كيف يشكل الحزب الشيوعي وعي المسلمين ليضمن السيطرة عليهم؟
رصدت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أوضاع المسلمين في الصين عقب اللوائح الجديدة التي أصدرها الحزب الشيوعي الحاكم لممارسة الشعائر الدينية تحت أنظاره محكماً قبضته على المساجد والكنائس في ظل قلقه من الديانات السماوية.
وقالت المجلة الأمريكية إنه في مساء يوم جمعة، دوّى صوت الأذان في أرجاء ماميتشانغ جنوب غربي الصين، داعياً المصلين إلى المسجد القديم القريب من ميدان البلدة. يُرفع الأذان خمس مرات يومياً، ليجذب المسلمين الورعين عبر أرجاء الميدان، ويُرفع العلم الصيني ولافتة بارتفاع متر مكتوب عليها بالرموز الصينية التقليدية 愛國愛教، ومعاناها «أحبَّ بلدك، أحبَّ دينك».
بعد انقضاء الصلاة، يعود بعض من أولئك الرجال أدراجهم عبر أزقة ماميتشانغ الضيقة وسط متاهة من الجدران المبنية من الطوب اللبن تفضي في آخرها إلى فناء كبير تصطف فيه السيارات والدراجات النارية. هناك، تحت السماء الصافية وتحت علم الصين الجلي، يفرش الرجال ثلاث سجادات ذات لون أزرق ملكي يبلغ طول الواحدة منها ستة أمتار. ثم يخلع الاثنا عشر رجلاً والفتاة الصغيرة أحذيتهم ويولون وجوههم قبل الغرب باتجاه مكة. يقع «المسجد المنزلي» خاصتهم بجوار الفناء، وهو مبنى سكني ليست له معالم مميزة، وأبوابه موصدة بجنازير ومشمعة ومغلقة بشريط لاصق رسمي مكتوب عليه «مكتب الشؤون العرقية والدينية».
طائفة الهوي التي تأبى الرضوخ
ينتمي رواد المسجد المنزلي إلى طائفة إسلامية مختلفة، ولذلك فهم اختاروا العبادة منفصلين عن المسجد المسجل رسمياً المعتمد من الحكومة، والموجود في ميدان البلدة. في أواخر ديسمبر/كانون الأول، أغلقت الشرطة مسجدهم، وأمس وبعد مرور أسبوع على إغلاقه أجبر مسؤولون حكوميون ثمانية منهم على ممارسة عبادتهم في المسجد المسجل، وكذلك أجبروا المسجد على استقبالهم. والآن وقد أدوا واجبهم نحو الدولة، ها هم قدموا لتأدية واجبهم نحو الله، وها هي صلاتهم تبدأ من جديد. فقد أصبح الدمج بين حب الوطن وحب الدين أمراً معقداً بالنسبة إلى مسلمي قومية الهوي.
فالحزب الشيوعي الصيني يحدُّ من الحريات الدينية في أنحاء البلد؛ وذلك بعد إقامة معسكرات لإعادة تثقيف وتأهيل نحو مليون شخص من مسلمي قومية الإويغور في مقاطعة شينجيانغ، وإصدار تهديدات بهدم مسجد لمسلمي قومية الهوي في منطقة نينغشيا، وإغلاق الكنائس البروتستانتية المنزلية الكبيرة في كلٍّ من بكين، وتشنغدو، وكوانزو. هذا، وقد حققت الحملة علامة رسمية فارقة في يوم 5 يناير/كانون الثاني، عندما أطلقت الصين خطة خماسية لإضفاء الطابع الصيني على الإسلام، بحسب المجلة الأمريكية.
وجاء هذا الخبر بعد أسبوع من مداهمة الشرطة المساجد المنزلية في بلدة ماميتشانغ وبلدتين أخريين في الجزء الريفي من مقاطعة يونان وإغلاقها. هذا، وقد تسربت تسجيلات المداهمات العنيفة على صعيد دولي عبر موقع تويتر وغيره من منصات التواصل الاجتماعي. وقد كشفت مجموعة من المقابلات التي أجريت في ماميتشانغ وهويهويدنغ (Huihuideng)، حيث نُفذَّت المداهمات عن دولة تصرُّ على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وكذلك عن مُصليين منشطرين بين حبهم لله وحبهم لوطنهم.
