كيف يمكن أن تبدو سوريا ما بعد الحرب؟
تهدد تركيا بمهاجمة سوريا للقضاء على المقاتلين الأكراد، وتدلف القوات السورية شيئاً فشيئاً باتجاه المنطقة التي ستتخلى القوات الأميركية عنها قريباً، وتقصف إسرائيل الميليشيات المدعومة من إيران في عمق سوريا، وقد يتحرَّك الروس قريباً لسحق آخر بقايا قوات المعارضة المناهضة للنظام السوري، ما يضع أكثر من علامة استفهام حول مستقبل سوريا ما بعد الحرب .
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، إن سوريا التي يغادرها الجيش الأميركي بناءً على أوامر الرئيس دونالد ترامب، تُعد نُسخة مُبلقَنة من البلد الذي سقط في حربٍ أهلية قبل قرابة ثماني سنوات.
فالآن مع انسحاب القوات الأميركية وزوال المعارضة المناهضة للرئيس بشار الأسد، ستصبح إيران وروسيا أكثر حريةً لاستعراض قوتهما في تحديد مستقبل سوريا ما بعد الحرب .
قال ريتشارد هاس، الذي عمل دبلوماسياً لفترة طويلة ويشغل الآن منصب رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وهو مركز بحثي أميركي، في تغريدةٍ على تويتر، الأربعاء 26 ديسمبر/كانون الأول: «مرحباً بشرق أوسط ما بعد الولايات المتحدة».
ونستعرض نظرة على تعقيدات الصراع السوري:
كيف يمكن أن يبدو مستقبل سوريا ما بعد الحرب ؟
بعد سنواتٍ من إراقة الدماء التي أطلقتها احتجاجات الربيع العربي، التي ألهمت الأمل في التغيير الديمقراطي، يتوقع محللو شؤون الشرق الأوسط أن يكون مستقبل سوريا ما بعد الحرب على الأرجح نسخة أكثر هشاشة بكثير مما كان قائماً قبل الحرب: الأسد يقود حكومة قمعية تتحكَّم بها روسيا وإيران.
ويُعَد كلا البلدين حليفاً منذ أمدٍ طويل للأسد، ورسَّخا مكانتهما تلك بعد إنقاذه بسلاح الجو الروسي والقوة البشرية الإيرانية.
إذ أرسلت إيران الشيعية، التي تتنافس مع القوى السُّنِّية التي تقودها السعودية على النفوذ في أرجاء المنطقة، عشرات الآلاف من المقاتلين الإيرانيين والوكلاء إلى سوريا. وشرعت في بناء أضرحة شيعية وترسيخ الميليشيات الشيعية التي تأمل أن تستخدمها كورقة ضغط ضد إسرائيل.
بينما تبسط روسيا، التي مارست بالفعل نفوذاً سياسياً كبيراً في سوريا، بدورها، سطوتها على السياسة الخارجية والجيش والأجهزة الأمنية السورية. ويُعَد هذا جزءاً من الثمن الذي حدَّدته موسكو مقابل حمايتها للأسد، المستبد الوحشي الذي وصفه قادة الغرب من قبل بأنَّه انتهى.
علامَ تحصل روسيا وإيران في المقابل؟
مع أنَّ روسيا وإيران قد تجدان البقاء في سوريا مُكلِّفاً وعديم الجدوى، ولا يحظى بالدعم داخل كلا البلدين، فإنَّهما حصلتا على ميزة من الصمود هناك إلى ما بعد انسحاب الولايات المتحدة، وهي النفوذ الإقليمي.
إذ يقول دانيال بنيامين، وهو زميل يُركِّز على الشرق الأوسط بمركز التقدم الأميركي ذي التوجهات الليبرالية في واشنطن، إنَّ هذا هو «السيناريو الحلم» بالنسبة لكلا البلدين.
ويضيف: «سيروون القصة التي دأبوا على روايتها لكل طرفٍ فاعل على الأرض –من أصدقاء أميركا وخصومها على حدٍّ سواء- بأنَّ الولايات المتحدة لم تعد شريكاً موثوقاً في الشرق الأوسط».
