كيف توظف الصين سياسة “الطفل الواحد” لإفناء الإيجور؟
سياسة الطفل الواحد التي اعتمدتها الصين منذ عقود كانت تهدف إلى التنمية وتقليل معدلات الفقر بين السكان، لكن استمرارها الآن في ظل كون بكين تمتلك ثاني أقوى اقتصادات العالم يطرح تساؤلات حول الهدف الحقيقي، أما ما يحدث بحق أقلية الإيجور المسلمة فيصفه بعض المختصين بالإبادة الجماعية، فما القصة؟
مجلة The Atlantic الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “سياسة الصين حيال شينجيانغ: محورها المزيد من السيطرة والتحكم أكثر من كونه تقليل عدد السكان”، ألقى الضوء على مستجدات سياسة الطفل الواحد، وبصفة خاصة في إقليم شينجيانج حيث أقلية الإيجور المسلمة.
متى ولماذا أقرت بكين تلك السياسة؟
لسنوات، عندما كان أي أحد يتحدث أو يناقش التقارير الواردة عن سياسة الطفل الواحد في الصين، كان بعض الناس من ذوي النوايا الحسنة يسألون حتماً السؤال المتوقع: “بالطبع الإجهاض والتعقيم القسري أشياء سيئة، ومع ذلك أليست سياسة الطفل الواحد جيدةً، من بعض النواحي. ألا تساعد في انتشال ملايين من الناس من الفقر؟”.
لطالما كانت هذه رواية الحزب الشيوعي الصيني، إذ زعمت الصين أن سياسة الطفل الواحد كانت خطوة صعبة، إلا أنها كانت ضرورية وحاسمة في تقدم البلاد، وفي عام 1979، أصر دينغ شياو بينغ، القائد الأعلى للصين آنذاك، على أنه دون انخفاض حاد في معدلات المواليد، “لن نتمكن من تطوير اقتصادنا ورفع مستويات المعيشة لشعبنا”.
ومع ذلك، فإن التقارير الأخيرة الواردة من وكالة Associated Press والباحث الأكاديمي البارز في الشؤون الصينية، أدريان زينز، حول عمليات التعقيم الإجباري المفروضة على الأقلية الإيغورية المقموعة في الصين يجب ألا تدع محلاً لاستخدام هذه الذريعة الفاسدة مرة أخرى، فإذا كانت سياسة الطفل الواحد صُممت لتعزيز النمو الاقتصادي ولتحقيق مصلحة المواطنين ورفاهيتهم، فلماذا تعمل بكين على نحو حثيث على قمع الإنجاب بين الإيغور -وهم مواطنون صينيون- في حين أن معدل المواليد في البلاد قد انخفض إلى أدنى مستوى له في 70 عاماً، وهو ما يهدد النمو في المستقبل؟ لماذا يطلب الحزب من الهان الصينيين أن يكون لديهم عدد أكبر من الأطفال، في الوقت نفسه الذي يعمل على تعقيم أعداد أكبر من نساء الإيغور تزيد في مجموعها على عدد سكان مدن أمريكية كاملة؟
سياسة التحكم في الأرحام
الجواب، بطبيعة الحال، هو أن سياسات تحديد النسل في الصين دائماً ما كان محورها مزيداً من التحكم أكثر من كونها متعلقةً بتقليل عدد المواليد، فقد كان أولئك الذي صاغوا سياسة الطفل الواحد يحملون دوافع “فوقية” تفتقر إلى أي إيمان بقدرة البشر على اتخاذ خيارات صحيحة، ومن ثم كانوا أشد اهتماماً بالحفاظ على السلطة والتحكم من المساعدة حقاً في انتشال الناس من الفقر، ولهذا السبب قاوم قادة الصين منذ مدة طويلة كلَّ الدعوات لإنهاء تلك السياسة، رغم أن الاقتصاديين لطالما حذروا من أنها تُقلّص القوى العاملة في الصين وتُضعف الإنتاجية العامة وتقود البلاد نحو مشكلة مستقبلية متعلقة بنقص المعاشات التقاعدية، لكن البديل بالطبع كان يعني التخلي عن أداة قوية للسيطرة الاجتماعية (بالإضافة إلى كونها أداة جرى الاعتماد عليها بدرجة موثوقة لتحصيل ما لا يقل عن 3 مليارات دولار سنوياً كغرامات على انتهاكها، باعتراف بكين).
وفي غمار السعي لفهم سياسات الدولة الصينية الصارمة للتحكم والسيطرة على أرحام مواطنيها، ستسمع العديد من القصص المخيفة: عن النساء اللواتي أُجبرن على إجراء عمليات إجهاض في وقت متأخر من الحمل مثل الشهر السابع، وستسمع من مسؤولين سابقين كيف حاصروا وطاردوا النساء الحوامل مثل فرائس، ومن الأمهات اللواتي سيروين لك القهر الذي خضعن له وقتل أطفالهن، والجزء الأكبر من هذه القصص، إن لم يكن كلها، شمل غالبية السكان من عرق الهان، الذي كانوا يخضعون لقيود أشد صرامة من تلك التي خضع لها سكان الأقليات العرقية الأخرى في الصين، ومنهم سكانها من الإيغور.
الآن تتغير المقاييس، ما يحدث في شينجيانغ فاق كل حد. وفقاً للباحث في الشؤون الصينية، أدريان زينز، خضعت مقاطعتان من الإقليم لعملية تعقيم قسرية لنسبة 14% و34%، على التوالي، من نسائها اللواتي في سن الإنجاب، في عام واحد. وبقياس الإجمالي على مجموع عدد السكان، تمثل عمليات التعقيم القسري تلك أكثر مما قامت به الصين طيلة العقدين الماضيين. وتروي نساء الإيغور اللواتي احتُجزن في معسكرات الاعتقال أن السلطات حقنتهم بعقاقير غيّرت أو أوقفت دورات الطمث.