العودة إلى الدين التقليدي
قال أحد المترددين على المسجد المنزلي رفض الإفصاح عن اسمه إنه «لا يجب أن يكون هناك تأثير صينيّ على الإسلام». ويؤيد هو وزملاؤه العودة إلى ممارسات الإسلام التقليدية قبل التأثير الأجنبي، وهم يعاتبون المسلمين الصينيين على الحياد عنها. (تتوافق كلماته مع الحركة السلفية، إلا أنه لم يستخدم هذا المصطلح بنفسه). وأردف قائلاً: «إن طقوس صلاتنا تختلف عن تلك المقامة في المسجد المسجل»، ولهذا كنا نلتقي لنصلي منفصلين طوال ثلاث عشرة سنة». يحتاج المواطنون في الصين إلى موافقة الدولة لممارسة الأنشطة الدينية. وقد طالب هؤلاء الرجال مرات عديدة بالحصول على موافقة رسمية للتجمع، ولكن لاقت طلباتهم تجاهلاً. وقال لي: «إنهم يريدوننا أن نصلي جميعاً سوياً من أجل الوحدة». مكتوب باللون الأحمر على الجدار الواقع خلفه الذي يتوجه إليه وقت الصلاة باتجاه مكة «حافظ جيداً على الوحدة العرقية، وعزز الاستقرار والتناغم الاجتماعي»، بحسب المجلة الأمريكية.
في الوقت نفسه، ينتاب الحزب القلق بشأن الطوائف الدينية. سألني يانغ يانهوي، وهو مواطن محلي، بنبرة واقعية: «أنت تعرف بشأن العراق وسوريا، أليس كذلك؟». وتابع: «لهذا السبب نشبت الحروب فيهما. فإن هذه الطائفة تهاجم تلك، وتلك تهاجم هذه»، وكان يركز نبرته في كلمة «تهاجم» أو (打). كان والد يانغ من قادة البلدة، وقد تحدث بنبرة سلطوية بعض الشيء قائلاً: «الحزب الشيوعي دائماً ما يأخذ تدابير احترازية حتى لا ينفلت زمام الأمور».
تتسم الصين بتاريخ ديني عنيف، ولم يكن المسلمون بمنأى عن ذلك العنف. فبعد مذبحة للمسلمين في عام 1856 وقعت وسط فوضى تمرد تايبينغ المتعلق بالمسيحية، شن المسلمون تمرد بانثاي ضد سلالة تشينغ الحاكمة، وأسسوا مملكة مستقلة في دالي بمقاطعة يونان انهارت بعد ذلك في عام 1872. وحديثاً، في عام 1975، استولى مسلمو قومية هوي في شاديان بمقاطعة يونان على ثكنات وترسانات عسكرية ردّاً على إغلاق الحكومة المساجد وحرقها للكتب الدينية. قال مسلمو قومية هوي إنهم كانوا يحمون حقوقهم الدستورية بوصفهم مواطنين صينيين، في حين اعتبر الحزب ما فعلوه حركة عسكرية انفصالية. تدخل الجيش الصيني وخلَّف بين مئات وآلاف القتلى من قومية هوي وراءه. ولكن، كانت حينها الردود الحكومية الرسمية ردود فعل أكثر من كونها ردود محسوبة.
ممارسة الدين على طريقة الحزب الشيوعي
أما الآن، فقد أصبحت الإجراءات الاحترازية التي يقوم بها الحزب أكثر اتساقاً ووضوحاً، وهي تأتي من أعلى القيادات. في عام 2016، ركز الرئيس الصيني شي جين بينغ على الحاجة إلى إضفاء طابع صيني على الديانات الرسمية الخمسة، وهي الإسلام، والكاثوليكية، والبروتستانتية، والبوذية، والطاوية، وذلك من أجل «إرشادها للتكيف مع المجتمع الاشتراكي». وفي المؤتمر الحزبي التاسع عشر الذي أقيم في عام 2017، أكد الرئيس الصيني نياته قائلاً: «سنطبق سياسة الحزب الرئيسية على الشؤون الدينية، وسنصر على إضفاء طابع صيني على الديانات في الصين، وسنقدم الإرشاد اللازم ليتعايش الدين مع الاشتراكية»، والرئيس يحقق تقدماً ملحوظاً في هذا، بحسب المجلة الأمريكية.
في شهر يناير/كانون الثاني، مررت الصين خطتها الخمسية لإضفاء الطابع الصيني على الإسلام في اجتماع مع ممثلين عن المؤسسات الإسلامية في ثماني مقاطعات ومناطق مختلفة. لم يُصرح إلا بتفاصيل قليلة عن الخطة، ولكن يبدو أن عمادها هو تغيير شكل التعاليم والتقاليد لتتناسب مع أهداف الحزب. هذا، وقد مُررت خطط مشابهة لإضفاء الطابع الصيني على البروتستانتية والكاثوليكية بالفعل، ومن المتوقع أن يجري تنفيذها عاجلاً. وفي مقاطعة شينجيانغ، أُدمجت الجهود المعادية للتدين في حملة قمعية إقليمية ضخمة، بما في ذلك اعتقالات جماعية للأقليات المسلمة.
