كيف وطدت روسيا علاقتها بدول الشرق الأوسط على حساب مصالح الولايات المتحدة؟
نهاية الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ورغبته في الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط والاعتماد على قوى إقليمية تلعب هذا الدور، برز الدور الروسي في المنطقة لملء هذا الفراغ.
روسيا الجديدة التي يريد رئيسها الحالي، فلاديمير بوتين، أن تبسط نفوذها على الشرق الأوسط ويوطد علاقتها مع دول مهمة في الشرق الأوسط، كانت -ولا تزال- حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية.
لماذا تلجأ الدول العربية إلى روسيا؟
ويرى حلفاء الولايات المتحدة العرب أن الدور الإقليمي الصاعد لروسيا يوفر وقاية مهمة من علاقاتهم مع الرئيس ترامب، الذي تحدث عن رغبته في الابتعاد ببلاده عن الشرق الأوسط، وضمن ذلك القرارُ الذي اتخذه في ديسمبر 2018، والقاضي بسحب القوات الأمريكية من سوريا.
يحرص بوتين على استغلال تصدع العلاقات بين واشنطن وحلفائها، إذ يحاول أن يصور موسكو وسيطاً قادراً على وضع كلتا قدميه على جانبي خطوط الصدع الجيوسياسية في المنطقة، وذلك حسبما يقول محللون.
يقول مارك كاتز، المتخصص بعلاقات روسيا في الشرق الأوسط: «إنهم على استعداد للعمل مع الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة واستغلال أي انقسام بينهم وبين الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته لا يكونون الطرف المسؤول في المقام الأول عن الأمن بالمنطقة بالطريقة نفسها التي كانت عليها الولايات المتحدة».
الحنين إلى عودة النفوذ
وتسعى موسكو إلى إعادة إحياء مركزها المفقود منذ زمن طويل بعد مرور 4 عقود من نجاح الولايات المتحدة في تهميش دور الاتحاد السوفييتي بالشرق الأوسط إلى حد كبير، لتصبح بذلك القوة الرائدة في المنطقة، وإذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه فقد تحل روسيا محل الولايات المتحدة قريباً، بحسب مقال لتشاك فريليتش الأكاديمي بجامعة هارفارد الأمريكية.
ويظهر نفوذ روسيا المتنامي عبر المنطقة من المغرب إلى إيران، ويُعد هذا التغير الملحوظ جزءاً من الاستراتيجية الشاملة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمتمثلة في استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى، وجاء هذا التحول نتيجة دبلوماسية محنكة مقترنة بالاستعداد لبيع الأسلحة ومفاعلات الطاقة النووية لكل من يرغب.
اضطلعت روسيا بدور متزايد الأهمية في اثنين من أخطر الموضوعات الأخرى التي تشهدها المنطقة، بالوقت الذي ينصب فيه الاهتمام الدولي على البرنامج النووي الإيراني، وهما: السباق المحموم للتسلح بالأسلحة التقليدية والتي وصلت قيمتها إلى 1.3 تريليون دولار من الأسلحة التي اشترتها دول الخليج وحدها بين عامي 2000 و2014، والاندفاع الهائل لشراء مفاعلات الطاقة النووية. وعلى الرغم من أن جميع برامج المفاعلات تعكس الاحتياجات المشروعة للطاقة، فإن للبرامج النووية «المدنية» في الشرق الأوسط نزعات سيئة للتحول إلى برامج عسكرية.
النفوذ الهام في سوريا
وحقق التدخل العسكري الروسي المحدود في سوريا، والذي ضم سربين فقط من المقاتلات الحربية، نجاحاً ملحوظاً؛ وهو ما أدى إلى إنقاذ نظام الأسد بلا تكلفة تقريباً لروسيا، وترك القتال البري الدموي لتخوضه إيران وحزب الله. وقد ثبت أن توقعات أوباما المثيرة للدهشة بأن سوريا ستصبح مثل فيتنام بالنسبة لروسيا لا أساس لها من الصحة.
