كيف ساعدت الأمم المتحدة نظام الأسد والروس على قصف المعارضة بإدلب؟
شاركت الأمم المتحدة طوال أشهر إحداثيات المواقع الجغرافية لمنشآت الرعاية الصحية في مناطق سيطرة المعارضة السورية مع الحكومة الروسية، كجزءٍ من برنامجها لفض النزاع في الحرب السورية. كان الهدف هو ضمان عدم استهداف روسيا وحلفائها السوريين لتلك المنشآت بالخطأ.
لكنَّ هذا النظام ليس ناجحاً. في الواقع، يبدو أنَّه يُحقِّق عكس هدفه الظاهري. فأثناء الهجوم الأخير للنظام السوري في إدلب، تعرضت نحو 46 منشأة مدنية للهجوم. وأفادت الجمعية الطبية السورية الأمريكية، وهي شريك محلي للأمم المتحدة في إدلب، بأنَّ 14 منشأة طبية على الأقل من بين تلك التي تعرَّضت للهجوم في إدلب كانت على قائمة الأمم المتحدة. وبعبارة أخرى، كانت الحكومتان الروسية والسورية تعلمان بالضبط مكان المنشآت حين قصفتاها.
قصف متعمد للمنشآت المدنية
وفي 30 يوليو/تموز الماضي، أَذِنَ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بفتح تحقيق بشأن الجهة التي قصفت المنشآت، خصوصاً تلك المنشآت التي يُفتَرَض أنَّها تحت حماية المنظمة الدولية. ويجب أن تدرس المنظمة التحقيق في ما إذا كان برنامجها لفض النزاع يُحقِّق أي أغراض مفيدة على الإطلاق بصيغته الحالية. وفي غضون ذلك، ستواصل روسيا وحلفاؤها الحصول على المعلومات من الأمم المتحدة بشأن أماكن تلك المنشآت.
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إنه لم تكن تلك هي المرة الأولى التي تُستهدَف فيها منشآت مُعرَّفة ومُحدَّدة. ففي مارس/وأبريل 2018، تعرَّضت 4 مستشفيات مماثلة للهجوم. قالت سوزانا سيركين، مديرة السياسة في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية مقرها الولايات المتحدة تتتبَّع الهجمات على البنية التحتية الطبية منذ بداية الحرب قبل ثماني سنوات، إنَّه من الواضح أنَّ النظام الذي تتبعه الأمم المتحدة ليس ناجحاً. وأضافت: «مع فشل تلك الآلية فشلاً ذريعاً، سيتعين على المرء أن يُشكِّك في الحكمة من مشاركة الإحداثيات مع أي طرف» .
ما تفعله الأمم المتحدة ليس ناجحاً بل مضراً
تقول أنشال فورا، مراسلة دويتشه فيله بالشرق الأوسط، إن بعض المنظمات على الأقل التي وافقت على مشاركة البيانات الحساسة مع نظام بشار الأسد السوري وحلفائه، بما في ذلك روسيا، كانت على وعي بالمخاطر، وأملت في استخدام أي انتهاكات نهائية كدليلٍ يُدعِّم قضيتهم. فقال أحمد الدبيس، وهو مسؤول لدى اتحاد منظمات الإغاثة والرعاية الطبية، وهو تحالف لمنظمات غير حكومية من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبلدان أخرى يساعد في إدارة منشآت الرعاية الصحية الخاضعة للمعارضة، إنَّ قرار مشاركة بياناتهم اتُّخِذ بعد دراسة صعبة للغاية.
وأضاف: «رُفِضَت فكرة مشاركة الإحداثيات تماماً في البداية عام 2015، لكن بعدما بدأ الروس والنظام في استهداف المنشآت الطبية في حلب الشرقية بصورة ممنهجة، أدرك الجميع أنَّ الروس والنظام بالفعل على علم بالمواقع بفضل الجواسيس. لذا فكَّرنا في أنَّنا يمكن أن نتشارك الإحداثيات واستخدام هذه المسألة كدليلٍ قانوني وأخللاقي أمام المحاكم والمنظمات الدولية لإثبات أنَّ النظام والروس استهدفوا المنشآت الطبية عمداً بعد حصولهم على إحداثياتها» .
