كيف تنظر واشنطن إلى تصريحات نتنياهو ضد إيران؟
تستصيف إسرائيل في الأسابيع الأخيرة عدداً من كبار الشخصيات في جهاز الأمن الأمريكي، وكانت ذروة سلسلة الزيارات أول أمس بمجيء رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي، الجنرال مايك ميلي، كضيف على رئيس الأركان افيف كوخافي.تحرص الدولتان على التأكيد بأن شبكة العلاقات بين المستويات المهنية أفضل ووطيدة بشكل خاص اليوم. ولكن يبدو أن هناك اعتبارين آخرين يقفان خلف القطار الجوي ولا يتم التحدث عنهما علناً، وكلاهما يتعلقان بتهدئة المخاوف، الخوف الإسرائيلي من انسحاب أمريكي، وخوف أمريكي من عملية غير منسقة من الجانب الإسرائيلي.
يرتبط القلق الإسرائيلي بالخطوات الأخيرة للإدارة الأمريكية، والامتناع عن الرد على الهجوم الإيراني في الخليج حتى الآن، والذي شمل ضربة شديدة لمنشآت النفط السعودية وإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار باهظة الثمن، وبعد ذلك قرار الرئيس إخلاء الجنود من المنطقة الكردية في شمال شرق سوريا، الذي مهد الطريق لغزو تركي. تخاف إسرائيل من التوجه الذي يلوح في الأفق لانسحاب أمريكي من المنطقة، والذي سيترك لإيران مجالاً أكبر للعمل، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية.
يبدو أن الأمريكيين في المقابل قلقون من القرارات التي يمكن أن تتخذ في إسرائيل، فالقيادة الإسرائيلية تتحدث دون توقف عن الأخطار المحدقة من محاولات إيران التمركز العسكري في جنوب سوريا، وعن تهريب سلاح متطور لحزب الله في لبنان، وعن جهود التعاظم الإيراني في العراق واليمين. إن احتكاكاً عسكرياً متزايداً بين إسرائيل وإيران وأدواتها يمكن أن يجر الأمريكيين إلى حرب إقليمية لا يريدها ترامب.
هذه الأقوال تذكر قليلاً بعدة زيارات سابقة لكبار شخصيات البنتاغون إلى إسرائيل، في أشهر صيف 2011، وبعد ذلك في صيف 2012، وفي هاتين النقطتين الزمنيتين، كتب فيما بعد أن قيادة إسرائيل فحصت هجوماً مستقلاً على المنشآت النووية الإيرانية، فيما أرسل الجنرالات لجس النبض لدى نظرائهم الإسرائيليين الذين عارضوا خطوات رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع في حينه إيهود باراك وتحفظوا من الهجوم.
حسب معرفتنا، فإن هجوماً كهذا خارج الأجندة الآن، لأن إيران لا تزال ملتزمة مبدئياً بالاتفاق النووي مع الدول الخمس العظمى (السادسة “الولايات المتحدة” انسحبت منه في أيار السنة الماضية) ولم تتجاوز خروقات الاتفاق الحدود التي تعتبر محتملة. مع ذلك، تعدّ التصريحات الإسرائيلية الأخيرة بخصوص إيران عدوانية بشكل خاص.
أول أمس، زار نتنياهو ووزير الدفاع نفتالي بينيت الحدود مع سوريا ولبنان، وأعلن نتنياهو بأن إسرائيل ستحبط نقل السلاح من إيران إلى سوريا، وستوقف محاولات “تحويل العراق واليمن إلى قواعد لإطلاق الصواريخ”. وأضاف بينيت رسالة للقوات الإيرانية في سوريا: “ليس لديكم ما تبحثون عنه هنا”. أمس، في احتفال بالذكرى الرسمية لجنود عملية “كديش” في العام 1956، أعلن الوزير بأنه “من الواضح لأعدائنا بأننا سنرد على كل محاولة لمنعنا من الحياة، وسيكون الرد دقيقاً ومؤلماً، وهذه الأقوال أوجهها لمن يريد قتلنا في الساحة الجنوبية، والشمالية أيضاً”.
أشار الزعماء الإسرائيليون في أقوالهم أيضاً إلى مشكلات داخلية تواجهها قيادة طهران مؤخراً، فثمة موجة اضطرابات كبيرة في العراق واليمن، ترتدي طابعاً مناهضاً لإيران، إلى جانب احتجاج عنيف في إيران نفسها رداً على رفع أسعار الوقود. التحذير من خطوة إيرانية محتملة ضد إسرائيل هو إنذار حقيقي، لكن الاعتبارات الإسرائيلية لا يمكن فصلها عن صورة الوضع الداخلي، فثمة قرار لتقديم نتنياهو للمحاكمة، وطريق مسدود في الاتصالات لتشكيل الحكومة.
