كيف واجهة مديرة متحف في ألمانيا كراهية اليمين المتطرف؟
صعود تيار اليمين المتطرف في أوروبا ظاهرة مقلقة، لكنه في تلك المدينة الألمانية أمر مفزع وتذكرة مخيفة بالنازية، لذلك تعتبر تجربة مديرة أحد المتاحف في المدينة بالتواصل مع ذلك التيار وفتح حوار مباشر معه أمراً غير مألوف، فكيف كانت النتيجة؟
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: «كيف تواجه تيار اليمين المتطرف؟ متحف ألماني يواجه الكراهية بالحوار والفعاليات الاجتماعية»، ألقت فيه الضوء على القصة من جانب بطلتها مديرة المتحف.
لماذا كل هذه الكراهية في دريسدن؟
عندما توجهت هيلكا واغنر، وهي مديرة متحف، إلى افتتاح عمل فني عام جديد في ساحة السوق في دريسدن، كانت تتوقع تجمهراً ودوداً من محبي الثقافة، إلا أنها بدلاً من ذلك وجدت نفسها هي وزملاءها محاطين بمتظاهرين من متبني تيار أقصى اليمين ومعهم مكبرات صوت، ويشنعون منظمي العمل وفنانه السوري الألماني الأصل بوصفهم «خونة». تسترجع واغنر ما حدث قائلة: «لقد رجعنا إلى مكاتبنا وبدأنا في البكاء، فلم نكن نعرف ما ينبغي علينا فعله».
أهلًا بكم في الواقع المشحون للبرمجة الثقافية في دريسدن، المدينة التي مزقها تطرف تيار اليمين المتطرف، وقَدِمت واغنر إلى دريسدن في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2014 لإدارة متحف ألبرتينوم الذي يضم مجموعة من أعرق فنون الحقبة الرومانسية حتى الحقبة المعاصرة في أوروبا. وقبل وصولها بشهر، ظهرت في شوارع دريسدن حركة مضادة للإسلام تدعى بيغيدا، التي ازداد حجمها ومستوى تطرفها بوتيرة سريعة. وكان مجلس مدينة دريسدن أيضاً قد أعلن رسمياً في شهر نوفمبر/تشرين الثاني السابق «حالة الطوارئ ضد النازية».
وفي ظل المناخ السياسي المستقطب في الوقت الراهن، يواجه المنتجون الثقافيون خياراً صعباً؛ فهل ينبغي عليهم تبني النداءات المطالبة بالرجعية والمخاطرة بتطبيعها، أم مقاطعتها والمخاطرة بتعرضهم لمزيد من الإقصاء؟ يقدم النهج الذي اتبعته واغنر في متحف ألبرتينوم خياراً ثالثاً: دراسة حالة عن الطريقة التي يمكن أن تستخدمها المؤسسات الفنية لاستمالة العامة العدائيين مع الحفاظ على أفكارها.
كيف يمكن استمالة هؤلاء؟
عند تعيين واغنر على المتحف، بدأَت في تعزيز المشهد الفني المعاصر في دريسدن، وأصرت على التمسك بالاتجاه التعددي لمجموعات الفنون في متحف ألبرتينوم. وحسبما صرحت لصحيفة Die Welt فبعد فترة وجيزة من توليها الوظيفة، أرادت «توضيح أن ثقافتنا نتاج مزيج من الثقافات المختلفة».
ولكن خارج جدران متحف ألبرتينوم، كان لتيار اليمين المتطرف المتصاعد أفكار مختلفة كلياً. ومع تحول حركة بيغيدا من حشود المتقاعدين إلى جماعات من الشباب المرتدين للأسود من أنصار الهوية، كذلك انجرف حزب البديل من أجل ألمانيا من موقفه الأساسي المعارض لليورو إلى القومية الإثنية-الدينية الفجة.