لِمَ كان الجنود الأميركيون في سوريا؟
نُشِر 2000 فردٍ من القوات الأميركية شمال شرقي سوريا، وتعاونوا مع القوات التي يقودها الأكراد للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، وطرده من المنطقة، لكنَّ هذه الشراكة أغضبت الجارة تركيا، التي تنظر إلى الأكراد الذين تُحرِّكهم الرغبة في الاستقلال باعتبارهم عدواً خطراً.
وما زال من غير الواضح كيف ستتواصل المعركة ضد داعش، أو إن كانت ستتواصل في الأساس. ويُعتقد أنَّ هناك 30 ألفاً من أتباع الدولة الإسلامية منتشرون في البلاد.
ويتوقع الكثير من الخبراء أن الانسحاب الأميركي السريع قد يتسبب في معركة كبيرة أخرى، إما مع تحرُّك تركيا للقضاء على خصومها الأكراد، وإما مع استعادة قوات الأسد السيطرة على الشمال الشرقي، أو كليهما.
ومن الممكن أن يصل الأكراد والأسد إلى اتفاقٍ أولاً. وإن لم يحدث هذا، قد تبعث جولة جديدة من القتال بموجاتٍ جديدة من اللاجئين –من الأكراد وغيرهم- تنزح باتجاه العراق ضمن جولة جديدة من الفوضى، يمكن أيضاً أن تساعد في تهيئة الأجواء لعودة داعش من جديد.
وقال آرون لود، وهو محلل متخصص في الشأن السوري وزميل مؤسسة القرنالبحثية الأميركية، إنَّ «خطر حدوث فوضى شاملة يُعَد أمراً محتملاً بالتأكيد، حين يختفي الشيء الذي كان يُبقي الوضع مستقراً في طرفة عين، ولا نقول إنَّ هذا الوضع كان جيداً أو سيئاً، لكنَّه كان مستقراً».
مَن سيحتل المنطقة التي يُخليها الأميركيون؟
وفقاً لمعهد دراسات الحرب، فإنَّ كلاً من روسيا وإيران والميليشيات المدعومة من إيران، بما في ذلك حزب الله اللبناني الشيعي، في موضعٍ يُمكِّنها من السيطرة على المنطقة التي تتخلى عنها الولايات المتحدة شمال شرقي سوريا.
وبحسب المعهد، فإنَّ هذه الأطراف تحتل بالفعل 29 موقعاً قريباً، بالإضافة إلى 7 مواقع أخرى على الجانب السوري من الحدود مع العراق.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يرصد الحرب السورية عبر شبكة من المراقبين المواطنين ومقره بريطانيا، الأحد 23 ديسمبر/كانون الأول، إنَّ النظام السوري أرسل آلاف المقاتلين باتجاه آخر مناطق سيطرة داعش شمال شرقي البلاد.
ماذا تبقّى من المعارضة التي اندلعت ضد الأسد؟
تتكدس آخر مجموعة كبيرة متحصنة من المعارضين للأسد في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، بجوار تركيا. وقد يساعد الروس قوات الأسد على استعادة المحافظة في نهاية المطاف.
لكن يُتوقَّع أيضاً أن تتفاوض روسيا أولاً مع تركيا، التي دعمت جماعات مناهضة للأسد، ولديها اهتمامٌ راسخ بما يحدث على طول حدودها مع سوريا.
كيف أثرت هذه التغييرات في إسرائيل؟
يقول محللون إنَّ إيران يمكنها الآن الربط بين شركائها الشيعة في العراق وسوريا ولبنان، في جبهة مُوحَّدة ضد إسرائيل. وتهدف إيران وحزب الله في تحديد مستقبل سورريا ما بعد الحرب إلى تعزيز وجودٍ عسكري لهما قرب هضبة الجولان، التي ضمَّتها إسرائيل بعد السيطرة عليها في حرب عام 1967.
وأوضحت إسرائيل أنَّها لن تتسامح مع تهديدٍ متنام مصدره سوريا، وهو ما أظهره الإسرائيليون، الثلاثاء الماضي 25 ديسمبر/كانون الأول، بشنِّهم ضربات جوية قرب دمشق.