استؤنف القصف القاسي على إدلب يوم 29 أبريل حينما حاول النظام وحلفاؤه الروس استعادة السيطرة على آخر معاقل المعارضة. ولم يكن أمام المدنيين والنشطاء من خيار إلا الأمل في تدخُّل المجتمع الدولي لإنقاذهم. لكنَّ هذا لم يحدث. وبذلك كان قرار مشاركة بيانات مواقع منشآتهم الطبية مع روسيا عبر الأمم المتحدة جزءاً من استراتيجية وُلِدَت من رحم اليأس: المخاطرة بالتعرُّض للقصف، لكن على الأقل مع كشف المعتدين.
كارثة إنسانية تتكشف
وبينما شكَّكت سوزانا سيركين في نسبة نجاح نظام فض النزاع، فإنَّها وصفت قرار الأطراف المحلية باعتبار أنه «مُوجِع» و «تدبير يائس تماماً».
وأضافت: «انطباعي هو أنَّهم أرادوا أن يتمكَّنوا من الإظهار للعالم أنَّ الحكومتين الروسية والسورية ستواصلان القصف بشكلٍ صارخ، حتى بعد منحهما تلك المواقع، في انتهاكٍ للقانون الدولي» .
ربما نجحت الاستراتيجية إلى حد أنَّها ركَّزت انتباه مجلس الأمن الدولي على كارثة إنسانية بدأت تتكشَّف بصورة مطردة. لكن لم يوافق جميع المتضررين على تلك الاستراتيجية عن طيب خاطر. فقال ياسر الصمم، وهو جرَّاح بمستشفى معرة النعمان المركزي، إنَّه كان متردداً في تسليم الإحداثيات، لأنَّ ذلك يزيد فرص التعرُّض للهجوم. لكنَّه أذعن بعدما حصل على طمأنات بأنَّ المستشفى محميّ. وأضاف: «حصلنا على ضمانات بأنَّ المستشفى لن يُستهدَف. لكنَّه استُهدِف، لطالما علمتُ أنَّ ذلك كان خطأً» .
ويوافق الآن بعض أبرز المؤيدين الدوليين لبرنامج فض النزاع على أنَّ البرنامج يفشل. فقال مارك لوكوك، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية والإغاثة في حالات الطوارئ، وهو الجهة المشرفة على كل تفاهمات فض النزاع، أمام مجلس الأمن إنَّ النظام فشل.
وقال الشهر الماضي: «خلُصتُ إلى استنتاج بأنَّ نظام فض النزاع ليس فعالاً في ظل البيئة الحالية» . وحتى يان إيغلاند، مفاوض الأمم المتحدة الإنساني السابق في سوريا والذي اضطلع بدورٍ حاسم في تأسيس حضور المنظمة هناك، صرَّح لمجلة Foreign Policy الأمريكية بأنَّ الهجمات في إدلب أثارت قلقه. وقال: «ما يقلقني الآن هو أنَّ عدداً أكبر بكثير من مستشفيات (نظام) فض النزاع استُهدِفَت في إدلب، وهذا قد يشير إلى أنَّه لم يعد يُوفِّر حماية فعَّالة. وهذا أمر مثير، ليس فقط في سوريا، بل في مناطق أخرى. إنَّنا ننجح أو نفشل في الصراعات من خلال قدرتنا على الحصول على الحماية باعتبارنا محايدين ومستقلين» .
هل ينتبه العالم للمعاناة هذه؟
ويأمل الآن الكثير من الأطباء والنشطاء المحليون الذين شاركوا المواقع الدقيقة لمستشفياتهم وعياداتهم استغلال سمعة الأمم المتحدة لتسليط الضوء على جرائم النظام السوري. ويقولون إنَّ تحقيق الأمين العام للأمم المتحدة وفَّر فرصة، وإنت كانت فرصة غير محتملة، لجعل العالم ينتبه إلى معاناتهم. ويأملون أن تضمن النتائج في نهاية المطاف محاسبة الجناة لانتهاكهم القانون الدولي.
من جانبه، ينفي النظام السوري وحلفاؤه استخدام بيانات الأمم المتحدة في هجماتهم. وادَّعى بشار الجعفري، مبعوث الحكومة السورية لدى الأمم المتحدة، في خطابٍ إلى المنظمة الدولية الشهر الماضي، أنَّ كل منشآت الرعاية الصحية في محافظة إدلب تُدار من جانب «المجموعات الإرهابية» وكانت «غير صالحة للعمل» .