أصبحت روسيا اللاعب الرئيس في سوريا اليوم، لضمان وجودها على المدى الطويل هناك، مع التزام سوري بمنحها قواعد جوية وبحرية، والتي تفرض من خلالها نفوذاً على المنطقة مدة 49 سنة أخرى. أصبحت سوريا ذات الأهمية الضئيلة في حد ذاتها للولايات المتحدة، نقطة محورية في أهم القضايا الإقليمية، وضمن ذلك المواجهة بين الشيعة والسُّنة، والحرب على داعش، والتوسع الإيراني، والصراع الإيراني-الإسرائيلي المحتمل. يعود موقف روسيا في سوريا بتأثير على الجميع.
العلاقة مع السعودية
ونتيجة لهذا التدخل، أسست موسكو علاقات اقتصادية قوية مع السعودية الحليف الاستراتيجي الهام للولايات المتحدة الأميركية، وزادت من حجم الصفقات التجارية مع قطر، وباعت أسلحة إلى الإمارات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. وفي مصر، أقام الكرملين علاقات وثيقة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وفي نوفمبر 2018، ظهرت الرغبة الروسية في التقارب الكبير مع السعودية، ففي الوقت الذي تجاهل فيه زعماء العالم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بسبب الحديث عن ضلوعه في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في أكتوبر 2018، صافح بوتين، محمد بن سلمان وضحكا معاً في قمة مجموعة العشرين المنعقدة بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، في إشارة إلى رغبة موسكو في أن تصير صديقة للدول العربية من دون توجيه انتقادات إلى سجلاتها المتعلقة بحقوق الإنسان، بحسب تقرير صحيفة”وول ستريت جورنال” الأمريكية.
ولم يكن توسع النفوذ الروسي في أي مكان أوضح مما هو عليه بالسعودية، التي كانت خصماً لها في حقبة الحرب الباردة وداعماً للمعارضة السورية المسلحة ضد نظام الأسد.
رفضت روسيا انتقاد السعودية حتى مع تسبب اغتيال خاشقجي، مطلع أكتوبر 2018، في اهتزاز التحالف المستمر عقوداً بين المملكة والولايات المتحدة. ألقى مجلس الشيوخ الأمريكي ودوائر الاستخبارات باللوم في اغتيال الصحفي السعودي على ولي العهد حتى بعد أن عبَّر الرئيس ترامب عن دعمه للأمير الشاب، الذي يعتبر الحاكم الفعلي للبلاد.
قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إن موسكو نظرت إلى جهود الرياض حول التحقيق في مقتل الصحفي «من جانب إيجابي»، حسبما أفادت وكالة الأنباء الروسية الحكومية “تاس”.
قال روبرت جوردن، السفير الأمريكي السابق لدى السعودية في حكومة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش: «أعتقد أن السعوديين ضاقوا ذرعاً بأن يُوجَّه إليهم النصح من الرؤساء والمُشرعين الأمريكيين حول حقوق الإنسان وحول بعض سياساتهم، والروس ظهروا أقل اهتماماً بذلك».
عندما علقت ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، في أغسطس 2018، على الخلاف الدبلوماسي بين السعودية وكندا بسبب اعتقال عدد من الحقوقيين والحقوقيات، قالت إن روسيا تدعو بقوة إلى «التزام حقوق الإنسان الدولية مع إيلاء العادات والتقاليد المحلية المحددة التي ترسخت في أي دولة منذ عهد طويل، الاهتمام الواجب». وأضافت أن موسكو تعتبر «تسييس قضايا حقوق الإنسان أمراً غير مقبول».
المصلحة المشتركة
ومما يدعم نمو العلاقة بين روسيا والسعودية أن كلا البلدين لديه مصلحة مشتركة في ضبط أسعار النفط بالعالم. واجه البلدان أزمة عندما انهارت أسعار النفط في 2014. وفي عام 2016 توصلا إلى اتفاقية لخفض الإنتاج، وهو ما جعل روسيا شريكاً أساسياً لمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) التي تهيمن عليها السعودية.
قال محمد اليحيى، وهو محلل سياسي سعودي، إن السعوديين ودول الخليج الأخرى عليهم التعامل مع الروس لتعزيز مصالحهم الاستراتيجية.