رفض التعددية بكل أشكالها
وانطلاقاً من تركيز الحزب على الفنون وأثرها على المجتمع، كان الحزب يهاجم أي برنامج يدعم التعددية الثقافية بدعوى «هيمنة الثقافة الألمانية». وفي دريسدن تحديداً كان الحزب يكرس نفسه للإبقاء على الفن الألماني الكلاسيكي، والاعتراض على أي خطط «هامشية أو تدور حول الأقليات».
وما إن استقرت واغنر في الوظيفة، حتى ازدادت هتافات الشارع في دريسدن قتامة. وتتذكر تحديداً صيحات «فليغرقوا.. فليغرقوا!» التي كانت تدوي في شوارع المدينة أثناء تظاهر حركة بيغيدا اعتراضاً على عمليات إنقاذ اللاجئين في البحر، وقالت: «من البديهي أن يُصاب المرء بالإحباط في مثل هذا الموقف».
في سبتمبر/أيلول 2017، أخذت الحرب الثقافية منحى شخصياً، وكانت الشرارة مقالة رأي نُشرت في الصحيفة الإقليمية Sächsische Zeitung، التي انتقدت واغنر، الناشئة في ألمانيا الغربية، لعرضها الأعمال الفنية من ألمانيا الشرقية. وتؤكد واغنر أن المقالة طرحت أسئلة «مهمة وقديمة». بعد ثلاثة عقود من إعادة توحيد ألمانيا، كان هناك قرابة 98% من المناصب القيادية في الدولة يشغلها أشخاص نشأوا في ألمانيا الغربية سابقاً. وبالنسبة للكثيرين، فإن الانحياز المماثل للجانب الغربي يشوّه مسألة عرض تاريخ الفن الألماني.
وبالرغم من ذلك، فإن ما أثار دهشة واغنر هو مدى السرعة والضراوة التي استغل بها تيار اليمين المتطرف المقالة؛ فبعد مرور يومين على نشرها، تقدم أحد السياسيين المحليين من حزب «البديل من أجل ألمانيا» بطلبات للبرلمان للحصول على قائمة باللوحات المعروضة حالياً من ألمانيا الشرقية والغربية في متحف ألبرتينوم، إضافة إلى معلومات بشأن تعيين واغنر في الوظيفة وخططها لنشر البرنامج المعاصر للمتحف.
تخلل الأمر سيل من الرسائل البريدية والإلكترونية والمكالمات التي تحمل الكراهية الشديدة، والتي تدعو واغنر للرحيل في الحال، وبدأ الناس أيضاً في التعرف عليها في الشوارع ومواجهتها. تقول واغنر: «لقد كان هذا قدراً كبيراً من الكراهية والعدوانية أتلقاه في وقت واحد، ولم أكن أكاد أخرج من المنزل لمدة أسبوعين. لقد أصبت بالذعر الشديد».
عدم الاستسلام للكراهية
ورغم ذلك فإن واغنر متحفظة على التعميم؛ فهي لا تعتقد أن جميع من راسلوها كانوا من المتعاطفين مع تيار أقصى اليمين. ولكنها تلحظ أيضاً التقارب المقلق بين الدفاع عن الإرث الثقافي المحلي وأجندة حزب «البديل من أجل ألمانيا». وقالت: «من الواضح أن الحزب يستخدم هذا الأمر كأساس للاتجاه الشعوبي، فإنهم يسعون حثيثاً إلى تعميق هذا الانقسام بين ألمانيا الشرقية والغربية».
كان رد فعل واغنر في البداية يميل إلى الابتعاد، فهي تسترجع قائلة: «اعتقدتُ في بادئ الأمر أنه لا يمكنني البقاء في هذا المكان». ولكنها عوضاً عن ذلك التقطت هاتفها واتصلت بأحد مَن هاجموها، واستطردت قائلة: «أعتقد بصراحة أن هذا التصرف الأول كان بدافع الغضب؛ فقد كان به عنصر الأنا، تلك الرغبة في توضيح الأمور. ولكن النقاش كان إيجابياً للغاية، ولقد لاحظت كم كان مفيداً بالنسبة لي، وكذلك للشخص الآخر».