وبحسب المجلة الأمريكية، قد عُززت قدرة الحزب الشيوعي على المضي قدماً في هذا الأمر بفضل عملية إعادة هيكلة ضخمة كُشف عنها في شهر مارس/آذار العام الماضي، أدت إلى تقوية نفوذه على أجهزة الدولة إلى حد كبير. فالشؤون الدينية التي كانت تُدار مسبقاً بشكل تعاوني بين إدارة الدولة للشؤون الدينية وبين إدارة عمل الجبهة المتحدة التابعة للحزب الشيوعي، أصبحت تدار الآن بواسطة الثانية فقط. بل وقد حُلَّت الإدارة الأولى تماماً، ما يعني أن المؤسسات الدينية تقدم تقاريرها الآن مباشرة إلى الحزب الشيوعي الصيني. وقد أكد يو كوان، رئيس الجبهة المتحدة، أنه: «لا بد من تأييد قيادة الحزب للشؤون الدينية».
قال يانغ هامساً: «إن الأمر يقلقنا بعض الشيء، فقط بعض الشيء»، مضيفاً: «السياسة حازمة جدّاً في شينجيانغ، ولكن في السنوات الثلاث الماضية أصبحت حازمة هنا أيضاً». كان أطفال قومية هوي يحضرون دروساً دينية في المسجد بعد المدرسة وفي العطلات الأسبوعية والإجازات. وأضاف أن «هذه السنة، منع الحزب الشيوعي تلك الدروس»، ذلك مع أن ولدين تحدثت معهما أخبراني بأنهما ما زالا يحضران تلك الدروس سرّاً. يبدو أن جميع المسلمين، وليس فقط رواد المساجد المنزلية، سيواجهون تحديات لتجنب التأثيرات الصينية في عبادتهم.
الإلحاد دين الدولة
إن معاداة الحزب الشيوعي لبعض المظاهر الدينية ليس بأمر مفاجئ، فهو قائم على الأيديولوجية الماركسية–اللينينية، وهي ملحدة رسمياً. ولكن الصين قد عرفت قبل ذلك أن المشاركة أو التطويع الإجباري في الشؤون الدينية أكثر جدوى من القمع. إلا أن التغيرات الجديدة الخاصة بإضفاء الطابع الصيني على الدين لا تتعلق بالقمع أكثر من تعلقها بالحد من التأثير الأجنبي.
ووفقاً لإيان جونسون، وهو كاتب مشارك في جريدة New York Times ومؤلف كتاب The Souls of China، فالحكومة تريد أن تحدَّ من الديانات الإبراهيمية المعترف بها رسميّاً في الصين، وهي الإسلام والمسيحية، لأنها تعتبرهما متأثرتين إلى حد كبير بالأفكار الأجنبية، ذلك مع أن الإسلام له تاريخ في الصين يمتد لأكثر من 1000 سنة، والمسيحية موجودة بشكل دائم فيها منذ أكثر من 400 سنة. ولهذا، أطلقت الصين لوائح جديدة في عام 2017 على المنظمات الدينية وأنشطتها، بما في ذلك منع صريح لإقامة أي أنشطة دينية غير مسجلة. ودائماً ما يجري تطبيق القوانين واللوائح الجديدة تدريجيّاً في الصين، وبالتالي فإن الإجراءات الصارمة الأخيرة هي تطبيق لتلك اللوائح التي أعلنت في عام 2017، بحسب المجلة الأمريكية.
ويختتم جونسون قائلاً: «لقد انتهى الافتتاح التجريبي»، وسيؤدي ذلك إلى مزيد من الصراع. وقال جونسون متحدثاً إلى مجلة Foreign Policy الأمريكية: «سيكون وجود الإسلام أكثر سلاماً، وسيكون محتضناً ومسيطراً عليه من قبل الدولة، كذلك سيكون هناك بحث عن تجارب دينية حقيقية أكثر في الكنائس غير الرسمية». إن استخدام الحكومة للقوة بهدف زيادة الاستقرار سيأتي بتأثير عكسي».
في بلدة ماميتشانغ، ينهي الرجال صلاتهم بجانب المسجد المنزلي المغلق بالجنازير مع غروب الشمس في السماء. أخبرني أحدهم في حين كان الآخرون يزيلون السجاجيد الزرقاء «لا نعلم ما سنفعل في المستقبل». لقد علقوا لافتة حمراء على الجدار خلفهم تحمل اقتباساً للرئيس الصيني شي جين بينغ مكتوبة بخط أبيض كبير «شعبنا لديه الإيمان، ودولتنا لديها القوة، ووطنيتنا لديها الأمل». قال الرجل بنبرة هادئة ولكنها مستسلمة: «إننا نحب وطننا»، مضيفاً: «لا نستطيع إلا التفكير في مشكلة واحدة في الوقت الواحد، وسنظل نلتقي في الخارج الآن، سننتظر ونرى ما سيحدث».