كيف كان حال السودانيين خلال حكم عمر البشير؟
الرعب الذي عاشه السودانيون خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير منذ اعتلائه السلطة كان أحد أسبابه بيوت الأشباح في السودان وهي سجون خفية يصعب الوصول إليها، كان يحدث بها ما يشيب له الولدان.
فمنذ أن انقلب البشير بالتحالف مع زعيم الجبهة الإسلامية الدكتور حسن الترابي عام 1989 عبر انقلاب عسكري على النظام الديمقراطي القائم وقتها برئاسة رئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي، وأصبحت هذه البيوت هي إحدى دعائم قوة النظام.
فالحكايات المرعبة التي كان يتناقلها السودانيون كانت كفيلة بدرء الكثيرين عن معارضة النظام.
من أين جاءت تسمية بيوت الأشباح في السودان؟
في الأغلب لا أحد كان يعرف مكان ولا مصير نزلاء هذه المعتقلات.
فمهمة هذه المعتقلات هي إخفاء خصوم الإنقاذ من السياسيين وتعذيبهم دون مذكرات توقيف أو تقديم لمحاكمات في كثير من الأحيان، فيما لم يكن في مقدور أقارب الضحية معرفة مكان مفقودهم على عكس ما جرت عليه العادة في الفترة الأخيرة إذ بات جهاز الأمن يفصح عن خطوة الاعتقال عبر وسائل الإعلام الرسمية.
ويعتقد البعض أن مسمى بيوت الأشباح جاء انطلاقاً من ارتداء من يقومون بالتحقيق لأقنعة تخفي وجوههم حتى لا يتعرف الضحايا عليهم أو ربما لما اكتسبته تلك المعتقلات من سمعة سيئة، بحسب الإعلامي الطيب داوود.
ليست معتقلات عادية، والغريب أن أماكنها مازالت مجهولة
بيوت الأشباح هي عبارة عن مبان تقبع في مناطق سكنية يستغلها جهاز الأمن كأماكن لاحتجاز الناشطين السياسيين، حسبما يقول الطيب داؤود.
ظلت أماكن بيوت الأشباح ولاسيما في السنين الأولى من عمر نظام حكم الإنقاذ مخفية إلا من بعض الأحاديث المتداولة على ألسن العامة.
ونفى مدير جهاز أمن النظام السابق صلاح قوش وجود هذه البيوت.
وفي الوقت ذاته فإن أحاديث المواطنين عن هذه الأماكن لا تسندها روايات قاطعة.
فمن زاروها يقولون إنها تقع في مناطق متفرقة من العاصمة السودانية المثلثة، بينما يرجح البعض أن أكبر معتقلات الأمن السياسي يقبع في مدينة الخرطوم بحري.
ويقول الطيب داؤود: «إن هناك معتقلين لدى جهاز الأمن ظهروا مؤخراً بعد أن قبعوا في المعتقلات سنين عديدة عادوا إلى ذويهم بعدما أسقطت الثورة الشعبية حكم الرئيس البشير في أبريل/نيسان 2019».
ويوضح الصحفي المهتم بالشؤون السياسية أن العقوبات في تلك المعتقلات قد تصل حد منع الضحايا من رؤية الشمس لفترات طويلة كشكل من أشكال التعذيب.
مسدس في رأس رئيس الوزراء واعتقال للقائد والمفكر
رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي يقول في كتابه (الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة) إن صلاح قوش مدير الأمن والمخابرات السابق وضع مسدساً على رأسه وهدده بالقتل عندما اعتقله يوم سقوط حكومته كرئيس للوزراء في الديمقراطية الثالثة في 1989.
في ذلك الوقت كان المهدي هو أعلى رأس في البلاد قبل الانقلاب عليه.
وقال له قوش إما أن تصرح بأن الديمقراطية فاشلة أو أقتلك فرد عليه بالقول«الديمقراطية راجحة وعائدة « وكان ذلك التهديد مدعاة لأن يكتب الصادق المهدي كتابه الشهير (الديمقراطية في السودان راجحة وعائدة).
عراب الإسلاميين ونظام الإنقاذ الدكتور حسن الترابي لم يسلم هو الآخر من دخول تلك المعتقلات على يد تلاميذه حينما اختلفت الآراء بينه والرئيس المخلوع عمر البشير أو ما يعرف بـ المفاصلة في أواخر تسعينيات القرن الماضي ليتحول لخانة المعارضة قبل نقله إلى سجن كوبر الاتحادي.