وبعد نيلها التشجيع، شرعت واغنر في الاتصال بكل من استهدفوها بالرسائل أو المكالمات المفعمة بالكراهية، والذين كانوا غالباً من الرجال. وتقول في هذا الأمر: «لا يوجد أي تمييز صريح على أساس الجنس في الأمر، ولكن من الأكيد أن هذا جزء من الموقف».
استمرت النقاشات في البرهنة على أنها بناءة، وكان الناس متفاجئين أنها تواصلت معهم، فتحدثوا، واستمعوا. ولقد كانت توجد خطوات إضافية للوصول إلى الفهم المتبادل. وأوضحت: «لم نتوصل بالضرورة إلى نقطة اتفاق، ولكن تسنى لنا توضيح نقاط سوء الفهم، كما أنني فهمت بعض الشكاوى بشكل أفضل».
كانت المؤسسات الفنية الأخرى تتبنى سياسة صارمة بغلق الأبواب في وجه تيار اليمين المتطرف؛ ففي لايبزيغ، استُبعد فنان متعاطف مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» من المعرض الفني السنوي، وفي برلين، أعلن مدير مسرح فردريشتد بلاست أن المصوتين للحزب غير مرحب بهم في المكان.
لكن في دريسدن حيث يتغلغل تيار اليمين المتطرف في جميع طبقات المجتمع، كانت واغنر ترى واجبات المؤسسة العامة بشكل مختلف، إذ قالت: «أعضاء حركة بيغيدا والمصوّتون لحزب البديل من أجل ألمانيا منتشرون في كل مكان هنا؛ فهم بين العائلات والزملاء وشبكة رعايانا. أين سنكون إذن إذا قررنا ببساطة أننا سنقاطعهم؟».
أطلقت واغنر سلسلة من الفعاليات الحوارية والاستراتيجيات في متحف ألبرتينوم. كانت الخطوة الأولى عبارة عن دعوة مفتوحة لمجموعة من الجلسات الحوارية، فوُضعت الطاولات الطويلة في البهو الرئيسي المفتوح في المتحف، تحيط بها صفوف المقاعد. وحضر الفعاليات ما يصل إلى 600 فرد، منهم أعضاء في حركة بيغيدا، وأيضاً أشخاص ممن هاجموا واغنر.
تقول واغنر: «كان الأمر بالغ الصعوبة في البداية؛ فكنا نَمُر بلحظات صياح، وصفع للأبواب، والكثير من المنازعات والاتهامات، إلا أن الأمر تطور ليأخذ اتجاهاً إيجابياً». علاوة على ذلك، وقف أحد الأشخاص الذين بعثوا لواغنر برسائل كراهية من قبل واعتذر منها، وقال آخر إن متحف ألبرتينوم صار يبعث على شعور أنه «غرفة معيشة منزلنا».
الحوار يمكن أن يحقق الكثير
كان الوصول إلى هذه الأجواء المنزلية أمراً مهماً بالنسبة لواغنر التي وضعت عنوان الجلسات «نحتاج للنقاش». وقالت: «لقد اكتشفتُ أنه من المهم ترسيخ هذا الشعور بوجود علاقة شخصية؛ فلقد كان لدينا مشاركون من شتى الشرائح الاجتماعية والسياسية، والذين يتبنون مجموعة واسعة من التوجهات، فكنا نعرف المزيد من بعضنا البعض».
ثم كان بعد ذلك الدور على استراتيجيات الإدارة. مثلها مثل العديد من الأماكن المنفتحة على تطرف تيار أقصى اليمين، فإن هوية مدينة دريسدن تآكلت بفعل الأحداث التي أدت إلى طمسها؛ نظراً لأن المدينة هي عاصمة ولاية ساكسونيا، فإنها كانت ذات يوم مركزاً تجارياً كبيراً مفعماً بحركة التجارة والفن المعماري الباروكي.