لكنَّ الخطاب سمَّى أربع منشآت منها فقط: مستشفى معرة النعمان المركزي، ومستشفى ابن سينا، ومستشفى إدلب الوطني، ومستشفى جسر الشغور. واعتُبِرَت رسالة المبعوث السوري اعترافاً بأنَّ ضرب المستشفيات «غير الصالحة للعمل» الموجودة في قبضة المسلحين أمرٌ مُبرَّر.
رفضت الأطراف الفاعلة المحلية هذين التأكيدين. ووفقاً للجمعية الطبية السورية الأمريكية، فإنَّ كل تلك المستشفيات الأربعة كانت مُدرَجة على قائمة فض النزاع التابع للأمم المتحدة، وأنَّها كلها كانت نشطة وتؤدي حصراً أنشطة إنسانية.
وصرَّح باسل ترمانيني، نائب رئيس الجمعية الطبية السورية الأمريكية السابق، لمجلة Foreign Policy بأنَّ منظمته دعمت مستشفيي معرة النعمان وابن سينا مباشرةً ورفضت ادعاءات الحكومة بأنَّ الإرهابيين يسيطرون عليهما.
وقال: «لدى الجمعية الطبية السورية الأمريكية قواعد صارمة. فلا نسمح بوجود أي أسلحة داخل منشآتنا، ولا نسمح بتدخُّل أي مجموعة عسكرية في عملياتنا. وفي حالات قليلة حاولت فيها مجموعة مسلحة التدخُّل في عملياتنا اليومية في منشآت معينة، علَّقنا العمل في تلك المنشآت وهدَّدنا بتعليق كافة عملياتنا شمال غربي سوريا» . وقال صفوت خان شيخوني، أمين سر مديرية الصحة في إدلب، إنَّ مستشفى إدلب الوطني تعرَّض للهجوم مرتين، لكنَّه استأنف عملياته بعدئذ. وأضاف: «إنَّه مُدار بالكامل من جانبنا وليس خاضعاً لنفوذ أي مجموعات مسلحة» .
هل ستفعل الأمم المتحدة شيئاً بهذه الأدلة الدامغة؟
السؤال الآن هو ماذا يمكن للأمم المتحدة أن تفعل بالأدلة المتعلقة بإساءة استغلال روسيا والنظام السوري لبرنامج فض النزاع. يعي النشطاء أنَّ يدي الأمم المتحدة مُقيَّدتان في مجلس الأمن بسبب سلطة استخدام حق النقض (الفيتو) من جانب روسيا، لكنَّهم مع ذلك يأملون فعل شيءٍ أكبر لمحاسبة دمشق وموسكو على جرائمهما.
فقالت سوزانا، المسؤولة بمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، إنَّه من الضروري نشر نتائج تحقيق الأمم المتحدة. وقال إيغلاند، المبعوث الأممي السابق، إنَّه في حين قد لا تتمكَّن المنظمة من تقديم قضايا ضد الجناة أمام المحاكم، فإنَّه يمكنها ويجب عليها أن تستغل الفرصة لتحديدهم بالاسم وفضحهم.
ويعتقد ترمانيني أنَّه يمكن، وفي نهاية المطاف سيتم، عمل المزيد. وقال إنَّه ينبغي تسليم تقرير الأمم المتحدة إلى الآلية الدولية المحايدة والمستقلة الخاصة بسوريا، والتي تساعد في التحقيق في جرائم حرب أخرى في سوريا، بما في ذلك الإخفاءات القسرية والتعذيب والإعدامات خارج نطاق القضاء. وقال إنَّه يمكن مطالبة الهيئة بإعداد قضايا قانونية من أجل الملاحقات القضائية في المستقبل.
ويبدو أنَّ الجهات الإنسانية الفاعلة مستعدة لتجاوز العقبات الضرورية لمحاولة فضح روسيا والنظام السوري. لكن للأسف، هناك الكثير من الأسباب التي تدفع للاعتقاد بأنَّ هذا الفضح لن يكون له أثر كبير على الأسد وفلاديمير بوتين.