تفضل هذا الغطاء خذه كهدية مني لأنني سأموت!
عربي بوست رصدت روايات عدد من المعارضين الذين اعتقلوا في هذه البيوت.
يوسف حسن أحد ضحايا بيوت الأشباح من معارضي حكم الإنقاذ نال صنوفاً من التعذيب، حسب قوله، تفاوتت من افتراش البلاط داخل زنزانة ضيقة إلى التخويف بحبل المشنقة حتى أنه في إحدى المرات سلم بطانيته (غطاء البرد) كان يضعها تحت رأسه لسجين آخر كهدية لأنه مفارق الحياة على حد تعبيره، وقاوم الرجل التعذيب النفسي والمعنوي بكل شجاعة لقناعته بموقفه السياسي.
ويروي محمود حسن الذي نال قسطاً من التعذيب منذ أيام وجوده في المدرسة الثانوية ولاتزال آثار التعذيب شاخصة على ظهره النحيل قصته مع الملثمين، مؤكداً أن حادثة اعتقاله كانت سبباً في تخليه عن المدرسة والانتقال إلى المدينة بحثاً عن ملاذ آمن.
فيما يصف الناشط السياسي عقيل أحمد ناعم تجربته مع تلك المعتقلات سيئة السمعة بالمؤلمة موضحاً أن مساحة الزنزانة ثلاثة أمتار في ثلاثة أو أقل.
وقال: «الزنزانة مع صغر مساحتها تضم بداخلها حماماً وبها باب من حديد سميك به فتحة في الأعلى حوالي (40*20 سم) مخصصة لإدخال الطعام.
مرارة السجن في هذا المعتقل مازالت تشكل «غصة في حلق» الشاب مهند عرابي الذي كان ضمن الموقوفين في معتقلات جهاز الأمن الشهير بمدينة بحري.
رفضوا السماح له بمقابلة والده الذي كان يحتضر
كلمات مهند وقسمات وجهه التي يكسوها الحزن تحكي حجم المأساة التي تعرض لها الشاب المتخرج لتوه من إحدى الجامعات السودانية إذ لم تسمح له السلطات الأمنية بزيارة والده الذي كان يعاني سكرات الموت إلى أن فارق الحياة رغم الرجاءات والطلبات التي تقدمت بها أسرته لجهاز الأمن.
ويقول مهند إن شباباً مثله سمحت لهم السلطات بمقابلة ذويهم في حين حرم هو حتى من الاتصال بأسرته إلا عندما اشتد المرض على والده سمح له الأمن بأن يدل أسرته على مكان العلاج فقط.
ويشير مهند إلى أن تركيز السلطات الأمنية في التحقيق معه كان منصباً حول معلومات عن نشاطه السياسي ومنظمات المجتمع المدني.
الشريف صديق الهندي القيادي بالحركة الاتحادية هو الآخر نال نصيبه من التعذيب في معتقلات جهاز الأمن المعروفة ببيوت الأشباح بمنطقة شرق الخرطوم، إذ كان الهندي معتقلاً بمعية قيادات كالراحل الدكتور عمر نور الدائم نائب رئيس حزب الأمة القومي الأسبق وآخرين من رموز القوى السياسية المعارضة لنظام حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، حيث مكث هناك نحو شهر مطلع تسعينيات القرن الماضي لكن لم تلن عزيمة الرجل بل ظل يعارض حكم الإنقاذ إلى أن سقط نظام حكم البشير.
تغير لون جلده في المعتقل
ثلاث مرات كانت حصيلة دخول علي يوسف الناشط السياسي إلى بيوت الأشباح في العشرية الأولى من سني حكم الرئيس المخلوع عمر البشير موضحاً أنه ظل لمدة ثلاثة أشهر لم يتعرض لأي سؤال إذ ظل يقبع بين جدران ضيقة لا تتجاوز مساحتها متراً ونصفاً مربعاً مع فردين آخرين ربطت أيديهم بالأصفاد يزداد ضغطه على اليد كلما تم تحريكها حيث تغير لون جسمه خلال فترة الاعتقال نتيجة لارتفاع درجات الحرارة.