وسمح الروس، الذين يتمتعون بعلاقاتٍ جيدة مع إسرائيل، لها ضمناً بشن عملياتٍ في الماضي. ومع ذلك احتج الكرملين يوم أمس على ما وصفه بـ «الانتهاك الجسيم» للسيادة السورية من جانب إسرائيل.
كيف تُغيِّر إيران سوريا؟
تواجه الشراكة الشيعية التي تقودها إيران في سوريا قصوراً أساسياً في تحديد مستقبل سوريا ما بعد الحرب ، يتمثَّل في وجود قِلّة شيعية في بلدٍ ذي غالبية سُنِّية. ومع ذلك، مدَّت إيران نفوذها بين المقاتلين والمدنيين السوريين.
ففي بعض مناطق سوريا، وزَّعت إيران أموالاً لتغطية تكاليف الإسكان للمُشرَّدين من جرَّاء الحرب، وفي مناطق أخرى أقامت أضرحةً شيعية جذبت زواراً من إيران والعراق وسوريا، بحسب المرصد السوري.
وفي تحدٍّ للعلمانية التاريخية التي تتسم بها الحكومة السورية، غمرت إيران وحزب الله أجزاء من البلاد بصبغة دينية لافتة. فعلى سبيل المثال كان من النادر في الماضي رؤية احتفالاتٍ بعاشوراء، وهي عطلة شيعية كبرى، في المناطق غير الشيعية في دمشق، لكن الآن باتت مواكب عاشوراء وطقوسها مرئيةً إلى حدٍّ أكبر بكثير.
فهل نجحت إيران في تغيير سلوك الجيش السوري؟
بات بعض الجنود في الجيش السوري المعروف تاريخياً بعلمانيته أكثر تديُّناً بعد الانضمام إلى الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وانتقل آخرون إلى مثل هذه الميليشيات لأسباب غير دينية.
فمقاتلو المجموعات المدعومة من إيران يحصلون على رواتب أعلى وعطلات أكثر من الجيش، ولا يعني الانضمام إلى ميليشيا شيعية بالضرورة التحوُّل إلى المذهب الشيعي، لكنَّ هذا يُمثِّل تغييراً ملحوظاً عن الأسلوب القديم.
وقال علي رزق، وهو محلل مقيم في بيروت يكتب عن الشأن الإيراني: «لم يعد (الجيش السوري) علمانياً بحتاً». وقال إنَّ إيران وحزب الله نشرا المعتقدات الشيعية في صفوف بعض القوات السورية.
وأضاف: «هذا أمرٌ يتماشى مع طبيعة البشر، ففي نهاية المطاف كانت هذه الوحدات تُنسِّق مع بعضها، وتقاتل إلى جانب بعضها».
هل الروس محل ترحاب في سوريا؟
رسَّخت روسيا علاقاتها مع القادة السوريين، وعزَّزت علاقاتها مع تركيا، وطغت كذلك على الولايات المتحدة، وباتت هي القوة التي ينبغي لواشنطن أن تتنافس معها في الشرق الأوسط، وليس العكس.
وأظهر الروس كذلك فهماً حاذِقاً للحساسيات السورية، ما يجعلهم مؤثرون في مستقبل سوريا ما بعد الحرب ، فعلى سبيل المثال، أرسلوا أفراد شرطة عسكريين قادمين من منطقة الشيشان الروسية ذات الغالبية السُّنِّية، كي يتفاوضوا على انسحاب المعارضة، والحفاظ على السلام في المناطق السُّنِّية التي استعادها طرف الأسد.
وفي أثناء زيارةٍ أجريتها إلى ضواحي دمشق الجنوبية التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة من قبل، رأيتُ ثلاثة من أفراد الشرطة العسكرية الروسية يسيرون في دورية على متن عربة مدرعة خضراء تحمل العلم الروسي. ورحَّب بهم السوريون باللغة العربية، وألقوا عليهم أحياناً التحية قائلين: «privyet»، أو «مرحباً» باللغة العربية.
