كيف تستفيد بكين من العقوبات الأمريكية وتتلاعب بإيران؟
هل تقف الصين بجوار إيران في مواجهة العقوبات الأمريكية؟ هل تكون بكين هي ملاذ طهران في مواجهة عزلتها المتزايدة؟.
كانت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إلى قمة مجموعة السبع في فرنسا أواخر الشهر الماضي، أغسطس ، مفاجأةً للكثيرين في الغرب. بل ونظر البعض إليها باعتبارها فألاً حسناً.
لكن بالنسبة للقيادة الإيرانية، كانت زيارة ظريف السريعة إلى فرنسا دوماً رهاناً ضعيفاً وفرصتها ضئيلة في تغيير تيار المواجهة الأمريكية-الإيرانية. وتأكَّدت تلك المخاوف في الأيام التالية. إذ لا تزال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترفض رفع العقوبات عن النفط الإيراني، وطهران لن تشارك في مباحثات مباشرة مع واشنطن إلى حين تقديم بعض التخفيف الواضح من العقوبات من جانب الولايات المتحدة أولاً.
غادر ظريف بياريتز خالي الوفاض، إلا من رمزية مشاعر التفاؤل. لكن على أي حال، كانت رحلته التالية واعِدة أكثر، حسبما ورد في مقال نشر مبجلة Foreign Policy الأمريكية كتبه أليكس فاتانكا الزميل الأول بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن والمتخصص بالشأن الإيراني.
نريد ترسيخ الشراكة الاستراتيجية
يقول ألكس قبل وصوله إلى بكين، كان ظريف بالفعل قد كتب مقالاً لصالح صحيفة Global Times الصينية البارزة.
وتُعَد دعوته في هذا المقال إلى ترسيخ ما وصفه بأنَّه «شراكة استراتيجية» مع الصين طموحاً مُتكرِّراً لدى القيادة في إيران.
لكن على الرغم من حاجة طهران العميقة لتقدُّم الصين لنجدتها، فإنَّ الرأي السائد هناك هو أنَّ هناك حاجة لوجود علاقة مختلفة نوعياً مع الحكومة الصينية قبل أن تتمكَّن طهران من إلزام نفسها بأن تصبح ركيزة الصين في غرب آسيا.
غير أن السؤال المطروح هو كيف تنظر الصين إلى مصالحها طويلة المدى في إيران.
هل تقف الصين بجوار إيران في مواجهة العقوبات الأمريكية؟
في ظل الصدام الجيوسياسي الكبير الجاري حالياً بين الولايات المتحدة والصين، ليس من المنطقي كثيراً أن تقبل بكين بأجندة واشنطن لعزل طهران.
في الواقع، انتهك الصينيون علانيةً بالفعل العقوبات الاقتصادية على إيران بمواصلتهم شراء النفط الإيراني، إلى جانب أمور أخرى.
ويذهب بعض المراقبين إلى حد التنبؤ بخطة إنقاذ مالي صينية كاملة لتخليص إيران من براثن إدارة ترامب.
فقد كتب الكاتب روبرت كابلان مؤخراً في صحيفة The New York Times الأمريكية: «إيران جوهرية في خطط الصين، تماماً كما أنَّ الصين جوهرية بالنسبة لمصير أوراسيا».
إنها أكبر شركاء إيران التجاريين
ولا شك في أنَّ بكين تنظر إلى إيران باعتبارها أصلاً ممتازاً في غرب آسيا. فهي دولة تتمتع بموارد طبيعية من الدرجة الأولى، وكثيراً من رأس المال البشري، وسوقاً متعطشة وبِكر نسبياً. وتُعَد الصين بالفعل أكبر شركاء إيران التجاريين، وكميزة إضافية.
تُعَد إيران أيضاً دولة مُغرِّدة سياسياً خارج سرب الساحة العالمية يمكن، من خلال صيغة العلاقات المناسبة، أن تصبح دولة عميلة أو زبونة للصين بصورةٍ ما.
ببساطة، لا يوجد من وجهة نظر الصين سببٌ يجعلها ترغب في نجاح سياسة أقصى درجات الضغط التي تفرضها إدارة ترامب على إيران. مع ذلك، هذه ليست كامل القصة. فالعلاقات بين الطرفين أعقد مما قد يُعتَقَد للوهلة الأولى.