ويبدو أن العلاقات الاقتصادية تتوسع هي الأخرى. ففي عام 2015، أعلن صندوق الاستثمارات السعودي عن نيته استثمار 10 مليارات دولار في الاقتصاد الروسي من خلال شراكة مع الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة. وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا والسعودية إلى 915.2 مليون دولار في 2017، ليبلغ أكثر من ضعف حجمه في 2016، حسبما أفادت وسائل الإعلام الروسية الرسمية. كانت أغلب الصادرات الروسية إلى إلى السعودية زراعية، في حين شكلت منتجات الصناعات الكيماوية أغلب صادرات المملكة إلى روسيا.
عملية تحقيق التوازن
يبدو أن فرص موسكو في المنطقة لها حدود، إذ إن القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا تبقى جزءاً صغيراً إذا قورنت بنظيرتها الأمريكية، وهو ما يُصعِّب من قدرة موسكو حقاً على إزاحة دور واشنطن في الشرق الأوسط، هذا إذا لم يكن الأمر مستحيلاً، حسبما يشير مراقبون. يعود التحالف السعودي مع الولايات المتحدة إلى بدايات الحرب الباردة، والشراكة مع روسيا لم تُختبر بعد.
لكن الروس مشغولون بالقيام بما يمكنهم فعله لبسط نفوذهم وتعزيز مصالحهم من خلال العمل مع الحكومات في المنطقة. على سبيل المثال، عملت دولة قطر على تأسيس علاقاتها التجارية مع الكرملين في الأعوام الأخيرة، وهي علاقة صارت أهم بعد الأزمة الخليجية التي بسببها فرضت السعودية والإمارات ودول أخرى مجاورة، حصاراً اقتصادي على قطر في 2017.
ويملك صندوق قطر السيادي الآن حصة تصل إلى نحو 20% من شركة النفط الحكومية الروسية PAO Rosneft، ضمن اتفاق يعود إلى عام 2016 قدَّم للكرملين دعماً مالياً كان في حاجة إليه. وفي عام 2017، وقَّعت قطر وروسيا على اتفاقيات لاستكشاف سبل التعاون العسكري.
وفي الوقت ذاته، عملت قطر على الحفاظ على قوة تحالفها مع الولايات المتحدة، حتى بعد خروجها من منظمة أوبك هذا العام (2019)، في خطوة بدت أنها محاولة لإرضاء ترامب، الذي ينتقد المنظمة منذ عهد طويل. تستضيف قطر قاعدة عسكرية أمريكية كبيرة وتعتمد على الولايات المتحدة لحمايتها من جيرانها من الدول الأكبر.
تملك الدول العربية الآن في يدها عملية تحقيق التوازن المتعلقة بمحاولة مواصلة إرضاء موسكو وواشنطن. يقول كاتز: «ليس مثلما كان الحال في الحرب الباردة، عندما كان [لروسيا] حلفاؤها وكان لنا [حلفاؤنا] ولم يكن هناك سوى القليل على وفاق مع كلتيهما».
العلاقة مع مصر
أدى غضب مصر، بسبب ما اعتبرته الدعم الأمريكي غير الكافي لنظام مبارك، والعقوبات اللاحقة المفروضة على مبيعات الأسلحة، إلى تحسن كبير في علاقاتها مع روسيا، وإبرام اتفاق لإنشاء 4 مفاعلات نووية روسية في عام 2017، واستعادة العلاقات العسكرية، وضمن ذلك بيع عشرات من الطائرات الحربية المتقدمة وطائرات الهليكوبتر الهجومية، ومنظومة دفاع جوي صاروخية بعيدة المدى من طراز «إس 300» إلى جانب تنظيم مناورات عسكرية مشتركة جديدة.
كانت مصر محور السياسة الأمريكية في المنطقة منذ أن طردت السوفييت في أوائل السبعينيات، وقد وضعت مصر بذلك الأساس لثلاث ركائز، تعزز كل واحدة منها الأخرى، تقوم عليها السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط حتى يومنا هذا، وهي إقامة معسكر عربي معتدل وموالٍ للأمريكيين، يضم في قلبه مصر والمملكة العربية السعودية، والتصدي لقوى الشر الإقليمية مثل إيران خلال مساندة قوى الإصلاح المعتدلة، وأخيراً تعزيز السلام العربي-الإسرائيلي بدعم معتدل مرة أخرى. وقد شكل التقارب المصري-الروسي ضربة قاسية للوضع الأمريكي.