كما ذكرت عديد من وسائل الإعلام أن نساء الإيغور أُجبرن على استخدام وسائل منع الحمل، وفي عام 2018، كانت نسبة 80% من وسائل اللولب الرحمي التي استُخدمت حديثاً في الصين قد فُرض زرعها في أرحام نساء شينجيانغ، وذلك رغم أن تلك المنطقة لا تشكل سوى 1.8% من سكان البلاد، وفقاً لما توصل إليه زينز استناداً إلى تحليل لوثائق صينية رسمية.
الإبادة الجماعية كلمة بشعة، ومع ذلك فإنها تصدق ويجب تعميمها للإشارة إلى ما يحدث في شينجيانغ، التي باتت هدفاً لسياسات أشد قمعاً في أعقاب الاضطرابات التي أسفرت عن مقتل وإصابة مئات في المنطقة في عام 2009. إذ منذ ذلك الحين، تشنُّ بكين حملة مكثفة للقضاء على ثقافة الإيغور، تضمنت نقل نحو مليون مسلم من الإيغور إلى معسكرات اعتقال لـ”إعادة تأهيلهم”، وهدم المساجد وإخضاع السكان لمراقبة صارمة على غرار دولة “الأخ الأكبر” في رواية أورويل 1984، وفصل أطفال الإيغور عن آبائهم.
تحسين النسل أم إبادة جماعية؟
علم تحسين النسل هو كلمة قبيحة أخرى. إذ تدور هي وكلمة الإبادة الجماعية حول الفكرة البغيضة المتمثلة في ضرورة القضاء على بعض مجموعات الجنس البشري، أو التخلص منها. كان علم تحسين النسل أساساً لسياسة الطفل الواحد التي اختار عديد من المعجبين بها تجاهله. كان الشعار العام لتلك السياسة هو نيتها المعلنة في “رفع الجودة وتقليل الكم”، ومن ثم أصدرت الصين في عام 1995، “القانون الوطني لصحة الأمهات والرضع”، الذي يحظر على الأشخاص الذين يعانون الإصابة “بأمراض وراثية ذات طبيعة خطيرة” الإنجاب (وقد شملت تلك الأمراض حالات الإعاقة الذهنية ونوبات الصرع وغيرها).
ومع ذلك، اختارت الأمم المتحدة في عام 1983 أن تمنح الصين ميدالية ذهبية تقديراً لسياساتها السكانية. وليس عليك سوى أن تتخيل أن يجادل بعض العلماء البارزين اليوم بأن محرقة الهولوكوست كان لديها بعض الجوانب الجيدة، مثل تعزيز تصنيع الشحوم والأسمدة، وأن العبودية الأمريكية، رغم كل شرورها، قدمت إسهاماً إيجابياً في النهضة الاقتصادية العظيمة في ولايات جنوب الولايات المتحدة. لا، بدلاً من القول “نعم، لقد انتهكوا حقوق الإنسان، ومع ذلك…”، يجب علينا فقط القول: “لقد انتهكوا حقوق الإنسان”، على نحو فاضح، وبطريقة مروعة.
أدت سياسة الطفل الواحد إلى خلل فادح وافتقار واضح إلى التوازن في نسب السكان، الذي باتوا عبارة عن كثير من الذكور كبار السن غير الكافيين لتعديل الكفة. لقد مالت اختلالات التوازن بين الجنسين والعمر إلى حد أنه في أقل من عقد من الزمن، سيكون عدد العزاب الصينيين أكثر من مجموع عدد الأستراليين، وعدد المتقاعدين الصينيين أكثر من عدد سكان أوروبا الغربية. وتشير بيانات الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية إلى أن العجز في المعاشات التقاعدية في الصين بلغ نحو 540 مليار دولار. كما يقول نساء عرقية الهان الصينيات إن سياسة الطفلين التي تنتهجها الدولة والدعاية المصاحبة لها تضع ضغطاً إضافياً عليهم لتعويض تقلص قوة العمل، كما فاقمت من ممارسات التمييز في أماكن العمل. فضلاً عن أن ندرة النساء في الريف الصيني، أفضت إلى ازدهار العبودية الجنسية والاتجار بالبشر.
ومع ذلك، لا تزال استجابة بكين الأولى لهذا الانخفاض الديموجرافي تميل إلى الترهيب أكثر من الرغيب، سياسات مثل الوصم الاجتماعي والقيود على الطلاق والإجهاض وورش العمل التي ترعاها الدولة لتشجيع القبول بالقيادة النسائية والمزيد من الحديث عن الغرامات، وهذه المرة على عدم إنجاب المزيد من الأطفال.
الحقيقة المحزنة هي أن القيود الصارمة لسياسة الطفل الواحد لم تكن ضرورية لتحقيق الازدهار الاقتصادي. وواقع الأمر أن النمو الاقتصادي الملحوظ في الصين والقضاء على الفقر يرجع بدرجة أكبر إلى إلغاء القيود المفروضة على الشركات المملوكة للدولة، أكثر مما يرجع إلى قيود وسياسات تحليل النسل.
وقد تمكن عديد من البلدان الأخرى، ومنها ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايلاند، من إبطاء معدلات النمو السكاني ورفع معدلات الازدهار والنمو الاقتصادي في الوقت نفسه مثل الصين، دون تعريض شعوبها لصدمة عابرة للأجيال كهذه.
في الواقع، الأدلة واضحة على أننا يمكننا تقليل معدلات الزيادة السكانية دون الإقرار بأي شيء وحشي، مثل سياسة الطفل الواحد، أو مثيلتها الأشد وحشية، الإبادة الجماعية في شينجيانج.