وهي واحدة من أهم الدول في طريق الحرير
فمنذ مطلع الألفينات، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري وزبون لنفط إيران، ويمتد التعاون إلى مبيعات الأسلحة وتحقيق التوازن الاستراتيجي في مواجهة الولايات المتحدة. وحدَّد المُخطِّطون الصينيون إيران باعتبارها واحدة من أهم الدول في الربط بين آسيا وأوروبا عبر مبادرة الحزام والطريق.
وتُعَد مبادرة الحزام والطريق هي مبادرة السياسة الخارجية الرائدة في حقبة الرئيس الصيني شي جين بينغ. والهدف النهائي من المبادرة هو إعادة هيكلة منظومة قواعد التجارة العالمية وممارسات الاستثمار لتتحول إلى منظومة أكثر مواتاة للصين. وتهدف كذلك لإبراز القوة الناعمة ووضع أساسات الهيمنة الصينية في أوراسيا.
600 مليار تبادل تجاري مستهدف
وُضِعَ الجزء الأكبر من رؤية التعاون الصيني-الإيراني خلال زيارة الدولة التي أجراها الرئيس شي إلى طهران عام 2016.
إذ اتفق البلدان على رفع حجم التجارة بينهما إلى 600 مليار دولار في خلال فترة 10 سنوات، وفي الوقت نفسه بناء تعاون أقوى كجزءٍ من خطة تمتد 25 عاماً.
وبالإضافة إلى التجارة، تقود الصين المستثمرين في السوق الإيرانية. إذ تستثمر نحو 100 من كبار الشركات الصينية في القطاعات الاقتصادية الرئيسية بإيران، خصوصاً الطاقة والنقل. على سبيل المثال، تعيد المؤسسة الوطنية النووية الصينية تصميم مفاعل آراك IR-40 للماء الثقيل لتلبية متطلبات حظر الانتشار النووي كجزء من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
وقدَّمت الحكومة الصينية قرضاً بـ10 مليارات دولار لشركاتٍ صينية من أجل بناء سدود ومولدات للطاقة ومنشآت بنية تحتية أخرى في إيران، مثل إقامة ربط سكك حديدية مؤخراً بين مدينة بايانور في منطقة منغوليا الداخلية في الصين وطهران. وتتضمَّن مشروعات النقل الأخرى بناء أو تمويل خطوط سكك حديدية تصل إلى مدينة مشهد شرقي إيران وإلى ميناء بوشهر المطل على الخليج.
وتريد الصين أيضاً المساعدة في تسريع بناء ميناء جابهار المطل على خليج عُمان، وهو مشروع كان يهدف في البداية للتعاون مع الهند. وتتمثَّل إحدى الأمثلة البارزة الأخرى في 5 خطوط مترو في طهران، كلها تُبنى على يد شركات صينية. وتُصنَّع عربات السكك الحديدية من جانب شركة إيرانية-صينية مشتركة، تُسمَّى Tehran Wagon Manufacturing Company.
وفي المجالات الأخرى، أصبحت شركات الطاقة الصينية جهات تطوير مهمة لحقول النفط والغاز في إيران، ولو أنَّها ما زالت تفتقر إلى بعضٍ من أحدث التقنيات المُتاحة لدى الشركات الغربية.
وتملك إيران ثاني أكبر احتياطي للغاز (بعد روسيا) وواحداً من أكبر احتياطيات النفط الخام في العالم. ووفقاً لوزارة النفط الإيرانية، أقدمت الصين على «إعادة المشاركة» في ثلاثة مشروعات طاقة كبرى في إيران في أغسطس/آب الماضي: حقل بارس الجنوبي، الذي يُعَد الأكبر في العالم وتتشاطره مع قطر، وحقل يادافاران النفطي على الحدود مع العراق، وتطوير محطة جاسك النفطية الواقعة شرق مضيق هرمز. ولا شك أنَّ الصين استفادت اقتصادياً من غياب شركات الطاقة الغربية في إيران بسبب الضغوط الأمريكية.
وظريف تجاهل القمع الصيني لمسلمي الإيغور
وعلى حد تعبير ظريف، فإنَّ الصين وإيران «شريكتان استراتيجيتان.. لا غنى عنهما على جبهاتٍ عدة».