خلال سنوات، حظي نتنياهو بالمديح المبرر على المسؤولية وضبط النفس التي أظهرها في استخدام القوة العسكرية، وبالأساس رفضه الحاسم الخضوع للضغوط الشعبوية والانجرار إلى حروب غير مجدية في قطاع غزة. وفي الجبهة الشمالية أيضاً كان قد وجه الأمور على الأغلب بشكل سلس، الأمر الذي منع التصادم الكاسح مع الإيرانيين، ولكن كان له منزلق واحد موثق: قبل أسبوع من الانتخابات الأخيرة، في منتصف أيلول، احتاج الأمر تدخل المستشار القانوني للحكومة، افيحاي مندلبليت (بتشجيع من الجيش) من أجل وقفه عن القيام بعملية في غزة، التي كان يمكن أن تؤدي إلى تأجيل الانتخابات، والتي أراد شنها دون نقاش ممنهج سابق في الكابنت.
سئل شخص كان مطلعاً على أسرار “المعركة بين حربين” التي تعني عملية عسكرية للجيش وراء الحدود: إلى أي درجة يرتبط استمرار المواجهة بين إيران وإسرائيل بنشاطات تقوم بها الأخيرة. الجواب حسب رأيي هو “80 – 20″، أي أن إسرائيل هي التي ستملي بدرجة كبيرة إلى أين ستتطور الأمور. هذا الوضع يحتاج من كل أجهزة الرقابة (لجنة الخارجية والأمن، والمستشار القانوني، ووسائل الإعلام) أن تظهر اليقظة العالية. وبالأساس هو يلقي مسؤولية خاصة على رئيس الأركان كوخافي الذي شهد بعد التصفية الأخيرة في غزة بأن كل القرارات اتخذت بصورة موضوعية ولا تشوبها اعتبارات سياسية.
في ظروف يقلق فيها رئيس الحكومة على مصيره الشخصي، في حين يجب على الوزير الجديد في وزارة الدفاع استغلال الوقت القصير نسبيا ًالذي يملكه للبروز من ناحية سياسية، فإن الأنظار تتجه نحو رئيس الأركان. كوخافي، الذي هو نفسه دفع باتجاه خط هجومي في العمليات الأخيرة في غزة وسوريا، فهو الآن الشخص البالغ المسؤول، كما أن عدداً من كبار الضباط الآخرين في القيادة الأمنية متماهون أكثر منه مع نتنياهو أو يفحصون السيناريو من زاوية تكتيكية تؤكد الحاجة إلى استمرار العمليات الوقائية. رئيس الأركان السابق، غادي آيزنكوت، أظهر صلابة بشكل خاص، فأحياناً كان يبدو أنه متحمس للمعركة مع المستوى السياسي. أما الآن فيقف كوخافي رغم أنفه أمام اختبار مشابه.
الجهاز العسكري لن يكون محمياً تماماً من الاعتبارات السياسية التي تشغل المؤسسة، فهيئة الأركان ليست ديراً والجنرالات يدركون جيداً ما يحدث في الدولة، ولكن قادة الفرق التي زارها بينيت ونتنياهو أول أمس، ومثلهما الطيارون الذين يخرجون إلى مهماتهم الليلية، يجب عليهم أن يكونوا على ثقة بأن القرارات الأمنية التي تتعلق بمسائل الحياة والموت تُتخذ بصورة موضوعية. في المزاج المروع الذي يعيشه نتنياهو والذي تميز مؤخراً بهجمات منفلتة العقال على النيابة العامة والشرطة، فإن الشكوك حول ذلك آخذة في التزايد.
في بداية العقد الحالي، صدم جهاز الأمن قضية وثيقة هرباز التي أساسها مواجهة جامحة بين رئيس الأركان في حينه غابي أشكنازي، والوزير باراك، أما نتنياهو كرئيس حكومة فلم يظهرأي اهتمام في هذه القضية. لقد تذكرها فجأة في السنة الأخيرة، عندما دخل أشكنازي إلى الحياة السياسية، وبدأ مندلبليت (أوشك النائب العسكري الأول على أن يقدم لمحاكمة جنائية على تأخير معالجة الوثيقة المزيفة) يظهر أمامه كخطر حقيقي. في تلك الفترة ثار سؤال كيف يمكن أن يحافظ الجيش على بوصلته القيمية والمهنية، حيث القيادة الأمنية قائمة على الدعم المتبادل؟ هذا السؤال يدوي الآن بصورة أكثر شدة، حيث رئيس الحكومة واقع في مشاكل وأزمة أمنية قد تلتهم كل الأوراق السياسية.