وكان يستغل فرصة ذهابه إلى الحمام المحددة بخمس دقائق لأن يفتح صنبور المياه على رأسه لينهمر عليه الماء لإزالة ما علق بجسده من أوساخ فيما كانت وجبته الرئيسية الفول دون غيره.
وأطلق سراح يوسف بحسب روايته بعدها لكن عاد إلى الحبس للمرة الثانية بعد ستة أشهر وأمضى هذه المرة نحو نصف عام عانى عذاب الأمن فيها، حتى ابن أخته الذي جاء من بلاد الغربة باحثاً عن خاله الذي أبلغه ذووه بأن مكان اعتقاله غير معروف.
ويروي أنه في أحد أعياد الأضحى قدم لهم الجلادون الماء الساخن ورغيف الخبز بدلاً عن اللحوم التي اعتاد السودانيون على تناولها بكثافة في هذه المناسبة.
ويقول: «إنه كانت هناك 41 يوماً أخرى من الأذى النفسي أمضاها بين جدران منزل كان مخصصاً للمعتقلين، موضحاً أن المنزل كان مغلقاً بعناية فائقة من كل جوانبه بحيث لا يسمح بدخول الهواء إلا قليلاً ولا يتمتع فيه المعتقلون بالتحدث مع أحد ويظل المحبوس راقداً على الأرض دون حراك».
الإسلاميون يعترفون بالخطأ ويؤكدون أنها تراجعت بسبب صحوتهم
قال عبدالحميد عوض الكريم القانوني والقيادي في حزب المؤتمر الشعبي إن بيوت الأشباح كانت في بداية سني حكم الإنقاذ إلا أنها تراجعت في فترة من فترات الإنقاذ إثر صحوة بعض الإسلاميين أنفسهم.
ويقول «إن هذا التراجع جاء نظراً لوجود إسلاميين يؤيدون الحريات ومقارعة الفكر بالفكر والحجة بالحجة»، ولكن تلك الفترة لم تستمر طويلاً.
وأصبح الإسلاميون أنفسهم ضحايا لعمليات الاعتقال واضطهاد المعارضة.
عبدالحميد عوض الكريم قانوني وسياسي وأحد قيادات حزب المؤتمر الشعبي الذى كان يقوده الراحل الدكتور حسن الترابي يقول إن أي اعتقال أو حجز خارج دائرة القانون وفقاً للقانون الجنائي الذي ينظمه قانون الإجراءات الجنائية في السودان هو أمر مرفوض، ويضيف: «أخيراً أجيز قانون الأمن الوطني لعام 2010 وحدد أسس الاعتقال».
ويؤكد عبدالحميد أن بعض الحقوق منتهكة في السودان موضحاً أن أي حبس يجب أن يجرى وفق القانون وتوجه من خلاله تهم بعينها ويحق للمتهم الدفاع عن نفسه لكن قانون الأمن الذي يسمح بأن تمتد فترة الاعتقال لثلاثة أشهر وتجدد لثلاثة أشهر أخرى ينتهك مبادئ حقوق الإنسان ويحتوي بعض التناقضات لأن السودان مصادق على العهد الدولي الخاص واتفاقيات جنيف الأربع.
والبشير أقر بوجودها ولكنه تبرأ من مسؤوليتها
وكان الرئيس المخلوع قد اعترف في لقاء صحفي سابق بوجود بيوت الاشباح، لكنه حاول إلصاق فترة التعذيب القاسية التي جرت في بداية الانقلاب وحتى العام 1999 بشركائه السابقين من أعضاء الحركة الإسلامية من حزب المؤتمر الشعبي.
رغم أنه وفقاً لرواية المعارضين فإن التعذيب استمر حتى بعد أن تمت المفاصلة بين الإسلاميين.
غير أنه رغم كل هذه التغييرات التي مر بها السودان ظلت حقيقة بيوت الأشباح غير معروفة، وهي الظاهرة التي استفحلت في السنوات الكالحة التي شهدها السودان خلال فترة السنوات العشر التي كانوا هم في سدة الحكم ( 1989 – 1999).
وربما انتهى مؤخراً الحديث في الشارع السوداني عن وجود بيوت الأشباح لكن لم تنته روايات ضحاياها من معارضي النظام السابق، ولكن ما يقدم لهم بعض العزاء أن الثورة الشعبية حجمت نفوذ الأمن السياسي عما كان عليه في الماضي.