وناشد وزير الخارجية الإيراني في زيارته الأخيرة بكين تعزيز العلاقات حتى تتمكن الدولتان من معالجة مجموعة من القضايا، بما في ذلك التصدي للتطرُّف والإرهاب. وفي حين أنَّه لم يقم بإشاراتٍ إلى حملة القمع الصينية الجارية والمثيرة جداً للجدل على عِرقياتٍ مسلمة في إقليم شينجيانغ.
بينما كان ظريف واضحاً في انتقاده السياسات الأمريكية. وقال: «كلانا نواجه العداء الخارجي من جانب التعصُّب الشعبوي ذي النزعة الأحادية»، في إشارة جلية لإدارة ترامب.
وفي فكر ظريف، ينبغي على الصين مواجهة تحدي إنهاء التعصب الأمريكي المُفتَرَض حول العالم، وستكون إيران سعيدة للدفع بدعمها خلف كهذا مسعى. وبعد انتقاد قرار إدارة ترامب التخلي عن الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، طلب ظريف صراحةً دعم بكين الفوري لإبقاء الاتفاق حياً.
وقال: «الكيفية التي نرد بها على نهج الحد الأقصى الأمريكي هذا، وذلك الانتهاك السافر للالتزامات والقوانين الدولية، قد يكون لها أثر واضح على قدرتنا على التوصُّل إلى تلك الرؤية المشتركة لمستقبل قارتنا».
وخاطب التعاطف الصيني من خلال تسليط الضوء على الحرب التجارية الأمريكية-الصينية باعتبارها مثالاً رئيسياً على كيف أنَّ الأحادية الأمريكية تُمثِّل خطراً على ما أسماه النظام الدولي «المستند إلى القواعد».
لقد أصبحنا أسرى لهم لتجارة النفط الرخيص
مع ذلك، كان الشعور بالارتياب من رد فعل الصين على خطابه جلياً في نفس الكلمات التي قالها ظريف. إذ كانت دعوته إلى «أساسٍ قوي لعلاقاتٍ اقتصادية تفيد كلا الطرفين» تُمثِّل نظرة خاطفة على المخاوف الإيرانية من أنَّ العلاقات الاقتصادية القائمة تميل لصالح الصين.
ويتحسَّر المسؤولون الإيرانيون سراً على حقيقة أنَّ الضغوط الأمريكية على إيران حوَّلت اقتصادهم إلى زبونٍ أسير لبكين. فصيغة النفط الخام الإيراني مُخفَّض السعر الذي يذهب للصين في مقابل أيٍ كان ما ترغب الصين في عرضه على إيران لا تلائم الرؤية الإيرانية للشراكة الاستراتيجية.
في المقابل، حثَّ ظريف الصينيين على السماح لإيران «بالمساهمة بفعالية في خطة الصين لبناء قاعدة رائدة على مستوى العالم في العلوم والتكنولوجيا والابتكار».
وكان هذا طلباً إيرانياً لتضمين طهران في ما حكم الكثيرون هناك عليه بوضوح باعتباره عصراً ذهبياً صينياً لم يبرز كاملاً بعد.
وفي سعيها لإغراء الدولة الصينية، يُقال إنَّ طهران مستعدة لإلغاء متطلبات التأشيرة أمام السائحين الصينيين. وليس هذا إلا أحدث فصل في سياسة «التطلُّع شرقاً» الإيرانية، التي تُعَد قديمة قِدَم الجمهورية الإسلامية نفسها.
الصين تستغل أخطاء ترامب
من السهل رفض سياسة «التطلُّع شرقاً» باعتبارها مجرد ضرورة بحتة بالنسبة لدولة لطالما رفضت الغرب. لكن لا يوجد أدنى شك في أنَّ الصين مستعدة على نحوٍ متزايد لاستغلال ولع إدارة ترامب بالتحرُّك أحادياً من أجل ترسيخ سُمعة بكين باعتبارها شريكة مسؤولة. وبالتالي ستلعب الصين ورقة إيران بما يتماشى مع هذا. فستملأ الفراغ التجاري والاستثماري الذي تركته الشركات الغربية التي غادرت إيران، وتُشجِّع على تجارة أكبر يهيمن عليها اليوان الصيني. وعلى الصعيد السياسي، سيستغل الصينيون المواجهة النووية للمحاججة بأنَّ النهج متعدد الأطراف هو السبيل للمضي قدماً لحل التوترات في الشرق الأوسط. ولا يُمثِّل هذا صفعة للأحادية الأمريكية فقط، بل تخشى بكين حقاً من نشوب صراعٍ أوسع في الشرق الأوسط، وهو ما من شأنه تعطيل وارداتها من الطاقة.