وفي فبراير/شباط 1945، تعرض 90% من مركز المدينة للدمار بسبب غارات قوات الحلفاء، مخلفة ما يصل إلى 25 ألف قتيل من السكان، أغلبهم من النساء والأطفال. وبعد فترة من البعث المعماري والصناعي تحت إشراف حكومة ألمانيا الشرقية، أدت إعادة التوحيد إلى خسارة دريسدن الكثير من عمالتها وأملاكها وشبابها لصالح الجانب الغربي.
تسعى واغنر إلى استرجاع فترات النشاط الفني من موجات الخسارة المتتابعة هذه، تحديداً المشهد التجريدي الحيوي لمدينة دريسدن بين الحربين. وقالت: «كانت ذروة نشاط كاندينسكي وموندريان وليسيتزكي في هذا المكان في عشرينيات القرن العشرين، وإنني أريد تذكير سكان دريسدن بهذا التاريخ الحديث، وتعزيز الانفتاح لديهم، والفخر بما حدث هنا».
اتضح خلال سلسلة النقاشات أيضاً أن جمهورها أراد مشاهدة المزيد من الصور من عهد ألمانيا الشرقية، إضافة إلى رسومات تصور الدمار اللاحق بالمدينة أثناء الحرب. ولقد كان هذا الأمر يُشكل معضلة: استغل حزب «البديل من أجل ألمانيا» الأمرين لاستثارة شعور دور الضحية في المدينة.
وكان حل واغنر لتلك المعضلة هو عدم رفض رغبات زوارها، ولكن في الوقت نفسه كانت ترد على كل رواية مقتضبة تنم عن لعب دور الضحية بالمزيد من الفوارق الدقيقة والسياق، وكانت اللوحات التي تصور الدمار الذي تعرضت له مدينة دريسدن تُعرض بجانب أعمال ماريا لاسنيغ ومارلين دوماس المناهضة للحرب، وأيضاً كان يوجد عمل لفولفغانغ تيلمانز يظهر الدمار الذي تعرضت له دريسدن إلى جانب ذلك الذي لحق بمدينة كوفنتري. وقالت: «لقد أردت التأكد من أننا لا نعزل هذه الأعمال، وأننا نعرضها جميعاً بالتساوي مع وجهات النظر الأخرى».
ولبَّت واغنر أيضاً الطلب بزيادة الفنون من ألمانيا الشرقية، ولكنها حيدت الخطاب الذكوري لحزب «البديل من أجل ألمانيا» من خلال التركيز على النساء من ذوات المهن في الدولة؛ فكان هناك معرض تديره سوزان ألتمان يعرض أعمال 36 فنانة من ألمانية الشرقية والولايات السوفييتية السابقة. وفي العام التالي، سيركز معرض على المثل العليا من ألمانيا الشرقية، مستعرضاً أوجه الولاء مع جنوب أفريقيا، وموزمبيق، والهند.
ولكن لا يقتنع الجميع بجهود واغنر؛ فقبيل أعياد الميلاد الماضية، تأثرت بسماع إنشاد اللاجئين والمهاجرين المجتمعين في بهو المتحف أغاني احتفالية. وأثناء مشاهدتها من صالة العرض في الأعلى، استنكر رجل ألماني قريب منها ذلك الغناء من أشخاص متعددي الأصول الإثنية قائلاً: «واأسفاه على ألمانيا».
لقد كانت هذه تذكرة محبطة بالتحديات التي تواجهها، ولكن واغنر لن تستسلم؛ فهذا بالنسبة لها هو التعريض الشخصي المقصود الذي قد يؤدي إلى تلاحم مجتمعي أفضل. قالت واغنر: «بالنظر إلى حقيقة كوننا متحفاً، فإن المكان هنا -من بين أماكن قليلة أخرى- لا يزال بالإمكان حدوث هذه المواجهات المباشرة فيه».
وتوجد أمارات على نجاح مثابرتها في الأمر؛ فإنها لم تتلق أي رسالة تنم عن الكراهية منذ شهر يناير/كانون الثاني، كما أنها قابلت أحد منتقديها في السابق مصادفة في الشارع، ونقلت عنه قائلة: «لقد أخبرني أنه يدين لي برسالة لطيفة».