ورحَّب الكثيرون بالروس، مُفضِّلين إياهم عن أفراد القوات الأمنية الحكومية أو رجال الميليشيات الشيعية المدعومين من إيران. إذ قال بعض أولئك الأشخاص الذين ما زالوا معارضين للنظام في المنطقة، إنَّهم اطمأنوا وأُثلِجَت صدورهم في الربيع، حين أظهر مقطع فيديو على موقع يوتيوب أفراداً من الشرطة العسكرية الروسية وهم يلقون القبض على جنود سوريين متهمين بالنهب.
وبعد ذلك في يونيو/حزيران، حين ألقى رجال ميليشيات شيعية القبض على رجلين سُنِّيين، ضغط الروس على الميليشيات لإطلاق سراحهم، بحسب السكان.
وأسهمت هاتان الحادثتان في إقناع السكان بأنَّ روسيا ليست لديها مصلحة في إثارة الاحتكاكات السُّنِّية-الشيعية، وأنَّها قد تتصدى لأي تحركات من قوات الأسد للثأر من المعارضة. إذ قال أحمد البقعة (55 عاماً)، وكان لديه 3 أبناء يقاتلون إلى جانب المعارضة: «إيران لديها مشروع طائفي، أمَّا روسيا، فلا تكترث لخلفيات الناس العرقية والدينية».
هل يمكن أن تختلف روسيا وإيران على مستقبل سوريا؟
قال محللون إنَّ إيران وروسيا بالفعل في حالة تنافس، إذ ترغب روسيا في حكومةٍ سورية تعتمد على نفسها وتتخلى عن المساعدة العسكرية والمالية الروسية، في حين تُفضِّل إيران وجود حكومةٍ أضعف.
وقال جوست هتلرمان، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية، إنَّ كلا البلدين بدآ بالفعل وضع مستشارين تابعين له داخل الأجهزة الأمنية السورية.
لكنَّ كليهما يواجه تحدياتٍ للبقاء والمساهمة في مستقبل سوريا ما بعد الحرب ، فلا يستطيع أيٌّ منهما تحمُّل تكاليف إعادة الإعمار السورية، التي قد تتجاوز 200 مليار دولار وفق بعض الحسابات.
وقال هتلرمان إنَّ الروس «يريدون في الأساس إيجاد مخرج من التدخُّل العسكري في سوريا، وترك قاعدتين صغيرتين وأتباعهم داخل الأجهزة الأمنية، وشركاتٍ روسية لتساعد في إعادة الإعمار. لا يريدون أن يصبحوا عالقين عسكرياً».
بينما تواجه الحكومة الإيرانية معارضةً في الداخل لمغامراتها العسكرية في سوريا، إذ أرهقت العقوبات الأميركية الاقتصاد الإيراني بشدة.
وقالت دانييل بليتكا، نائبة الرئيس الأولى للدراسات الخارجية والدفاعية بمعهد أميريكان إنتربرايز، وهو مركز أبحاث محافظ في واشنطن، إنَّ الإيرانيين مارسوا حتى الآن القوة بحذقٍ في سوريا، لكنَّ استمرارهم في فعل ذلك سيكون أصعب بكثير نظراً إلى الضائقات الاقتصادية التي يعانونها».
وقد يجد كلا الطرفين الراعيين للحكومة أنَّ إعادة إرساء استقرار مستقبل سوريا ما بعد الحرب في ظل وجود الأسد مهمة أصعب. إذ قال محللون إنَّ احتجاجات سلمية خرجت ضده بالفعل في بعض المناطق التي استعاد السيطرة عليها.
وقال ألكسندر بيك، وهو محاضر وباحث في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكينز، وكان يشرف على قضايا سوريا بمجلس الأمن القومي الأميركي إبَّان حكم إدارة الرئيس الأميركي السابق أوباما، متحدثاً عن الأسد: «سيطرح زمن السلم تحدياتٍ سمحت له الحرب بإخفائها. يدرك الروس تماماً أنَّ موقف الأسد ضعيف، وأنَّ الاقتصاد مُدمَّرٌ تماماً، وأنَّ الأمر فوضوي على الصعيد السياسي».