ولكنها بكين لاتعتبر طهران أقرب أصدقائها
أما وقد قلنا هذا، فإنَّ الصين لا تُفكِّر في إيران باعتبارها أقرب أصدقائها.
فحتى حين تسارعت العلاقات الإيرانية-الصينية بسرعة في العقد الأول من الألفية الثانية، حين حلَّت الصين محل ألمانيا كأكبر شركاء إيران التجاريين، إذ كانت الصين لا تزال تولي اهتماماً وثيقاً بحساسيات واشنطن تجاه إيران.
وحتى آخر الأرقام الاقتصادية للأشهر الخمسة الأولى من عام 2019 تُظهِر أنَّ تجارة الصين مع إيران تراجعت بصورة كبيرة مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، حين لم تكن الولايات المتحدة قد فرضت عقوباتها على إيران بعد.
وهي تتحفظ على إنضمام إيران لمنظمة شنغهاي
لكن لا يُصاغ كل شيء في العلاقات الإيرانية-الصينية نتيجة للتحركات الأمريكية. ولنأخذ مثلاً موقف الصين الأخير من محاولة إيران طويلة الأمد الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تقودها روسيا والصين كدولة دائمة العضوية.
فالإيرانيون ليسوا متأكدين من انفتاح الصين على الفكرة. إذ رفضت المنظمة مراراً بدء محادثات الانضمام مع طهران، الأمر الذي أحبط إيران كثيراً.
إنها تخشى السعودية وإسرائيل
مع ذلك، ليس خفياً عن إيران أنَّ الصين لديها علاقات مع كل دولة في الشرق الأوسط –بما في ذلك منافسو إيران في إسرائيل والسعودية- وهو الإنجاز الذي قد يتعرَّض للخطر في حال اقتربت بكين من طهران أكثر من اللازم.
ببساطة، على الرغم من مناشدة ظريف الحثيثة للقيادة الصينية، لا تتوقع طهران من الصين الانحياز إليها ضد الولايات المتحدة بأي ثمن.
ومن المتوقع أن تلعب الصين بأوراق إيران بحذر. لكنَّ الإيرانيين يأملون أن يستمر الخلاف الأمريكي-الصيني ويُوفِّر بعض الفرص لطهران.
ومن منظور بكين، ستكون الآثار قصيرة المدى لقرار واشنطن الانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015 مختلطة. فبسبب التأثير العالمي لتجدد العقوبات الأمريكية، سيملك الإيرانيون أموالاً أقل لشراء البضائع الصينية، وهناك مخاطرة إمكانية أن يؤدي الانسحاب لاستئناف إيران برنامجها النووي، الأمر الذي يزيد احتمالية نشوب صراع عسكري في الخليج.
وقد تستفيد من العقوبات الأمريكية
مع ذلك، سيحتاج الإيرانيون في الوقت نفسه المزيد من القروض والاستثمارات من الصين، وعلى الأرجح سيكونون مستعدين ليعرضوا على الصين مشتريات النفط الإيراني بخصومات مستمرة.
وعلى الأرجح سينظر صانعو السياسة الصينيون الذين يتبنون منظوراً طويل المدى إلى فرص تحقيق مكاسب أكبر من وجود إيران مُستعداة من الغرب ومعتمدة على الدعم الاقتصادي والأمني الصيني.
وسيتمثَّل أحد المؤشرات الأولى على نهج بكين تجاه قضية العقوبات الإيرانية في الكيفية التي ترد بها الصين على مطالب إدارة ترامب لها بوقف استيراد النفط الإيراني بعدما انتهت الإعفاءات التي سمحت لها سابقاً بمواصلة وارداتها في مايو/أيار الماضي.
وإذا ما كانت بكين ستتخذ موقفاً أكثر جرأة دفاعاً عن إيران وتحدياً لواشنطن، كأن تُوفِّر شبكات مالية بديلة للأوروبيين والإيرانيين للمساعدة في تفادي العقوبات الأمريكية، فإنَّ ذلك قد يشير إلى أنَّ التقديرات الصينية هي أنَّ إدارة ترامب نمرٌ من ورق، وأنَّ استراتيجية الولايات المتحدة تجاه إيران لن تكون إلا حملة مؤقتة.