أما الآن فتعتبر العلاقات بين روسيا ومصر، على المستوى السياسي، جيدة، خاصة أن التعاون العسكري التقني يسهم في توطيدها. ومع بدء العمل على المنطقة الصناعية القريبة من بورسعيد، الشرقية، سيكون أمام البلدين فرص كبيرة لتحقيق التعاون الاقتصادي، ومن ثم توطيد العلاقات السياسية أكثر.
وسيتم خلق تكنولوجيا متطورة للصناعة النووية، التي بالإضافة إلى مساهمتها في إنتاج الكهرباء، ستساعد على خلق فرص عمل جديدة. وخلال نوفمبر سنة 2015، وقّعت القاهرة اتفاقاً حكومياً بشأن تشييد محطة للطاقة النووية مكونة من 4 وحدات، قدرة إنتاج كل واحدة منها 1200 ميجاواط.
وفي ماي/ 2018، وافق الجانب المصري على الحصول على قرض روسي بقيمة 25 مليار دولار، لبناء محطة بسعة إجمالية قدرها 4800 ميجاواط، علماً أن المدفوعات المصرية لروسيا ستستمر على مدار أكثر من 13 سنة، أي الفترة الممتدة بين سنة 2016 وسنة 2028، بمعدل 3% سنوياً.
من جهتها، تبحث مصر عن صيغة متقدمة من التعاون العسكري التقني مع روسيا على أساس اتفاقية التعاون العسكري لسنة 2014-2015، التي تتضمن عقوداً لشراء أسلحة تبلغ قيمتها أكثر من 3.5 مليار دولار، وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات ومقاتلات ومروحيات هجومية وأسلحة ومعدات عسكرية أخرى.
إيران والدور الروسي
دفع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني طهران إلى الاقتراب من روسيا، حليفتها القديمة. وتعول إيران على روسيا للمساعدة في دحر العقوبات الأمريكية ومنع أي إمكانية للقيام بعمل عسكري ضدها. وكانت روسيا قد زودت إيران بالفعل بصواريخ «إس-300″، ومبيعات من الطائرات المقاتلة والدبابات والمدفعية بعد انتهاء صلاحية القيود المفروضة من قِبل مجلس الأمن. زودت روسيا إيران بمفاعلها النووي الوحيد، وربما تبيع بضعة مفاعلات أخرى.
لقد ظلت تركيا، وهي شريكة مناهضة بشدة لروسيا في حلف شمال الأطلسي، عقوداً طويلة، تتملق لموسكو، ويبدو أنها تمضي قدماً في شراء صواريخ إس-400 رغم الاحتجاجات الشديدة لحلفائها في الناتو. المغرب، والبحرين، وقطر مهتمة أيضاً بصواريخ إس-400. وقعت روسيا صفقة أسلحة ضخمة مع الإمارات، وما زالت تستكشف إمكانية الحصول على قواعد بحرية في ليبيا. كما وقعت روسيا إتفاقية تعاون نووي مع تونس.
كما عرضت روسيا على لبنان صفقة أسلحة كبيرة، وهي مهتمة بإنشاء قواعد جوية وبحرية هناك أيضاً. لقد تعاونت روسيا علناً مع حزب الله في القتال بسوريا، وحزب الله نفسه أصبح لديه الآن أسلحة روسية، من المفترض أنه حصل عليها بشكل غير مباشر من سوريا و/ أو إيران «دون معرفة روسيا».
في الوقت نفسه، نجحت روسيا أيضاً في تطوير علاقة وثيقة مع إسرائيل. كان للانسحاب الأمريكي من سوريا ومن الاتفاق النووي أثر عملي في جعل روسيا لاعباً حاسماً لإسرائيل. وتتوقف احتمالات نشوب نزاع إسرائيلي مع إيران / حزب الله في سوريا، أو مع إيران حول برنامجها النووي، بشكل كبير على الدور الذي تلعبه روسيا. وقد زار رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو إلى الآن،، بوتين في موسكو عشر مرات خلال العامين الماضيين فقط.