الدول الأوروبية لإتمام تعليمه الجامعي، لكنه يعود ليعالج جده في إحدى مستشفيات “حيفا” التابعة لحكم السلطات الإسرائيلية، بمساعدة صديقه بشارة.
“بشارة” طبيب فلسطيني من عرب 48 (يعيشون داخل الأراضي المحتلة ويحملون الجنسية الإسرائيلية)، رفضت عائلته الهجرة من “حيفا” ورضخت للحكم الإسرائيلي. لكنهم ظلوا عرباً لا تفارقهم هذه الكلمة. جاء الكاتب بهذا الصديق لا ليدافع عن موقف عرب 48، لكن ليشرح وجهة نظرهم وطبيعة حياتهم، وكيف تنظر الأجيال الجديدة منهم إلى هذا الموقف التاريخي.
يكتشف أن المحبة كلمة بلا معنى حين تفتقد العدالة
تجمع الصداقة بين “صالح وبشارة”، تلك الصداقة التى جعلت الطبيب المسيحي يعيد التفكير في حياته. حتى مبدأ المحبة الذي بنت عائلته موقفها على أساسه. ويكتشف من حكايات “صالح” عن الماضي والحاضر داخل الأراضي المحتلة أن المحبة تصبح كلمة بلا معنى حين تفتقد العدل؛ فمن الممكن أن نحبَّ من يختلفون معنا وعنا، لكن هل من العدل أن نتركهم يحتلون أرضنا ويزيفون التاريخ ويقتلون الحاضر والمستقبل باسم المحبة؟! ففي هذه الحالة، تتحول هذه الكلمة إلى مجرد ستار لأبشع الجرائم في حق الإنسانية؛ وهي الاحتلال.
يعثر على ميراث العائلة في حائط الملهى الليلي
يرحل الجد “سليمان الصالح”، وبعد انتهاء مراسم الدفن يعثر البطل على شاهدٍ من الحجر يحمل اسم ورقم منزلهم القديم في عين حوض، وقد أعيد استخدامه في بناء أحد حوائط الملاهي الليلية.. يقرر “صالح” نزع هذا الشاهد والعودة به؛ الأمر الذي يورِّطه في جريمة تؤدي به إلى السجن، وفي هذه اللحظة يتحول مجرى الأحداث حين يوصي صديقه الطبيب «بشارة» بأن يذكر حكايته ويرويها ويحمِّله أمانة كتابتها.
يتجول بين الحكايا الفلسطينية وأساطير الشهداء
طالما كره “صالح” الحكايات؛ لأن كل حكاية فلسطينية تكلَّل نهايتها بالموت أو السجن، لكنه حين تعرَّض للسجن تحوَّل إلى حكاية، ويطالب بروايتها وكتابتها أيضا؛ ليعبِّر الكاتب من خلال هذا المشهد عن أن تلك الحكايات من الماضي والحاضر على حد سواء، هي تاريخ حقيقي، وذاكرة لا بد أن نتناقلها جيلاً بعد جيل، لتصبح عصية على النسيان، فهذه الحكايات تتحول بمرور الزمن إلى هويتنا الحقيقية.
يتحول “بشارة” إلى وارث آخر للشواهد، بداية من حكاية صديقه التي عايشها أمام عينيه وحكايات الماضي التي أورثه إياها أيضاً؛ الأمر الذي يؤدى به إلى الإصرار على كتابة حكاية “الوحيد”، ومنها يدخل الكاتب إلى رواية جزء هام من تاريخ فلسطين حين يبحث “بشارة” في سيرة أهم المناضلين الفلسطينيين من الكُتاب والفنانين ومنهم (غسان كنفاني، ناجي العلي، وديع حداد، كمال ناصر) ويذكرهم الكاتب بين صفحات الرواية بالنص والتفاصيل.
ويكتشف حقيقة إسرائيل في محاكمة هزلية
تؤدي هذه الصحوة بالطبيب إلى المساءلة القانونية والتعرض للإقامة الجبرية على الرغم من أنه مواطن إسرائيلي؛ ليكشف الكاتب من خلالها عن عورات كيان طالما نادى بالمحبة والسلام وهو أبعد ما يكون عن ذلك.
بنهاية أحداث الرواية، يقف “صالح وبشارة” بقفص الاتهام في محكمة هزلية؛ فمغتصب الأرض يحاكم صاحب الحق، ولا يمتلك أصحاب الحق الماثلون في قفص الاتهام سوى الأمل في أن تقوم ابنة الطبيب بكتابة حكايتهم، ليعبّر الكاتب من خلال هذا الأمل عن أن الكتابة هي طوق نجاة حقهم التاريخي الأخير والوحيد.
تنتهي الرواية بمشهد يعكس أحداث التاريخ والحاضر معاً؛ فما زال الكيان الصهيوني يقتل ويُهجِّر، لكنه لا يعلم أن هذا التهجير لا يزيد تاريخنا سوى حكاية أخرى تثبت أن وجودنا حقيقة تاريخية يؤكدها الواقع.. ومع كل شهيد يُدفن في الأرض يزداد تشبُّثنا بها وتُثبت زيف ادعائهم وصدق تاريخنا حتى ولو لم يبقَ منا سوى الحكايات وشواهد القبور والمنازل، فكل إنسان يدين بدِين الإنسانية بكل معانيها العادلة والرحيمة هو وارث لتلك الشواهد.
رواية “وارث الشواهد”
عدد الصفحات: 159
الرواية متوافرة pdf
الكاتب: وليد الشرفا كاتب فلسطيني من مواليد فلسطين عام 1973. أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت بفلسطين. حاصل على دكتوراه عن أطروحته حول الخطاب عند إدوارد سعيد.
أصدر مسرحيته الأولى “محكمة الشعب” عام 1991.
أصدر روايته “القادم من القيامة” عام 2013.
تتركز اهتماماته على ثقافة الصورة والاستشراق.